“فيزياء الحزن” لغيورغي غوسبودينوف مغارة تغص بقرون من العتمة والدموع


تهامة الجندي

“أنا أُولد دائمًا، ولا أزال أذكر بداية العصر الجليدي، ونهاية الحرب الباردة، وكان منظر موت الديناصورات في كلا العصرين واحدًا من أقسى ما شهدتُ”. يكتب غيورغي غوسبودينوف، في بداية روايته (فيزياء الحزن) ليفتح صفحاتها على دهاليز الذاكرة ومجازات اللغة متأملًا في صور العزلة والدروب الموصدة التي رسمها قدر أشبه بالمتاهة، استولى على حياته وعلى حياة بلده الذي وًصف ذات يوم بأنه أكثر البلدان تعاسة في العالم.

وغيورغي غوسبودينوف واحد من أهم الأدباء في المشهد الثقافي البلغاري. وُلد عام 1968، وله العديد من الكتب في الشعر والقصة القصيرة والرواية، بعضها تُرجم إلى ما يزيد على عشرة لغات أجنبية. أما روايته الشهيرة (فيزياء الحزن) التي صدرت عام 2012 عن دار “جانيت 45” في صوفيا، ونالت الكثير من الجوائز الأدبية، فقد ترجمتها إلى العربية نيدليا كيتفا، وصدرت عن دار (أثر) السعودية، في العام الماضي.

تبدأ الرواية بولادة الكاتب عند شروق الشمس في عدة أزمنة وعدد من الشخصيات، وتنتهي بموته عند الغروب في كل العصور والأجيال، وبين اللحظين الفارقتين تتداخل حياته بحياة جده وأبيه، ويتداخل ضمير المتكلم بصيغتي المفرد والجمع مع ضمير الغائب في رحلة ملتبسة، تمتد منذ أوائل القرن العشرين وحتى سنة صدور الرواية: “امتلأت قربة الخوف وفاضت. سالت الدموع على وجنتيّه، على وجنتيّ، وامتزجت مع ذرات الدقيق التي تغطي الوجه. ماء، ملح، طحين. عُجن رغيف الأسى الأول، الرغيف الذي لا ينفق أبدًا. رغيف الحزن، الذي سوف يغذينا في كل السنوات اللاحقة، طعمه المالح على الشفاه، يبتلعه جدي، أبتلعه أنا، وكلانا في سنتنا الثالثة”.

الجد الذي وُلد مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وغدا في شبابه أحد جنود الحرب العالمية الثانية، ثم فقد القدرة على النطق، والابن الذي وُلد مع قيام الدولة الشيوعية في بلغاريا، وعاش خائبًا وصامتًا، والحفيد الذي فتح عينيّه في ظل الحكم الشمولي، وخبر ضيق الحياة في طفولته وأثناء دراسته وأدائه الخدمة العسكرية الإلزامية، ثم شهد السقوط السلس للنظام عام 1989، وعانى من إخفاقات الثورة.

ثلاثة أجيال نقرأ في سيرتها الشخصية تاريخ بلغاريا المعاصر بمنعطفاته الأساسية ما قبل الشيوعية، وفي ظلها، ومن بعدها، وعلى حد تعبير المؤلف فإن بلده المنسي الفقير شهد الاحتلال والحروب الساخنة والباردة وهيمنة الدول الكبرى، ولم يشهد أحداثًا احتجاجية صاخبة كتلك التي عصفت في دول أوروبا الشرقية، ولم تحمل له ثورته البيضاء أثرًا يُذكر على حياة الناس، بقدر ما زادت من فرص بؤسهم ووقوعهم في شرك تجار الحنين إلى الماضي الشيوعي والعصبية القومية.

ويختصر غوسبودينوف المشهد الحزين بقوله: “جمجمتي مغارة، تغصّ بقرون من العتمة”، وحين يضيء قرون العتمة بقلمه، لا يعتمد الحبكة النمطية، ولا أسلوب السرد التقليدي، بل يترك صوته يتداخل بأصوات الآخرين، ويترك تداعياته وتأملاته تتناسل من تلقاء نفسها، يضع شظايا ذاكرته في جمل شعرية مقتضبة، وفقرات قصيرة، تؤلف مشهدًا كثيفًا، شديد الإيجاز، عميق البلاغة والدلالات، يحمل عنوانه المستقل، ينفصل عن سواه بموضوعه القائم بذاته وزمنه الخاص، ويتصل مع باقي المشاهد بالمناخ الروائي العام.

عناوين مستقلة ومتصلة، من الصعب تصنيفها في إطار جنس أدبي محدد، تأتينا بنصوص مفتوحة، تختلط في نسيجها الوقائع والأحداث بالمخيلة القصصية، يستقيها المؤلف من تجربته الذاتية وتجارب من حوله، من الروايات والأساطير التي سمعها أو قرأها في طفولته وشبابه، من قصاصات الجرائد التي كان يواظب على جمعها، من الهواجس التي تشغل العالم كموعد فناء البشرية، أو فلنقل هي الحياة بمختلف مفرداتها وهمومها الصغيرة والكبيرة، تخضع لإعادة النظر والتشكيل والتأويل بأسلوب شعري خاص: “الرنين المغناطيسي، تلك الحبة البيضاء الضخمة، حيث يقطّعون دماغكَ إلى شرائح رقيقة، ويختلسون النظر على كل أسراره”.

والنصوص تتحرك وتكتمل باتجاه الدفاع عن قضايا الحرية والعدالة والسلم بوصفها إشارات ومؤشرات لاختبار أخلاق البشر وضمير الإنسانية، وأكثر ما يؤرق المؤلف هو الطفولة المعذبة والأطفال المنسيون، المتروكون لقدرهم، ضحايا الفقر والعنف والحروب وإهمال الوالدين، أحلام هؤلاء الأبرياء الصغار، هواجسهم ومخاوفهم تتصدر صفحات الكتاب في أكثر من موقع عبر طفولة الجد والكاتب، وعبر البكاء الذي “هو زفرة الخوف العالية الطويلة”.

يبدأ انتهاك حقوق الإنسان من انتهاك حقوق الطفولة، ويتكرس لاحقًا في أبشع صور الطغيان والفساد الخلقي، وتبدو هذه الفكرة جلية في الأسطورة اليونانية القديمة (المينوتور) التي توقف الكاتب طويلًا عندها، وبحسب الأسطورة، فإن الإله طلب من الملك أن يقدم له ثوره المفضل كقربان، وحين عصا الملك الإرادة الإلهية عوقب بأن ضاجعت زوجته الثور، وولدت مخلوقًا بوجه ثور وجسد بشري، فقرر الملك غسلًا لذنبه وعاره إخفاء ابنه المشوّه في قبو قصره الذي يتخذ شكل متاهة لا يمكن الخروج منها، وبقي الطفل وحيدًا في المتاهة يعاني العزلة والإهمال إلى أن تمت تصفيته، وأصبح قاتله رمزًا للبطولة والدفاع عن الخير.

والسؤال عن مغزى صمت الجميع على جريمة التخلي عن الطفل المينوتور وقتله، ثم تمجيد قاتله سوف يستحوذ على مخيلة الكاتب، منذ أن سمع الحكاية في صغره من جده، وأثناء بحثه عن الإجابة سوف يكتشف الكثير من المظالم بحق من ليس لهم ذنب ولا قوة تحميهم، وسوف يقف إلى جانب أولئك الخاسرين في معارك شرسة، لم توفر لهم الحد الأدنى من فرص التكافؤ أو النجاة، يتأملهم ويتأمل مصيره بينهم، ويكتب الحزن الذي يوَحد البشر.




المصدر