لماذا أطلق السوريون لحاهم؟


منصور حسنو

تُعدّ ظاهرة التحولات، على مستوى الفرد أو الجماعة، من أعقد الظواهر الاجتماعية التي تعقب الثورات أو الاضطرابات الاجتماعية والصراعات، وقد اختلفت مدارس علم الاجتماع وانقسمت في طريقة دراسة الظاهرة الاجتماعية؛ إذ يصعب الوصول إلى حتمية علمية في تفسير ظاهرةٍ ما، وقت السلم والاستقرار، فكيف إذا كانت تلك الظاهرة وليدةَ حالات من الاضطراب والانقسام المجتمعي؟

مع انطلاق الثورة السورية وتحولها من حالة السلم إلى العنف، لوجود أسباب موضوعية لهذا التحول المفهوم نتيجة عنف السلطة موضوع الثورة أساسًا، والتحرر من عنفها، والتخلص من أربعة عقود من الظلم والقهر؛ بدأ المجتمع السوري ينقسم على مستوى البنية والوظيفة والشكل، وهو أخطر انقسام عرفته ثورة في التاريخ؛ ما يجعل دراسة هذا المجتمع بعيد الثورة من أصعب الدراسات.

اللحية تمثل -بيولوجيًا- المرحلة التي يدخل فيها الفرد مرحلة ما بعد الطفولة، فالمراهقة فالشباب، ويمثل ظهور شعر الذقن علامة من علامات الشعور بالنضوج عند الإنسان، كونه يعيش حالة التحول إلى سن البلوغ والرشد، وفي المجتمع العربي عمومًا والسوري تحديدًا، فإنّ لشعر الذقن أو اللحية تفردًا في المعاني والدلائل يختلط فيها الديني والسياسي. فاللحية في بعض المجتمعات العربية علامة من علامات الالتزام بالسنّة وعدم التشبه بالنساء واليهود كما في حديث الرسول، وحلقها وإزالتها نهائيًا علامة من علامات الحداثة والعصرنة والتقدم، كما في الأيديولوجيا البعثية، فإطلاق اللحية ممنوع، بحسب نظام شبيبة الثورة في المدارس الإعدادية والثانوية، وفي مؤسسات الجيش ومؤسسات البعث، وتعززت هذه الرؤية البعثية للحية ووجوب حلقها بصريح العبارة أو بدلالات الإشارة، بعد الصراع بين السلطة البعثية المهيمنة على مقاليد ومفاصل الدولة والمجتمع وبين حركة الإخوان المسلمين ذات التوجهات الدينية المحافظة.

لقد كانت اللحية في الثمانينيات علامة وتهمة تستدعي القيام بدراسة أمنية من قِبل أجهزة السلطة على مُطلقها، بحسبان أنها علامة على “الأخونة” حتى يثبت العكس، وكثيرًا ما تم توثيق حالات لمعتقلين من الإخوان تم إشعال النار بلحاهم أثناء التحقيق والتعذيب.

لقد أصبح الشعب السوري نهاية الثمانينيات شعبًا بلا لحى، وكان حلق اللحية في سورية عادة اجتماعية سياسية تختلط فيها الأيديولوجيا بالبيولوجيا، وكانت الفئة التي تظاهر بلحيتها هي من طبقة رجال الدين المتحالفة مع السلطة، وليست السياسة مفردة من مفردات عملها بتاتًا، وكان الشيخ عند خدمته العسكرية يحتاج إلى موافقة أمنية لعدم حلق اللحية.

اللحية -في الشرق والمجتمعات الأبوية- علامةٌ من علامات القوة والشجاعة والرجولة، وعندما استطاع الأسد الأب القضاء على أي حركة شجاعة يمكنها أن تقف بوجهه، عمد إلى تأنيث المجتمع وترويضه بمعنى من المعاني، فقد أراد حصر الرجولة والفحولة في أسرته ووريث عرشه، فعمد إلى تقديم ولده باسل ليس شابًا يتفرد بلحية في هذا المجتمع المؤنث فحسب، بل فارسًا أيضًا يمتطي صهوات الخيول، فالديكتاتوريات عبر التاريخ ماهرة في صناعة الوعي الذي تريد في المجتمع.. مات الفارس “المظلي الشجاع”، صاحب اللحية السوداء، والذي يدرس دينيًا عن طريق البوطي كما أُشيع، وأوقف مكر التاريخ والقدر مكر الديكتاتور.

مع ثورة الشعب السوري وانقسام المجتمع كما ذكرنا، شكّلت اللحية علامة بارزة ومشتركة عند طرفَي الصراع، وبدت واضحة السمة الدينية التي تجملها الميليشيات الشيعية والزينبية والحسينية المشحونة بالحقد على السوريين، ولكن بالمقابل عمد السوريون إلى المواجهة المثلية، وبدت اللحية علامة بارزة في المناطق “المحررة”، بعد أن هيمن الخطاب السلفي عن طريق الدعاة الوافدين إلى سورية، وكان المنطق السائد أنّ الأسد وميليشياته أرادوها معركة دينية ويجب حتى ننتصر أن نعود إلى ديننا وسنّة نبينا، وهو المنطق السنّي عبر التاريخ وفي الأزمات ونزول المصائب وتسلط الطغاة، أن كل ما يجري علينا بسبب بُعدنا عن الدين ووصايا الرسول الكريم، وشكّل هذا المنطق المدخل الرئيس لتغلغل الفكر السلفي في نفوس السوريين وخصوصًا من أبناء الريف السوري الذي يتسم تدينهم بالبساطة والليبرالية قبل الثورة، لقد كان شعورهم بعد التعبئة الخطابية والوعظية السلفية أنهم كانوا آثمين وبعيدين عن الله. في إحدى القرى التي سيطرت عليها “جبهة النصرة” عندما التقيت ببعض الأهالي أخبرني منهم: “كل ديننا كان على غلط، حتى الصلاة لم نكن نعرف كيف نُصلي، حتى جاء هؤلاء السعوديون ليعلموننا ديننا!”.

اللحية -في الفكر السلفي- أقرب للفريضة، وحلاقتها فسوق؛ لذلك صارت اللحية أكثر انتشارًا في مجتمع الثورة بين المتدينين وغير المتدينين، بل حتى بعض المعارضين عمد إلى إطلاق لحيته وممارسة شعائر الصلاة، بقصد التزلف والتقرب إلى الحاضنة الشعبية، وحتى في أوساط الضباط المنشقين.

تفصيل اللحية، كجزئية تشير إليها هذه المادة، يُقصد منه هجوم الناس نحو التدين بعد الثورة السورية؛ حيث بدأ الدين يُشكّل الهاجسَ الأول في المناطق “المحررة”، وهذا له أسبابه المُبررة والموضوعية، ولكنّ الخطورة عندما يتم استغلال هذا النزوع نحو الدين لمشاريع خارجة عن إرادة السوريين، فظروف القهر والقتل والقصف اليومي بالطيران وتحول المجتمع إلى مجتمع حربي سيؤدي حتمًا إلى تعلّق الإنسان بالمطلقات المنجية والمعينة له في محنته.

فيما يبدو، عندما يقوم الاستبداد بكبت حاجات الناس والتدخل في عاداتهم وطريقة لبسهم؛ سرعان ما تتطرف نحو هذا المكبوت، عندما يزول أثر الاستبداد، وشكّلت اللحية -عند كثيرٍ من السوريين- صورةً لتحدي النظام، فليس التحدي يكون في صراخ الألسنة بالحرية والشعارات بل حتى على مستوى المخالفة في السلوك والعادات، وهذه ميزة المجتمعات المتأزمة عبر التاريخ، إذ تختار منهجها بالضد من الآخر نكاية وكراهية.

مع تخاذل المجتمع الدولي وتخلي أصدقاء الشعب السوري عن مساندتهم في قضيته؛ شكّل التدين طوق النجاة الوحيد لهم، لقد كان الدين عامل إنقاذ وتمديد حياة في بحر من الدماء، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الطوق إلى خناق يمنع من الحركة والمضي نحو الأمام أو الانسحاب من الحياة.




المصدر