اتفاق الجنوب “الشيطان يسكن التفاصيل”


مشعل العدوي

“يخوض الإسرائيليون مع العرب معركةَ المياه، ويتوقف مصير (إسرائيل) على نتيجة هذه المعركة”.

دافيد بن غوريون 1955.

عام 1921، أعلن هوارس ما بيركالن أن مستقبل فلسطين بأكمله “بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع نهر الأردن”، وقبل ثلاثة أشهر من الإعلان عن اتفاق الجنوب السوري، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب، تحدّثت مصادر أميركية عن هدنة في الجنوب برعاية أميركية، وعن قيام بعض الدوائر في الولايات المتحدة بالبدء ببعض الدراسات عن المنطقة المزمع إعلانها آمنة، وتركزت هذه الدراسات حول منابع المياه والمخزون الجوفي لحوض اليرموك من طرف وحوض الأزرق من طرف آخر.

حتى اللحظة لم تنته المفاوضات الأميركية-الروسية-الأردنية المباشرة، والإسرائيلية غير المباشرة، حول الخطوط النهائية التي ستحدد حدود المنطقة الجنوبية الآمنة، علمًا أنها وصلت حتى الآن إلى الحدود الشمالية والشرقية لحوض اليرموك المائي، بل ضمّت أيضًا أجزاءً من أرض اللجاة الغنية بالمياه الجوفية.

كان من اللافت غياب طرفي المعادلة السوريين: الحكومة والمعارضة، على حد سواء عن هذه الاتفاقية، فالروس هم من يقرر نيابةً عن النظام السوري، أما بالنسبة للمعارضة فقد تم اجتماع وحيد ضم المبعوث الأميركي مايكل راتني مع بعض قادة الفصائل العسكرية، بهدف إطلاعهم على ما تم التوصل إليه من اتفاق، والدور المطلوب منهم لتسهيل نفاذه، أي أن راتني قد غيّب عن الاجتماع كافة القوى السياسية المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني وأصحاب الرأي والخبرة، واضعًا قادة الفصائل أمام خيارين: إما الإبادة بالطيران الروسي، وإما المساعدة على تنفيذ الاتفاق والقبول ببعض المكاسب والمساعدات، مشفوعةً بالوعود بأن هذا الاتفاق جزء من الحل النهائي الذي لا يعرف شكله حتى الأميركي ذاته.

من طرفها، ما زالت (إسرائيل) تتمنع عن مباركتها لهذا الاتفاق، وما زالت تُطالب بالمزيد، فبالنسبة إليها، هذه هي فرصتها التاريخية لتأخذ كل ما تريد دون حرب ودون نقطة دم إسرائيلية واحدة.

بدا الأمر وكأن (إسرائيل) تُفاوض أهل الجنوب على حياتهم، ولسان حالها يقول: “إن أردتم العيش بسلام بعيدًا عن براميل الأسد فعليكم القبول بالاتفاق؛ لأن الخيار الثاني جاهز، وهو أن نترك الأسد يقضي عليكم وأن نأخذ الأرض والمياه بعدها”، فالقبول بالخرائط السياسية مشفوع قسرًا بالقبول بالخرائط الجيولوجية التي لم يتحدث عنها أي طرف من الأطراف المتفاوضة علنًا، علمًا أن الجميع يعمل بموجبها، بل كانت الخارطة السياسية في هذا الاتفاق تابعة للخارطة الجيولوجية وخادمةً لها، وتُشكّل إطارها التنفيذي.

المؤسف في الأمر وجود طرف عربي في هذه المعادلة القاتلة، وهو الأردن الذي يعاني أزمة مائية قاتلة ووجودية، حيث لا يتعدى معدل حصة الفرد الأردني من الماء سنويًا 90 مترًا مكعبًا سنويًا، بينما المعدل العالمي هو ألف متر مكعب، ومنذ سنوات أعلنت السلطات الأردنية النفير العام تجاه هذه الأزمة، واتخذت العديد من الإجراءات في سبيل التخفيف من آثار الكارثة المقبلة، إلا أن جميع التدابير المُتخذة لم ولن تكون كافية للحد من تدهور الوضع المائي للأردن؛ بسبب الانحدار المتواصل لمنسوب المياه الجوفية وشح الأمطار وارتفاع معدلات التبخر وزيادة الاستهلاك.

وزير المياه الأردني الأسبق موسى الجمعاني رأى أن من الصعب تقويمَ وضع المرحلة الراهنة في سياق المياه المشتركة في حوض اليرموك، ولا سيما أن المعادلة يتداخل فيها أكثر من “مجهول”، يتعلق بالمصالح الأردنية من جهة، والمصالح السورية من جهة أخرى، بالإضافة إلى التقاطعات السياسية.

وقال الجمعاني: إن لدى الأردن فرصة إيجابية في المرحلة الحالية، لإيجاد حل لأزمة المياه المشتركة، ولا سيما أنه مُشاطئ لنهر اليرموك ومحاذ للحدود، مبينًا أن تحقق “حل سياسي” للأزمة السورية، يُنهي الحرب القائمة، و”يمنح فرصة للأردن بأن يطلب الحقوق المائية الثابتة ويطبقها على حوض اليرموك، سواء من خلال المشروع العربي الذي تم إقراره، من خلال جامعة الدول العربية في فترة الخمسينيات، أو مشروع (جونستون) الذي تلاه فيما بعد”.

أهمية نهر اليرموك:

يبلغ طول نهر اليرموك 40 كم، منها 23 كم في سورية، والباقي في الأردن وفلسطين، وتصب في نهر اليرموك خمسة روافد رئيسة هي (الزيدي، أبو الذهب، الهرير، العلان، الرقاد)، وأكثرهما غزارة رافدا أبو الذهب والهرير، وتبلغ مساحة حوضه نحو 7584 كم2، ويرفد وادي اليرموك نهر الأردن في جنوب بحيرة طبريا، ليشكلا معًا ما يسمى بنهر الشريعة.

ولإلقاء المزيد من الضوء على موقف (إسرائيل) من اتفاق الجنوب ومكاسبها؛ سنعود قليلًا إلى التاريخ:

1 – في عام 1905، اقترح المهندس ويلبوش تحويل مياه نهر الليطاني إلى نهر الحاصباني، أحد منابع نهر الأردن، لمضاعفة كمية المياه في نهر الأردن.

2 – في عام 1926 حصلت شركة (لاتنبرغ) اليهودية على امتياز لمدة سبعين عامًا، لاستثمار مياه نهري الأردن واليرموك في نقطة تلاقيهما، عند جسر المجامع الأردني ومستعمرة “نهار يم” الصهيونية، لتوليد الطاقة الكهربائية، وعقدت هذه الشركة اتفاقًا مع شركه لبنانية، لدراسة استثمار أكثر من سُبع كمية مياه الليطاني في لبنان، وتحويل الكمية الباقية إلى وادي الأردن.

3 – في عام 1953 أحبطت أميركا ووكالة الغوث الدولية مشروعَ إنشاء سد المقارن، خشية أن يتعارض هذا المشروع (مشروع يونغر) مع المشاريع الإسرائيلية، نظرًا لعدم اعتراف مشروع يونغر بحصة (إسرائيل) في مياه اليرموك.

4 – في عام 1954 قدم الخبير الأميركي جون كوتون مشروعًا لتطوير واستثمار الموارد المائية في أحواض نهري الأردن والليطاني، وأعطى حسب المشروع 1290 مليون متر مكعب سنويًا لـ (إسرائيل)، بواقع 890 مليون متر مكعب سنويًا من مياه نهر الأردن وروافده، و400 مليون متر مكعب سنويًا، من نهر اليرموك وروافده.

5 – في عام 1964، عشية مؤتمر القمة العربي الأول، قرر المجتمعون تنفيذ بعض المشاريع المائية في سورية ولبنان والأردن، بغية استثمار مياه الأردن والليطاني واليرموك، حيثُ قرر المؤتمر إقامة سد على نهر اليرموك، في موقع الخيبة لتخزين 200 مليون متر مكعب من المياه، وشق قناة عبر الأراضي السورية، من خلال وادي الرقاد لتصب في نهر اليرموك، وعند المباشرة بالمشروع، قامت (إسرائيل) بقصف المنشآت حيثُ سجلت الاعتداءات التالية:

أ – هاجمت (إسرائيل) الحدود السورية في 17 و18 شباط/ فبراير 1964.

ب – حشدت (إسرائيل) قواتها على الجبهة السورية، وشنت عدة اعتداء في 7 آذار/ مارس 1964.

ج – هاجمت (إسرائيل) مواقع العمل في المشروع، في 13 أيار/ مايو 1964.

د – شنت (إسرائيل) 14 هجومًا على الحدود السورية، في 17 تموز/ يوليو 1964، وكذلك في 10 و12 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964.

و – استخدمت (إسرائيل) في قصفها منشآت وورشات العمل قنابل النابالم، في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964.

هـ – هاجمت (إسرائيل) مناطق التحويل في سورية والأردن، في 6، 15، 17، 18، 22 أيار/ مايو 1965.

6 – في عام 1970 تقف الخلافات السياسية العربية عقبة أمام إتمام بناء سد الوحدة (المقّارن) على نهر اليرموك، وقد أوقفت الولايات المتحدة تمويل المشروع عام 1978 (بعد أن كانت قد وعدت بتمويله) نتيجة تدخل (إسرائيل) التي ادّعت أن هذا المشروع سيحُول دون وصول ملايين الأمتار المكعبة من المياه التي تحصل عليها (إسرائيل) سنويًا من نهر الأردن. ثم الاتفاق مجددًا للبدء بالمشروع بتمويل من البنك الدولي الذي وافق في البداية، لكنه ماطل كثيرًا وصولًا إلى إلغاء العقد بعد ضغوط إسرائيلية-أميركية مزدوجة.

من غير المعروف إن كانت هناك جهة قادرة اليوم على الوقوف في وجه المشاريع الصهيونية في المنطقة، بعد أن شرّع النظام السوري الأبواب للفرس من الشرق، والروس من الغرب؛ لتصبح البلاد مشاعًا لكل من أراد أن يأخذ نصيبه من الكعكة السورية سهلة المنال.




المصدر