بعض ملامح السيناريو الأفغاني للجهاديين في سورية

26 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
8 minutes

منير شحود

يُعدّ التراجع الميداني لتنظيم (داعش) أحد المؤشرات المهمة لانحسار الموجات الجهادية التي تسللت إلى سورية منذ عام 2012. تميز هذا التنظيم بانتقاء نصوص دينية وتطبيقها حرفيًا في زمن مختلف، بهدف الوصول إلى “الدولة الإسلامية” المنشودة. لكن ذلك ليس سوى قمة جبل الجليد، فثمة الكثير من الأسئلة حول طبيعة الارتباطات الاستخباراتية المباشرة وغير المباشرة لهذا التنظيم، وسعي بعض الدول للاستفادة من عدميته، والعمل على توجيه سياساته وقياداته لتحقيق مصالحها أو لإعاقة مصالح دول أخرى. مع ذلك، لا يختلف تنظيم (داعش) عن باقي التنظيمات السلفية الجهادية إلا بالدرجة، وعلى مستوى التكتيكات فقط، فهو يتشارك معها الأساس العقائدي، والهدف النهائي المتمثل باستعادة وهم دولة الخلافة.

استفاد (داعش) من الفوضى التي عمّت معظم المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، بما في ذلك الغضب الشعبي من انتشار ظاهرة أمراء الحرب، ليطبق ما جاء في كتاب/ دليل منظمة “القاعدة” المسمى (إدارة التوحش) لمؤلفه أبي بكر ناجي، وبمقتضى ذلك يجب أن يستغل المجاهدون الفوضى الحاصلة في دولة ما، ليقيموا فيها “دولة الإسلام”. وهكذا تقدم (داعش) كقوة منظمة وموحدة في مواجهة جميع الفصائل المسلحة التي لم تبايعه، بما يحاكي، إلى حد ما، تجربةَ حركة طالبان في أفغانستان على أثر الفوضى التي اجتاحت هذا البلد عقب خروج السوفييت منه عام 1989. حينئذٍ، اعتُبرت طالبان قوة منقذة من حرب الفصائل وأمراء الحرب، لكنها استبدلت الفوضى هناك بإقامة نظام مغلق شديد الوطأة. كذلك فعل (داعش) الذي دعّم أساليبه البربرية بالمزيد من الأسلحة الحديثة التي استولى عليها بعد احتلاله الموصل على نحو خاص، فضلًا عن استغلال فكرة المظلومية السنية، كما فعل في العراق.

تربع تنظيم (داعش) على قمة الهرم الجهادي منذ عام 2014، تلته شقيقته (النصرة)، ومن ثم باقي “البطون والأفخاذ.” خلال ست سنوات من عمر الكارثة السورية، شهدنا تحولات متواصلة في اصطفافات الفصائل المسلحة وتحالفاتها، إلى أن تمكن الجهاديون من ابتلاع معظم هياكل الجيش الحر، إذ قضت جبهة النصرة على تنظيمي (جبهة ثوار سورية) في خريف 2014 و(حركة حزم) مطلع 2015 واستولت على أسلحتهما؛ فوجهت بذلك أكبر صفعة للسياسة الأميركية في التعامل مع المعارضة المسلحة المعتدلة، إلى أن تم مؤخرًا الإعلان رسميًا عن إلغاء برنامج الاستخبارات الأميركية لتدريب مقاتلي المعارضة. حدث ذلك أيضًا في الوقت الذي كانت فيه جهات سياسية معارضة تمتدح (جبهة النصرة) وأشباهها، ويردد معارضون بارزون لازمتهم، بمناسبة وبدون مناسبة: “خذلنا العالم!”.

وفي إطار عملية الفرز المستمرة، لا يتوقف الاقتتال بين الفصائل الجهادية، حيث الغلبة للتنظيم الأكثر عقائديةً وتمويلًا، ما يحاكي السيناريو الأفغاني الطالباني أيضًا. ليس بعيدًا عن ذلك ما حدث في محافظة إدلب، طوال الأسبوع الماضي، بين أكبر تنظيمين هناك؛ “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام” (النصرة). تؤدي (النصرة) دور (داعش) في هذه المرحلة؛ أي السيطرة على الفصائل التي تعتبر أقل تطرفًا أو تستوعبها للحصول على المزيد من الموارد. وربما حال حشد المقاتلين الذين تدعمهم تركيا قرب معبر باب الهوى، دون قيام “جبهة النصرة” بالإجهاز التام على “الأحرار”، ما دفعها للقبول باتفاق تم توقيعه يوم الجمعة الماضي، وجوهره تحييد معبر باب الهوى وتسليمه لإدارة مدنية. كان “أحرار الشام” قد حاولوا استباق الأمور برفع علم الثورة، في محاولة مكشوفة، يتقنها الإخوان والمنحدرين من صلبهم، لتلميع أنفسهم وسط حاضنة منهكة أو ما كانت حاضنةً يومًا ما.

لكن ما يحدث في إدلب هو التحضير لنهاية (النصرة) “المنتصرة” ذاتها، فثمة قوى عالمية متواجدة على الأرض السورية وفي الأجواء، وهي جاهزة للانقضاض عليها بعد أن يتم الخلاص من (داعش) أو استبعاد خطرها على الأقل. في هذا الإطار يجري استيعاب فصائل أخرى من خلال اتفاقات “خفض التصعيد” التي ترعاها روسيا، مثلما حصل يوم الجمعة الماضي، إذ تم الاتفاق مع “جيش الإسلام” في القاهرة على وقف إطلاق النار، في معظم أنحاء الغوطة الشرقية. وسواء اقتتلت الفصائل الجهادية فيما بينها أو تم تحييدها أو قتالها، فذلك يصب في الهدف النهائي المتمثل بإضعافها إلى الحد الذي يمكّن اللاعبين على الأرض السورية من الانتقال إلى مرحلة جديدة.

من جهة ثانية، لم يتقبل السوريون الفصائلَ الجهادية في مناطقهم إلا مكرهين، تشهد على ذلك الاحتجاجات والتظاهرات المستمرة رفضًا لممارسات (النصرة)، كما في معرة النعمان وكفرنبل وسراقب والأتارب وغيرها. مع ذلك، إن من مهدّ الطريق لهؤلاء الجهاديين بأي شكل من الأشكال، سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو أي مستوى آخر، يجب أن يتحمل المسؤولية، فكيف يمكن أن يقبل العالم، فضلًا عن غالبية السوريين، معارضة يتقدم الجهاديون صفوفها، وتطرح نفسها كبديلٍ للنظام القائم، مهما يكن؟

مع ذلك، تبقى عملية استيعاب الفصائل الجهادية أو التخلص منها صعبةً ومشروطة، فقد اصطبغ الصراع في سورية بسواد الجهاد والجهاد المضاد، وأضحى من الضرورة بمكان تلمّس حلّ سياسي لنقل سورية إلى واقع مختلف على المدى القصير، أقله إصدار قرار أممي بترحيل المقاتلين الأجانب من سورية، ومن ثم الوصول إلى وضع أسس بناء دولة حديثة على المدى الطويل، وذلك من أجل إعادة بناء شاملة تفضي، في نهاية المطاف، إلى تهدئة الانقسامات الاجتماعية ونشر ثقافة التنوير، كحاجة تعادل في أهميتها الحاجة إلى الطعام والشراب، في الوقت الذي يجب أن يتم فيه تجاوز القديم على نحو ممنهج لصالح المستقبل المأمول.

البداية لا بد أن تكون بالعودة إلى أصل المشكلة؛ أي تجاوز نظام الاستبداد، وكل محاولة استبداد لاحقة، حتى يكون استحقاق التغيير في الاتجاه المطلوب، ولينتهِ كل نهج تسلطي إلى غير رجعة. كما يتوجب عكس الأسس الاجتماعية التي يعتاش عليها التطرف أو يستغلها؛ أي تغيير ظروف الحياة ذاتها، بما في ذلك تمكين الفرد من تحقيق استقلاليته الاقتصادية والاجتماعية، والحد من اعتماد معظم السوريين على الإعانات، حتى لا يتحول الناس، بخاصة في معسكرات اللجوء، إلى مجرد أفواه يقدم لها الطعام، وتتناسل بطريقة فوضوية، فالبرامج الأممية الحالية، بالرغم من جهودها الكبيرة، ليس لديها الخطط والإمكانات الكافية لتطبيق سياسات تتجاوز تأمين المتطلبات الأساسية للحياة.

سورية القادمة تحتاج إلى ما يشبه مشروع مارشال في أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، مرفقًا بخطة أممية للإشراف على تنفيذ خطط الإعمار وبرامج التنمية الاجتماعية، بما يوفر السكن الصحي والمستقل وسبل العيش الكريمة لملايين السوريين المهجّرين وقاطني المخيمات واللاجئين الراغبين في العودة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]