فزغلياد : النزاع في إدلب يقرِّب الأسد من النصر النهائي


سمير رمان

الصورة: عمار عبد الله/ رويتر

فرض إرهابيو (هيئة تحرير الشام) سيطرتَهم على إدلب، بعد أن طردوا منها خصومهم؛ ليصلوا إلى الحدود التركيّة، ويستولوا على كميّاتٍ كبيرة من العتاد العسكري الغربي. ولكنَّ هذا النجاح الغريب في صراعهم مع فصائل معارضة أخرى قد يكلِّفهم ثمنًا باهظًا.

بعد معركةٍ قصيرة بين مجموعتين إسلاميتين؛ انتقلت السيطرة على مدينة إدلب والقسم الأكبر من المحافظة التي تحمل الاسم نفسه، إلى يد أكثر العصابات الجهاديّة تطرُّفًا ورفضًا للسلم: (هيئة تحرير الشام). أمَّا بقية المجموعات فإمَّا تشتتت، أو انتقلت إلى جانب المنتصر.

بدأ “السود” (إشارةً إلى لون الرايات) حملتَهم على إدلب بالقضاء على ما يسمّى “الخلايا النائمة التابعة لتنظيم الدولة الإسلاميَّة، لتنفِّذ عمليَّةً بكفاءةٍ أكبر بكثير من عمليَّات الـ C.I.A”.

محافظة إدلب هي أكثر المحافظات السورية اكتظاظًا بالسكّان، وما تزال تحت سيطرة التنظيمات الإرهابيّة وبعض فصائل المعارضة “العلمانيّة”؛ فلا عجب إنْ نُقل مختلف “الثائرين على النظام” -الذين وافقوا على إلقاء السلاح مؤقَّتًا ولم يقبلوا بالتخلّي عن القتال- من كافَّة الجيوب التي كانت منتشرة في سورية، إلى إدلب بالتحديد.

بدأ النزاع بين قاطني هذه “المحميَّة”، منذ نصف عام تقريبًا، عندما قام إرهابيون من (جبهة النصرة) باتِّهام المجموعات الأكثر اعتدالًا، بأنهم يتعاونون مع الولايات المتحدة الأميركيّة وتركيّا، وبأنَّهم يزودون الطائرات المسيَّرة بإحداثيَّات مواقع مقاتلي “النصرة”؛ وبالتالي اتهامهم بـ “خيانة قضيَّة الجهاد”. وهكذا، بدأ القتال بين المجموعات، حققت (جبهة النصرة) فيه النصر، خلال وقتٍ قصير؛ لتطرد المعتدلين من أكثر من أربعين منطقة مأهولة، داخل “المحميَّة”. وراحت الفصائل الصغيرة تتحالف، على عجلٍ، مع أكبر المجموعات (حركة أحرار الشام) التي تقف وراءها الكويت، وبقبولٍ ضمنيٍّ من جانب تركيَّا.

على مدى أشهرٍ، كانت عمليّة الفصل، بين فصائل المعارضة المعتدلة والمتطرفة، تسير ببطء، وأدَّت في النهاية إلى تكوّن مجموعتين كبيرتين، تبغضان بعضهما البعض انطلاقًا من تصوراتٍ أيديولوجيّة، أكثر من بغضهم بشار الأسد. قُسِّم المتصارعون -بحسب ألوان أعلامهم- إلى “سودٍ” و”خضرٍ”.

“السود” هم (هيئة تحرير الشام)، المنتصرون حاليًّا، وهم يتخذون موقفًا، لا تصالح فيه، تجاه كلِّ ما يحيط بهم، طالما لا يقبل بالفهم “الصحيح” للإسلام، وطالما لا يقبل العيش وفق الشريعة. تضمُّ هذه المجموعة (“جبهة النصرة” سابقًا، لواء “نور الدين الزنكي”، “جيش السنَّة”، ” لواء الحقّ”، “جبهة أنصار الدين”)، بالإضافة إلى العديد من المجموعات الصغيرة التي كانت تدين بالولاء سابقًا لـ (حركة أحرار الشام). يترأس هذه العصابة الشيطانيَّة الهارب من (حركة أحرار الشام)، المدعو “أبو جابر”.

أمَّا “الخُضر”، فهي مجموعةٌ التأمت حول (حركة أحرار الشام)، وتتألَّف من عددٍ كبير من الفصائل الصغيرة، ذات اتجاهاتٍ متباينةٍ للغاية، من الإسلاميين المعتدلين إلى الفصائل العلمانيّة. ولسببٍ ما، يُعدّ “الخُضر” أكثر تقبُّلًا للعملية التفاوضية، كما أنَّهم يدعمون الكويت وتركيا علنًا. ولهذا السبب، يعتقد الكثيرون بأنَّه سيكون بالإمكان، بعد ما آلت إليه الأمور، التحكُّم بالمقاتلين أو على الأقلّ إبعادهم عن الأعمال العنيفة التي تلوح في الأفق، سبق للاستخبارات المركزية الأميركية أن ارتكبت الخطأ نفسه، عندما اعتبرت أنَّها تستطيع بشكلٍ ما التلاعب بأحدٍ ما، عبر ما يسمَّى مكتب التوزيع في هاتاي، الذي كان يتولَّى إرسال الأسلحة إلى “الشباب الطيبين”. الآن، الجميع يعرف كيف انتهى الأمر.

ظهر الهيكل الجديد (هيئة تحرير الشام) إلى الوجود في “الوقت المناسب” تمامًا؛ فمع انتشار الإشاعات حول إبرام اتفاقٍ محتمل بين روسيا وتركيّا للقيام بعملٍ مشتركٍ، لإدخال قواتٍ إلى “محميَّة” إدلب بهدف تنفيذ مخططٍ لإقامة مناطق تخفيف التصعيد هناك. أعلنت الهيئة الجديدة، أنَّها لن تشارك تحت أيِّ ظرفٍ في مباحثات أستانا وجنيف، وأنَّها لن تعترف بأيّ وسيط، (ليس فقط روسيا، إيران وتركيا، بل المملكة العربية السعوديَّة، أيضًا). وأعلنت أنَّ إقامة مناطق تخفيف التصعيد هو أمرٌ “حرام” شرعًا.

“أتاحت مباحثات جنيف وأستانا فرصةً كبيرة للاتفاق على الاستيلاء على مناطق محرَّرة كثيرة وتهجير السكان من هذه المناطق. وهذا سيؤدي إلى توقُّف الجهاد. إنَّهم يريدون محاصرة إدلب، وهذا يؤدي بدوره إلى تهجير السكان من مناطق أُخرى كالغوطة الشرقيَّة، درعا والاستيلاء على مناطق على محور دير الزور. “نعلن أنَّنا لن نترك إخوتنا وحيدين في مصيبتهم، ولن نسمح بتسليم الغوطة الشرقية، درعا، ريف حمص الشمالي وغيرها من المناطق لروسيا وإيران”، نشرت الهيئة بيانها بلغةٍ روسيَّةٍ ركيكة (النصّ الأصلي موجود، ويعتقد أنّ مجموعةً من المنحدرين من شمال القوقاز هي المسؤولة عن الدعاية بالروسية، لدى هيئة تحرير الشام). وفي النصِّ العربي، تعدُ بـ “مواصلة الجهاد”، وتدعو إلى الصمود.

حتى يوم الأحد، تمكَّنت (هيئة تحرير الشام) من السيطرة على نصف مساحة مدينة إدلب تقريبًا. وأشيع يوم الجمعة عن التوصل إلى اتفاق مصالحة، لكنَّ الهيئة نقضته، وطردت خلال يومين فقط “الخضر” من كلِّ إدلب وصولًا إلى الحدود التركية، واستولت على المعبر الاستراتيجي: (باب الهوى).

بدأت (حركة أحرار الشام)، بالتلاشي بسرعة. فقد ترك المئات من عناصرها مواقعهم، وفرّوا من إدلب بشكلٍ فوضويّ، في حين فضَّلت بعض الكتائب الانضمام إلى المنتصرين. (جاء مصطلح الكتائب هذا من ليبيا، حيث كان يطلق على الفصائل الصغيرة المناوئة للقذافي، ولكنَّه انبعث لاحقًا باللهجة السوريّة الأقرب إلى لغة القرآن).

بقي تحت سيطرة “الخُضر” منطقة جبل الزاوية ومدينة أريحا فقط. كان تعداد مقاتلي “حركة أحرار الشام”، قبل عام ونصف العام، قرابة 16 ألف مسلَّح، وكانت الحركة تتلقى دعمًا ماليًّا منتظمًا من الكويت. سبق للشيخ عبد الرزاق المهدي أن أعلن عن احتمال وقف الأعمال القتالية في إدلب، واندماج (حركة أحرار الشام) و (هيئة تحرير الشام).

من جانبهم، عندما وصل “السود” الحدودَ التركيَّة، تصرّفوا وفق التقاليد الشرقية الأصيلة. وبالتحديد لإظهار حسن النيَّة، اقترحوا على الأتراك تسليم المعبر الحدودي في (باب الهوى) إلى جهةٍ “محايدة”. ولكنَّ هذا الاقتراح، كان في حقيقة الأمر يعني تولّي الأتراك المعبر، وترك باقي محافظة إدلب بيد (هيئة تحرير الشام)، بما في ذلك مدينة إدلب نفسها. يندرج الاقتراح تحت سقف العادة الشرقيّة “التصدُّق بثلاث قروش لكسب ثلاث ليرات”.

الخسارة الجديّة الوحيدة التي تعرَّضت لها الهيئة تمثًّلت بموت واحدٍ من مؤسسي “النصرة”، المدعو أبو محمّد الشحيلي، الذي وجدت جثَّته في أحد المنازل في مدينة إدلب، حيث كان يسمن في الفترة الأخيرة. تصرَّ غالبية المصادر على أنَّ وفاته ناجمةٌ عن تسمُّمه بمادةٍ غير معروفة، بينما يؤكِّد آخرون أنّه كان يعاني من المرض منذ فترةٍ طويلة، ولم يشارك شخصيًّا في المعارك، وأنَّه مات نتيجة تعرّضه لنوبةٍ قلبية. وبالمناسبة، لا ينفي أصحاب الرأي الثاني وجهةَ النظر الأولى.

من المهمِّ لفت الانتباه إلى أنَّ (هيئة تحرير الشام) تتفوق على (تنظيم الدولة الإسلاميَّة)، من حيث درجة الجمود في تفسير القرآن. بدأ “السود” حملتهم على إدلب بالقضاء على ما يسمّى “الخلايا النائمة التابعة لـ (تنظيم الدولة الإسلاميَّة)، ليكونوا بذلك قد قاموا بتنفيذ عمليَّةً بكفاءةٍ أعلى بكثير من عمليَّات الـ C.I.A”. على ما يبدو، لعبت علاقات الهيئة الداخلية، معارفهم القدامى وتسلل المنشقين دورًا مهمًّا في كشف الشبكات السريّة للتنظيم. وهذه الأساليب هي بالضبط ما تفتقده الاستخبارات الأميركية والغربية. حاول أنصار “البغدادي” المقاومة، وقاموا بتنظيم عدة محاولات اغتيالٍ على قيادة (هيئة تحرير الشام) بتفجير سيارات الجهاد، إلا أنَّ القوى لم تكن متكافئة.

ما يبدو للوهلة الأولى نجاحًا واضحًا لأكثر المجموعات تطرفًا في سورية، يمكن أن يصبح بداية النهاية، وستكون نهايةً مؤلمة بالتأكيد.

فكر العصور الغابرة الذي تحمله (هيئة تحرير الشام) وعدم قابليتها للتفاوض، لا يترك أيَّ خيارٍ آخر سوى القضاء عليها. وإذا كان الحديث، في السابق، حول عمليةٍ روسية-تركيةٍ مشتركة في محافظة إدلب، يُنظر إليه كشائعاتٍ في إطار استراتيجية “تخفيف التصعيد”، فاليوم لم يبق شيءٌ يحول دون أحدٍ للقيام بما يلزم. تحوَّل “السود”، منذ لحظة استيلائهم على السلطة في إدلب إلى هدفٍ كبير للطائرات الروسية وللمدفعية التركية. ويمكن أن تصبح الأهداف من ضمن التي في إدلب نفسها، وهو الأمر الذي كانت الطائرات والصواريخ تتجنبه في السابق بعد موافقة (حركة أحرار الشام) على المشاركة في مباحثات أستانا.

ومن الممكن أيضًا، أن ينضم إلى عملية القضاء على (هيئة تحرير الشام) التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية. وأخيرًا، أعلنت وكالة الاستخبارات الأميركية عن وقف دعمها للمجموعات المسلَّحة في سورية.

وهكذا، وضع “السود” أنفسهم في المرمى بأنفسهم. منذ بضعة أيامٍ، كان حشدٌ من الخبراء في موسكو، القاهرة، عمَّان ودمشق يناقشون كيفية التعامل مع “محميَّة إدلب” التي اجتذبت إليها خلال السنوات الأخيرة أكثر القوى اللامسؤولة. الآن، انتفت الحاجة إلى هذا العمل.

ليس هناك ما يمكن التفاهم بشأنه مع (هيئة تحرير الشام)، فلينتظروا الصواريخ، فهي في الطريق إليهم.

اسم المقالة الأصليّة Конфликт в Идлибе резко приблизил Асада к окончательной победе كاتب المقالة يفغيني كروتيكوف مكان وتاريخ النشر صحيفة فزغلياد الروسية. 24 تموز 2017 رابط المقالة https://www.vz.ru/world/2017/7/24/879943.html

ترجمة سمير رمان




المصدر