لماذا وصلنا إلى هنا؟


muhammed bitar

ليس صعباً على المواطن السوري البسيط عاملاً كان أم فلاحاً إدراك حقيقة أن القوى الكبرى حولت الثورة الشعبية السورية ضد الفساد والظلم والطائفية والمحسوبية، إلى حرب مصالح بالوكالة تديرها أجهزة المخابرات الدولية حفاظاً منها على مصالح دولها ببقاء الطغمة الحاكمة التي لا همّ لها إلا تأمين مصالح تلك الدول للحفاظ على مكاسبها وبقاءها في السلطة، ولإفشال الثورة وإفساد مضمونها، وتحويل ثوارها إلى إرهابيين ومارقين خارجين على القانون والأعراف.

تغيّر النظرة

يراقب هذا المواطن التحركات الدولية بريبةٍ وعجزٍ عن القيام بردّ فِعل أو مجاراة ما يحصل، لتنسحب ريبته على النخب السورية التي أفرزتها الثورة سياسية كانت أم عسكرية، فبعد أن خلعت السوريات أقراطهن من آذانهن وقدمنها للثوار في بداية الثورة، نَراهنّ يكشفن رؤوسهنّ اليوم وهنّ يشتمن القائد أو الزعيم فلان، نادماتٍ على ما قدمن لهم من جهد ومال وثقة، فلا النخب ولا العامة استطاعوا أن يكونوا رجال ثورة تنقذ الشعب من الظلم الرابض على صدره منذ عقود، فقد بقيت النخب تنظر إلى المشهد كمن يشاهد مسلسلاً تراجيدياً، أما العامة فقد ضاعوا في التيه بين الحاجة والواجب وبين الشك واليقين وبين من أثرى ومن أصابه الفقر فأدقع.

ولكن ما الذي تبدّل حتى تغيرت نظرة الشعب للثوار الذين كسبوا قلوب الجماهير وعقولهم وحازوا على أموالهم دون حساب؟ هل كان التغير ذاتياً أم أن ظروفاً خارجية طرأت وأدت إلى تغيرٍ في الثوار أدى بدوره إلى تغيير نظرة الشعب إليهم؟

ظروف مختلفة

حتى تتوضح الصورة لا بد لنا من معالجة نقطتين هامتين ساهمتا في تشكيل عقلية الثوار بالصورة التي نراهم بها، وهما الظروف الذاتية والموضوعية التي أحاطت بالثورة والثوار، فمن جهة كان معظم هؤلاء الثوار من جيل الشباب الذي لا يتجاوز العقد الثالث من العمر، وأغلبهم دون ذلك بعقد كامل، وهم من أصحاب المهن والعمال والفلاحين الذين عايشوا التباين الطبقي بينهم وبين معارفهم من مواليّ النظام وعسكره الذين يملكون السيارة والبيت منذ بداية حياتهم العملية وهم مازالوا شباباً، فإما أن يكون الواحد منهم ضابطاً أو صف ضابط  في الجيش أو موظفاً في موقع حساس يسمح له بابتزاز المواطنين (وهذا هو تعريف الحساس)، وفي كلتا الحالتين أمورهم “محلولة” فالسيارة والبيت مؤمّنان دون جهد أو مال، وموقعهم الوظيفي يؤمن لهم سيلاً من الرشاوي والهبات نتيجة الفساد الإداري الذي يعم البلد، وهم يستهلكون ما أرادوا منها ويعرضون الباقي للبيع مؤمِّنين بذلك وفرةً مادية وثراءاً كبيراً يحلم به هذا العامل بعد ثلاثين سنة من الجهد.

الفروق كبيرة إذاً، و”البون” واسع بين من يعمل بجد واجتهاد لثلاثين عاماً حتى يحصل على بيت وسيارة، وبين من وصل إلى عمر العمل الوظيفي فوجد أهم مطلبين متوفرين، والأمر الثالث هو موضوع الزواج فهو متاح  بدون نفقة عند الطائفة العلوية بالذات مما يعطي شبابهم سبقاً على أقرانهم من مواطنيهم (وهذه تحسب لهم لا عليهم) ناهيك عن فروق الحالة المعنوية بين شابين في نفس المرحلة العمرية،  فهذا يشعر أنه قشة في مهب الريح، بينما يشعر الآخر أنه يستند إلى الدولة بكل مؤسساتها وخصوصاً الأمنية منها إضافة للمال والجاه، مما جعل الشباب من الطائفة السنية في حالة تأهب ينتظرون شرارة الثورة.

بدايات

بالنسبة للظروف الموضوعية التي أحاطت بالثورة فقد اتخذ النظام الحل الأمني والعسكري طريقاً لمواجهة الاحتجاجات السلمية، وهذا ما أزّم الموقف رويداً رويداً، فمن مظاهرة يلاحقها الأمن بقوته وعتاده ليشتتها ويعتقل عدداً من المتظاهرين في الأيام الأولى إلى تفريق مظاهرة تخرج بشعار(واحد واحد الشعب السوري واحد) مخلفة عدة شهداء والعديد من الجرحى والمصابين، ناهيك عن ملاحقة الأطباء الذين يعالجون الجرحى باعتقالهم وقتلهم وهذا ما فرض على الثوار التفكير بتسليح الثورة.

ولكن من أين السلاح والقرى والمدن خالية إلا من بعض أسلحة الصيد؟ وجاء الحل سريعاً دون جهد يذكر فقد تركت قطعات الجيش سلاحاً وذخيرة في مواقع تمركزها قبل أن تنسحب، وهذه الصورة تكررت في كثير من المدن والقرى، أو استطاع الثوار قتل جندي أو جنوداً واغتنموا أسلحتهم، ونتيجة الفساد المستشري برزت فئة من الضباط وصفّ الضباط يبحثون عن تخوم قريبة من الثوار ليبيعوهم أسلحة وذخائر بحجة أنها زيادة على قيودهم، وهؤلاء يشترون بحجة حماية أنفسهم وكل طرف منهما يعرف كذب الطرف الآخر فذاك يبيع ليسرق، وهذا يشتري ليسلح

وهنا بدأت نواة الجيش الحر تتشكل، وبدأت بعض الأسماء بالظهور واللمعان إذ سطر بعضهم بطولات كانت أحاديث المجالس، إلا أن هذا التسليح لم يكن كافياً للصمود أمام آلة القتل التي أتاحها النظام لأفراده، فكان لا يتورع عن مواجهة مظاهرة خرجت لتوها من المسجد بقنّاصات تتمركز على أسطح الأبنية العالية ورشاشات خفيفة ومتوسطة تفتك بحشود الناس العزّل، وفي تلك الفترة بالتحديد انتشرت بين الناس أخبارٌ عن أشخاص اتصل بأحدِهم شيخ إماراتي أو أمير سعودي أو قطري، ليدعم هذه  المدينة أو تلك القرية، تأيّيداً لحقها في الدفاع عن نفسها.

انقسام

لكن وإن كانت البدايات لا تحمل تمايزاً واضحاً بين جالب المال والقائد، إلا أن اجتماع الشباب كان خلف جالب المال، لما يقدمه لهم من خدمات للمجموعة وتأمين شراء السلاح، مما استدعى تنحي الكثير من الكوادر القيادية من ضباط منشقين وصف ضباط جانباً بعد تهميشهم لصالح ظهور صاحب التمول الذي أصبح بعد فترة مصدراً للمال ومتحكماً في طريقة صرفه، وقائداً للواء أو فصيل، مما قرب منه اللصوص والمتسلقين والمتملقين بصرف النظر عن هويتهم أكانت ثورية أم لا، وفي الوقت ذاته كان هو راغباً بقربهم منه لحمايته كونه أصبح شخصية متميزة، فأصبح هو الحاكم وهم بطانته، ومنهم ظهر القائد العسكري والمسؤول الإغاثي وأمين مستودع السلاح والسجان وووو.

وبمعنى آخر برزت من هذه الثلة قيادات المجتمع العسكرية والمدنية التي رفضت كل أشكال التنظيم أو الإصلاح، لان أي إصلاح سيستبدل هؤلاء وهذا ما يشكل كارثة بالنسبة للواحد منهم أو للمجموع.

وفي الأثناء كان المجتمع يراقب الأحداث ويلوك آلامه من هكذا قيادات، لكن ما يجعله صامتاً هو الانتصارات الهامة التي تتحقق على الأرض، والتوقع بقصر الفترة الزمنية لانتصار الثورة وعودة الأمور إلى نصابها، وفي هذه الفترة انتشرت مصطلحات ما كان المجتمع يعرفها أو يسمع بها مثل الفصيل العلماني والفصيل الإسلامي، وأصبحت العلمانية سبباً في التهجم على البعض، كما أصبحت الإسلامية عند البعض الآخر تهمة، مع العلم أن الفصائل من مكون ونسيج اجتماعي واحد ولا تمايز بينهما إلا بالاسم، وقد فرّقَ بينهما الجهة الداعمة والاسم الذي أطلقه كل على فصيله، فراحت تلوح في الأفق ملامح انقسام غير بريء في المجتمع كان له من يديره في الخارج، وتعددت جهات الدعم وتعددت معها توجهات الفصائل، فكل فصيل يتلقى دعماً خارجياً كان منفذاً لأجندة الداعم طوعاً أو كرهاً، فالمال سبب وتوفر الذخيرة سبب، والتوافق سبب وعدمه سبب، والداعم جهة خارجية مجهولة للجميع حافظ على سريتها أمين سرّها الذي يتواصل معها، وقد يكون البعض منها عدواً للثورة وأهدافها، ومنها إيران والنظام وحتى إسرائيل، كلها كانت جهات داعمة للثورة وتنفذ رغباتها من خلال عملائها، الذين يعدّون داخل الثورة قادة.

بعد فوات الأوان

 على الضفة الأخرى من النزاع، راح يتضعضع جيش النظام جراء الهزائم المتتالية وانشقاق الكثير من الضباط وصف الضباط وتهلهل الحالة المعنوية لدى باقي عناصره وضباطه، مما حدا بالقيادة للجوء إلى الفكرة الإيرانية في تطويق المدن والقرى الـثائرة، وتطبيق الحصار عليها لتقليل الحاجة للعناصر، وللضغط على الأهالي من خلال التجويع وحرمانهم من أساسيات الحياة كالماء والكهرباء والمحروقات وغيرها من الضروريات، وفي الوقت نفسه استدعى النظام الدعم من إيران التي أعدت العدة لهذا الظرف وجهزت أدوات دعمها المختلفة، فالتدخل جزء هام من خطتها التي تعمل لها منذ عقود وهي تحقيق الهلال الشيعي من مزار شريف إلى البحر المتوسط مروراً ببغداد ودمشق وبيروت.

كما فعّل النظام في هذه الفترة منظومة عملائه التي تأثرت كثيراً بما حصل الأرض، ولكنه استطاع استعادتها مع إحياء الموات منها، فقد استعاد منظومة “الكفترجيين” الذين كان قد أهملهم بعد وفاة شيخهم أحمد كفتارو مفتي الجمهورية السابق، وجماعة الطرق الصوفية وبعض ضعاف النفوس من المشايخ الذين اشترى ذممهم بأثمان بخسة، وشغّلهم مع عملائه ليكونوا خنجراً مسموماً في ظهر الثورة والثوار، وليفتكوا بها بتشتيت قرارها وبث الضغائن بين شبابها، وليجمعوا السوء بكل أشكاله وليكونوا الإسلامويين والعلمانيين بوقت واحد متحدثون باسم الدين ومنفذين لأجندات النظام، ولهؤلاء كرجال دين تأثير كبير على البسطاء، وكان النظام يعي هذه النقطة ويستغلها أحسن استغلال لاختراق الثورة بدءاً من أعلى قمة هرمها وانتهاءً ببسطائها، لتصبح الثورة مسيّرة من الخارج، ومخترقة من الداخل إلا القليل الذي بقي قراره مستقلاً نتيجة استقلال دعمه.

لم يكن يدور في خلَد أحد من الثوار أن الجهات الداعمة تلك- إن كانت جمعية خيرية أو فرداً أو لجنة إغاثية- تعمل للجهات المخابراتية الدولية، أو أنها جزء منها، ولا تعمل بوازع إنساني كما كنا نتصور، أو أنها تنحاز للثورة عقائدياً كما كان يتصور البعض الآخر.

لقد فهم الناس بعد فوات الأوان أن تلك الجهات التي تسمى داعمة كانت تجمع البيانات عن الفصائل وتعدادها وتبعيتها وتسليحها والأهداف التي تعمل لأجلها، لتضعها بين أيدي اجهزة أمنية دولية متخصصة لدراستها
وتحديد أساليب السيطرة عليها، وإخضاعها لتنفيذ أهداف تلك الجهات.
كما لم يكن أحد يعلم عدد تلك الجهات التي تبين أنها أكثر من أن نحصيها فهي تمثل أطماع العالم كله في أرضنا.
لم نكن ندرك أننا بسوريّتنا وعلى أرضنا نمثل أعداءً لمصالح جميع الدول، وتلك شكلت مفاجأة أذهلتنا إذ أننا لم نكن نعادي أحداً، ولا نكره أحداً، ونحترم الجميع.

لقد فُرض على المواطن السوري البسيط أن يكتشف كم هي معقدة شبكة مصالح الدول، وكم هي مترابطة ومتداخلة، لكن الأغرب في هذا الاكتشاف أننا كنا خارج هذه الشبكة من حيث الفاعلية، مع أننا كنا دائماً في مركز العقدة من تلك الشبكة.




المصدر