سأتوقف عن حب فيروز التي تحبون


مالك ونوس

في الغالب إنه كان ينتقم من أمه بكسر الصحون الجميلة التي تحب. شبَّ الولد وأصبح فتًى، ثم رجلًا، ودبَّ الشيب في شعرِ من كان ولدًا يكسرُ الصحون. أراد الرجل الانتقام من أصدقائه، لم يَطلْ صحونهم الجميلة التي يحبون كي يكسرها، فأرسل لهم رسالة على (فيسبوك) تقول: “سأتوقف عن حب فيروز التي تحبون”. ربما لم يقرأ أصدقاؤه الرسالة، ربما تخلفوا عن الدخول إلى صفحاتهم يوم كتب “البوست”، فما كان له ما أراد. قرأ محبو فيروز، من غير أصدقائه، الرسالة، فقالوا في سرِّهم: “هذا الرجل يحاكم نفسه ويحكم عليها بعقوباتٍ، منها التوقف عن حبِّ فيروز، ما لنا وما له، سنستمر بحبِّ فيروز”.

هكذا تجري الأمور، حين يعجز أحدٌ ما عن تحوير العالم كما يريد إزميله؛ فيحمل معوَلَه يريد تدمير ما يستطيع. انطلق يبحثُ عن هدفٍ، نظر إلى العمائر العالية؛ فهاله أمرها وتراجع مُخفيًا معوَلَه كي لا يراه أصحابها المُخيفون. توجَّه نحو البيوت الفقيرة فنَهَرَه سكانها الجالسون أمام عتباتها هربًا من حرِّ الداخل. لم يكن منه إلا أن قفل راجعًا إلى منزلهِ يريد تدمير ما يستطيع فيه. دخل إليه فرَقَّ قبله، حين تأمَّل أشياءه العزيزة على قلبه، وتذكر كم تعِبَ في بنائه، وتخيَّل نفسه متشرِّدًا في الطرقات إن دمَّره، وتخيَّل سخرية الآخرين من هدمه البنيان. استراح قليلًا، ثم ولج إلى حسابه على (فيسبوك)، كانت رغبة التدمير ما تزال مستبدةً به، سينتقم من أي شيء، فلينتقم من أصدقائه على الصفحة، الافتراضيين منهم والحقيقيين؛ فقرر في داخله وكتب على صفحته: “سأتوقف عن حبِّ فيروز”، غير دارٍ أنه يجلد نفسه بهذا الفعل، لأنه عجز عن جَلْدِ غيره.

لم يصدر هذا الكلام عن مراهقٍ، أنشأَ صفحةً على (فيسبوك) يعلن عبرها إقلاعه عن حب فيروز، لحصد أكبر عددٍ من الإعجاب، كما يهوى كثيرون في هذا العالم الافتراضي حاليًا، بل عن كاتبٍ يكتب المسرحيات والشعر، ويصدِّرُ إنتاجه في كتبٍ تُعرَض في المكتبات للمهتمين، كي يقرؤوها ويعجبوا بجمال قوله؛ فيكيلوا له المديح والكلامَ الجميل. ولكن لماذا يفعل ذلك كاتبٌ حصد الشهرة وكسب الاحترام والمكانة الحسنة لدى قرائه؟ من المؤكد أن الصفحة الزرقاء الجذابة والمغرية، واستسهال كتابة ما يعتمل داخلنا وسرعة إيصاله إلى أكبر عدد من الأصدقاء هو الدافع لإدماننا الكتابة اليومية، وربما اللحظية، على منبر هذه الوسيلة، ثم التصريح بأقوالٍ تحمل حقيقةً لم نعد قادرين على مداراتها، وهو ما يبدو أن كاتبنا قد وقع فيه.

وعلاوةً على معرفته أن الخوض في مواضيع إشكاليةٍ، مثل حبِّ فيروزَ، جاذبٌ للتعليقات والإعجابات، بل ربما يصل إلى الصحف التي قد تفرد تغطيةً له، فإنه ضامنٌ اشتعال المعارك على صفحته، وبروزه حَكَمًا، يمتلك أدوات منع التعليق أو حذفه أو الرد عليه كما يجب، إضافة إلى سهولة تنفيذه الاغتيالات المعنوية، من على هذا المنبر، بحظرِ المخالفين الرأي. غير أن سؤالًا يبرز في هذه الحالة، حول جدوى إشعال معارك من هذا النوع: أهو بحاجة إليها كي يكسب مزيدًا من الزوار لصفحته؟ أم أن ذائقته الجمالية، قد تدنت فعلًا، ولم تعد قادرة على هضم الأعمال الفنية ذات المستوى الجمالي العالي؟ وهذا ما يمكن أن ينعكس على إنجازه الكتابي، وعلى محتوى هذا الإنجاز ومستوى الجمال فيه، وهو الذي يُفترض أن يكون الجمال عنصرًا أساسيًا في تكوينه.

لكل امرئ ذائقته التي يكوِّنُها محيطُه، حيث تتدخل في تكوينها عواملٌ شتّى، فيرتقي بها باستمرار، عبر ترقية الإحساس الإنساني بجمال كل ما يحيط به، إحساسٌ غالبًا ما يكون طبيعيًا. أو أنه يحافظ على ذائقته من دون الارتقاء بها، فلا يستسلم للعوامل التي تعمل على جعلها تعود القهقرى، غير أنه يبقيها عند حدٍّ لا يفرِّط بالتراجع عنه. لكن هنالك من يدعها وشأنها، حيث تهبط إلى درك قُبحٍ ليس له قاعٌ، ولا يساهم هو بوقف تدهورها، كأنه يرغب في أن تتشظى وتزيح عنها أسسًا تحدد له ما يسمع أو يشاهد أو يقرأ. وتتحكم في تراجع الذائقة أسبابٌ وعواملٌ، قد تكون الحرب التي تهدِّمُ كلَّ بنيانٍ إنساني وحضريٍّ إحداها، ويصيبه من هذا التهدم نصيب، لا يقوى على مواجهته، إن لم يكن هو الراغب في اتساع رقعته.

غير أن للكاتب مسؤولية، تختلف عن مسؤوليات الآخرين. وطالما بقي مواظبًا على مهنته وصفته تلك، ويريد ممن حوله أن يتعاملوا معه وفق هذه الصفة؛ سيبقى موضعَ محاسبةٍ دائمةٍ على الهفوات التي من السهل مسامحة الآخرين عليها، فكيف، والأمر هنا يصيب مسلكًا أو بنيانًا جماليًا يعتبر عمل هذا الكاتب وإنتاجه مساهمةً في زيادة مداميكه. إنَّ مسؤولية الكاتب هنا مسؤوليةٌ مضاعفة، إن استهان بها، هان زجُّه في قفص الاتهام.

وأخيرًا، هل التوقف عن حب فيروز هو إقلاع عن هذا الحب؟ لا بد أن مَن يعلن ذلك يقر بأنه إقلاعٌ، وهذا إقرارٌ آخر بأنه إقلاع عن عادةٍ مستحكمة، غالبًا ما يكون المواظب عليها كارهًا إياها. فلا تكون -والحال هذه- فعل تلقي إنتاجٍ فنيٍّ فرض جماله علينا، فلم نعد نقوى على الفكاك منه، أو من مقاربته ذائقتنا التي عمل هو على رفعها، كما عملت مِسَحُ الجمال في فنونٍ أخرى.




المصدر