مبادرة سلام الجولان ولعنة التاريخ


أيمن أبو جبل

سيكتب التاريخ السوري الجديد، بعد استعادة الحياة المدنية والحضارية والإنسانية والقانونية في الوطن السوري، عن العديد من الأحداث والمواقف التي غيّرت مجرى تاريخه، سواء الكارثية أو البطولية، وسيُسجّل على صفحاته الدور الذي لعبته الشخصيات والوجوه السورية في تلك الأحداث، سواء في المواقف الوطنية أو الخيانية.

حين نتكلم عن سورية، فإننا نتكلم عن كل بقعة جغرافية في الوطن السوري، حددتها حدود الاستقلال السوري، بما فيها لواء إسكندرون المحتل، والجولان المحتل، وعلى الرغم من التنافس المحموم اليوم بين القوى الإقليمية والدولية، على احتلال كل سورية، وتقطيع أوصالها إلى أقاليم ومناطق نفوذ، تتبع كل على حدة إلى سياسة إحدى تلك القوى التي تسعى لنيل حصة عسكرية وسياسية واقتصادية من الوطن السوري، في ظل أولوية رأس النظام الحاكم بالبقاء رئيسًا، حتى وإن كان شكليًا في ظلّ الاحتلالات الأجنبية، في حالة تشبه إلى حد كبير رئاسة محمود عباس للسلطة الفلسطينية، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، مع اختلاف أن النظام، والمتطرفين في المعارضة المسلحة في سورية، ارتكبوا مجازر وفظائع بحق الشعب السوري؛ فخسر كلاهما سورية وتدمرت، واغتنمها على طبق من فضة الاحتلال الروسي والأميركي والإيراني والإسرائيلي، فيما السلطة الفلسطينية وحركة حماس لا تتعدى موبقاتهما بحق الوطن الفلسطيني الانقسام السياسي والجغرافي، والتصفيات السياسية والجسدية، والاعتقالات التعسفية التي رافقت الانقلاب الحمساوي، والاستيلاء على السلطة في قطاع غزة، واغتنمت “إسرائيل” المزيد من الانتصارات والنتائج، في نهضة وترسيخ المشروع الاستعماري في فلسطين.

في الحرب السورية، اختلط الحابل بالنابل، وانهارت القيم والمعايير الأخلاقية والإنسانية والوطنية، وسبّب هذا الأمر ارتفاعًا في “بورصة” تُجّار الحرب، وتُجّار السلام على حد سواء، باسم الوطنية السورية، ومحاربة الإرهاب والتطرف، واستعادة الأمن والأمان، وإعادة بناء الدولة السورية، سواء في مؤتمرات ترعاها قوى الاحتلال، أو مبادرات خيانية، تمتد للقضاء الكامل على أيّ آمال وأحلام في تحقيق انتصار أهداف الثورة السورية التي انطلقت من أجل استعادة سورية إلى السوريين، ونهاية عهد الاستبداد الذي استأثر بالسلطة والوطن والإنسان السوري، وكل المقدرات والخيرات الوطنية.

لقد أفرزت الحرب السورية صفحات سوداء من الجريمة الإنسانية، التي أنتجتها أسلحة الدمار والموت التي استخدمها النظام وحلفاؤه ضد الشعب السوري، وجرائم سياسية، تُنفذها مجموعات من العملاء الصغار، عبرت عنها  بمشروع  تافه وذليل، باسم “خطة سلام الجولان” مع الاحتلال الإسرائيلي، في محاولة لاستكمال ما بدأه النظام و”إسرائيل”، في طمس الحقائق والوقائع حول الجولان المحتل، ومهجّريه في مخيمات الوطن، ومحاولة فصله عن القضية الوطنية السورية، مشروع  هو بمثابة خنجر في قلب الوطن والشعب السوري، وأهالي الجولان المحتل والمهجرين والنازحين. فـ “إسرائيل” ونظام البعث الحاكم هما مشروعان يُكمّلان بعضهما البعض، ومن أراد ويريد الحرية والخلاص لشعبه، فإنه يرفض وبشدة كل أشكال الاحتلال والاستبداد على السواء، حيث لم يقرأ أولئك تواريخ الخيانات المحلية والإقليمية في الماضي القريب والبعيد، في لبنان وفلسطين على وجه التحديد، فإن نجحت  تجربة العميل “أنطوان لحد” في لبنان، فإنها ستنجح في الجولان، وإن نجحت  تجربة روابط القرى في فلسطين، فإن خطة السلام التي يروجون لها ستنجح في الجولان، وفي كلتا الحالتين تخلت “إسرائيل” عن “عملائها”، بعد انتهاء خدماتهم وصلاحية عملهم، وتركتهم لمصيرهم وحدهم، بالقرب من مزابل تل أبيب.

التجارب القريبة والبعيدة عبر التاريخ، والتجربة الإسرائيلية، تؤكد أن الأطراف القوية، وقت الأزمات، سرعان ما تتخلى عن “صبيانها” الذين يهرولون إليها، ويصفقون لها، ويحلمون بنيل نِعمها، وكسب ودها.

كان على أولئك “الصغار”، قبل الإعلان عن خطتهم الذليلة والرخيصة للسلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، مراجعة التاريخ القريب حولنا، فخطة السلام الهزيلة المقترحة، هي مجرد “نكتة رديئة”، لا تتعدى كونها مشروعًا لبناء “مستوطنة إسرائيلية” كالمستوطنات القائمة على أنقاض القرى السورية في الجولان المحتل، ومن لا يقرأ الخارطة السورية بشكل صحيح، فإنه سيكون هو ذاته ضحيتها في المستقبل، حين لا ينفع الندم، فالجبناء لا يملكون القدرة على صناعة التاريخ، كما أن “الصغار” لا يستطيعون صناعة سلام، ولم تُبن الأوطان يومًا عبر التاريخ بأيدي العملاء.

ليس غريبًا أن يتزامن الإعلان الإسرائيلي عن إجراء انتخابات في المجالس المحلية في قرى الجولان السوري المحتل، من قبل وزير الداخلية الإسرائيلي، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، لشرعنه الاحتلال الإسرائيلي، مع  إعلان مسودة “مبادرة سلام الجولان”، وهي مبادرة -كما وصفها أصحابها- “سياسيّة أهليّة باسم أبناء الجولان كاملًا أينما وجدوا”، وقد قوبلت هذه المبادرة بردّات فعل عنيفة على صفحات التواصل الاجتماعي، بين المؤيدين والمعارضين، داخل الجولان المحتل وخارجه، وبين أصحاب المبادرة الذين زاروا “إسرائيل” والجولان، وتجوّلوا على خط وقف إطلاق النار وداخل القرى السورية المحتلة، وزاروا عدة مستوطنات إسرائيلية في الجولان السوري المحتل، حيث اعتبر الرافضون لتلك المبادرة أنها تُعبّر عن مجموعة من العملاء الصغار، ولا تستحق الوقوف أمامها، لأن تجارب التاريخ تؤكد أن “إسرائيل” لن تُكرر تجربتها مع جيش لبنان الجنوبي، والعميل أنطوان لحد، ولن تُجازف وتتورط في الوحل السوري، فيما اعتبر مؤيدوها أن العرب جرّبوا كل أشكال الحرب والقتال والمقاطعة مع “إسرائيل”، ولم يُفلحوا في شيء سوى استغلال وجود “إسرائيل”، لقمع شعوبهم والاستئثار بالأوطان والسلطة، بالحديد والنار، وأن القوة الوحيدة القادرة، وصاحبة المصلحة الأكبر في وقف تمدد الاحتلال الإيراني في سورية والجولان، هي “إسرائيل”، لما تُشكّله إيران وتنظيماتها من خطر على أمن المنطقة وأمن “إسرائيل” وسورية معًا، كما يتوهم أصحاب هذا الرأي.

قد تكون مسودة “مبادرة سلام الجولان”، وتوصيات المؤتمر الذي عقدته شخصيات سورية، وشملت الاعتراف بـ “دولة إسرائيل على حدود العام 1967″، و”إعلان الجولان منطقة آمنة تحت حماية دولية”، مجرد فقاعة إعلامية، وطموحات شخصية، أو حتى خطة إسرائيلية على المدى البعيد، لتعزيز وتكريس تقسيم سورية إلى كيانات وجمهوريات موز، تستفيد منها القوى الإقليمية في المنطقة، إلا أنها -دون أدنى شك- تثبت حجم الكارثة الوطنية والأخلاقية والإنسانية والسياسية السورية التي تلقي بظلالها على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، في الكثير من دول العالم التي لجأ إليها السوريون الهاربون من موتهم، داخل وطنهم المحترق.




المصدر