مرآة لا تنام


نجيب كيالي

أمامَ مشاهدِ المأساة في سورية، انطلقتْ من حَنْجرته صرخة، ذهبتْ شرقًا وغربًا، ثم تجمَّدتْ في مرآته!

ثلاثةٌ وعشرون عامًا عمرُهُ، واسمُهُ: فوزي. الاسم مكانٌ لسخريته، فهو لم يَفُزْ بأيِّ شيءٍ في حياته!

لو كانت الأسماءُ أمامه في علبة لاختارَ اسمًا آخرَ يليقُ بخسائره المتلاحقة، وبالأمنيات الميتة على بابه.

تسألُه المرآةُ: مَنْ أنت؟ فيجيب: أنا لاجئ. قَذَفَني وطني من فمه، كأنني سنٌّ منخورة، أو كرةُ لُعابٍ، لا قيمةَ لها!

ساخرةً تقول له: أنا سأجبرُ خاطرك. سأسمِّيكَ: مَلِك العذاب. مَلِك. ما رأيك؟

تتحرر عندئذ صرختُهُ المتجمِّدة، يصفعُ بها وجوه الأشياء، والجدران، والشوارع، يصرخُ، ويصرخ حتى تصابَ حَنْجرتَهُ بالبحَّة!

في الليل يقرأ المُعَوِّذتين، لعلهما تحميانِهِ من هجمات مرآته اللعينة.

يأتيه صوتُ أبيه: كنْ قويًا.

يأتيه صوتُ أمه: عطِّرْ قلبَكَ بماءِ الزهر، فالشياطينُ تهربُ من الروائح الطيِّبة.

ينامُ بارتياحٍ على فراشه، شَخَراتُهُ تُسعد والديه، تبعثُ فيهما الطمأنينة.

في الثالثة ليلًا، يتسربُ إلى رأسه شعاعٌ مرعبٌ، قادمٌ من مرآته، ثم يجد نفسَهُ أمامها وجهًا لوجه، تهتف به:

– تنامُ هانئًا؟ يا للعار! تنامُ؟ وعندي لكَ أسئلةٌ مهمة! بالأمس سألتُكَ: مَنْ أنت؟ واليوم أسألكَ: أين تسكن؟

يتلعثمُ فوزي، يتلفَّتُ حولَهُ، كأنه ينتظرُ عَونًا من جهةٍ ما، تصيحُ به المرآة:

– أنا سأخبركَ أين تسكن؟ مسكنُكَ ليس على الأرض. إنه فوقَ ورقة صغيرة جدًا، اسمُها: (كَمْلِكْ)! على ظهر هذه الورقة تأكل، وتشرب، وتبني أحلامَ المستقبل! بالله عليك قل لي، حين تنام على ورقتك الصغيرة أين تضع رجليك؟ وأين تمدُّ ذراعيك؟

تتحرر الصرخةُ المتجمِّدةُ في المرآة، تلتحمُ بحَنْجرة فوزي، تخرجُ من فمه قويةً، هائلة وهو فوق الفراش، فتوقظُهُ، وتوقظُ أبويه!

تحتضنُهُ الأم، بينما صوتُ المرآة يلاحقُ أذنيه:

– أُذكِّركَ فقط.. للحمار وطنٌ، اسمُهُ: الإسطبل، وللفأرة وطنٌ، اسمُه: الجُحر. أما وطنُكَ أنتَ فدونَ ذلك.. دونَ ذلك!

بعد دقائق يتمالكُ نفسَهُ، تأتيه أمه بمنشفةٍ مبلولة تمسحُ بها وجهه. أما أبوه فيتمتم:

– لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، كلَّ يومٍ صرخةٌ هكذا في منتصف الليل! أصبحنا نخجلُ من جيران الحي.

في اليوم التالي يقرر: لن يسمحَ لصرخة ليلية أن تخرجَ منه.. إكرامًا لأهل الحي، لأبيه الغالي، لنفسه المُتعَبة.

يأخذ حبةً للاسترخاء، يشربُ كأسًا من النعناع، يُقلِّبُ في رأسه دفترَ ذكرياتٍ حلوة، فربما يَكوْنُ ذلك كلُّه سدًّا بينه وبين مرآته المخيفة.

تمدُّ خيوطُ النوم نفسَها نحو أجفانه، تأخذُهُ موجةُ سباتٍ مريح، تَقْلقُ المرآة، تحاول أن تفعلَ به ما تفعلُهُ كلَّ ليلة، لكنها تفشل في البداية.

عند الرابعة صباحًا تنجح إحدى محاولاتِها. بريقُها المزعج ينعكسُ على صفاءِ روحه، تتقدمُ منه وهي تسأله:

– هييه.. نسيتَ ما جرى معكَ اليوم في مكان العمل؟ صاحبُ المحل شَتمَكَ قائلًا: سوري.. سوري! فعلَ ذلك بعد أنْ أخطأتَ، فناولتَهُ بنطالًا أزرقَ بدلًا من الأسود. هل تعرف؟ سوري عنده معناها: غبي، أو حمار، أو متخلف، أو إنسانٌ نتسلَّى بإذلاله، ويسكت! وبالفعل هو يعطيكَ نصفَ أجرٍ. لماذا؟ لأنكَ سوري! بنصفِ ابتسامة يقابلكَ صباحًا. لماذا؟ لأنكَ سوري! بنصفِ يده يصافحُكَ. أيضًا لأنك سوري! وأنتَ تَقبلُ.. تَقبلُ.. تَقبل! لأنك ذليلٌ بامتياز، ذليلٌ بسبعةِ نجوم!

تنتفضُ روحُ فوزي، تتحررُ الصرخةُ من مرآته، تملأ حَنْجرتَهُ، ومن فمه تنطلقُ كزوبعة، تخترقُ نوافذَ البيت وحيطانَه! يصحو لاهثًا، فيسمعُ صرخاتٍ أخرى تشبُهُ صرختَهُ، كأنها تحررتْ من مراياها.. صرخاتِ سوريين في الخيام، أو في بيوتٍ لا تشبه البيوت، أو في العَراء، صرخاتِ بشرٍ عَرَّى لحمَهم وعظمَهم عشاقُ السلاح، وزعرانُ الثورات، ومؤخراتٌ تُحالفُ الكراسي، وكتلةُ قيحٍ متجمِّدة، اسمُها: ضميرُ العالم! يخيِّل لفوزي أنَّ أمَّه وأباه يصرخان أيضًا!

ترتفع الصرخاتُ في السماء، كأنها مظاهرةٌ تحت النجوم! تَقْدُحُ نارًا!

من الأعلى يهتف ملاكٌ مُسترحِمًا: يا رب.

في تلك اللحظة تمرُّ سحابة، تُرخي جدائلَ المطر، كأنها تحاولُ أن تُبرِّدَ القلوب.. أن تُطفئَ نارَ الحناجر، لكنَّ الصرخاتِ تتواصلُ، تتواصلُ، تتواصل!




المصدر