موقع الثورة السورية من استراتيجيات السياسة الخارجية للقوى العظمى (ألمانيا)


رعد أطلي

كلما ازداد عمر الثورة السورية يومًا آخر، ازدادت معه تعقيدات تداخلات وتناقضات السياسة الدولية حول الملف السوري، وما إن يتسرب من الغرف المغلقة إلى الإعلام بوادر حل في سورية، حتى تتداعى ظروف تنفيذه على الأرض لصالح جهات معينة خارجة عن نطاق ذلك الحل، والكل يتساءل عما تريده القوى العظمى من سورية، وما هي الخطوط العريضة التي ترغب في تثبيتها بما يضمن مصالح الجميع، في حال توقفت الحرب. من الصعب التكهن بسياسات تلك القوى التي تقود سياساتها الخارجية ضمن منظور عالمي، يأخذ في إطار المعالجة المتكاملة لتلك السياسات القضية إلى مناطق بعيدة، وقد تكون حتى مخفية مرتبطة بمصلحة كل من تلك القوى على حدة، إلا أنه في الوقت نفسه فإن القوى العظمى لا تمتلك سياسة خارجية مزاجية أو متعلقة بمصالح آنية، فعلى الرغم من وجود تكتيكات خاصة بظروف راهنة، فإن تلك الدول تمتلك مؤسسات للسياسة الخارجية صاحبة تراث عريق واستراتيجية ثابتة تسير من خلالها، فلكل دولة محور ثابت للسياسة الخارجية تدور حوله كل العلاقات والعمليات والمصالح والمعاهدات الخارجية التي تتبناها الدولة، ويتعلق ذلك المحور بشكل رئيس بالجيوبوليتيك وطبيعة النظام المحلي لكل دولة، وطبيعة النظام الدولي، وتحاول تلك المادة أن تتقصى مدى تأثير استراتيجيات السياسة الخارجية لمحاور الصراع للقوى العظمى على القضية السورية.

بنت القوى العظمى استراتيجيات سياساتها الخارجية، مع بداية تكون النظام العالمي الجديد، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي الذي أنهى الشكل “الوستفالي” الإمبريالي للعلاقات الدولية، على قاعدة سياساتها السابقة، ولكن برؤية جديدة تتناسب مع ما فرضته طبيعة النظام الدولي الجديد، وتداعيات انهيار النظام القديم، وتعد أوروبا وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة هي قوى أكثر ضلوعًا في الملف السوري من القوتين الأخريين، الصين واليابان، واللتين لهما أيضًا أسبابهما التي تفرضها استراتيجياتهما في السياسة الخارجية.

لعب موقع ألمانيا الجغرافي في وسط أوروبا، عبر تاريخها، الدورَ الأكبر في شكل السياسية الخارجية الألمانية، فهي تتوسط أوروبا وتحيط بها الإمبراطوريات تاريخيًا: روسيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا-المجر. ومنذ القرن السابع عشر تحت قيادة فريدريك الأكبر وحتى الحرب العالمية الثانية، حكمت لعنة الجغرافية السياسةَ الخارجية الألمانية، وحددت تناقضاتها المثيرة التي لم تشهد قوة عظمى مثلها، وما زالت إلى اليوم تلك اللعنة ماثلة في وجهها، وكانت ألمانيا دائمًا قادرة أقوى من أي من جاراتها، وقادرة على هزيمتها منفردة أو متحالفة مع جارة أخرى، ولكنها ظلت أضعف من أن تهزم جيرانها كلهم دفعة واحدة، وهذا ما سماه المستشار الألماني أوتو فون بسمارك مؤسس الرايخ الألماني الثاني بـ “كابوس الائتلافات”، والذي عمل دائمًا على تفاديه، وما دامت إلى اليوم ألمانيا قادرة على اتباع سياسة بسمارك، في تفادي الكابوس، فستبقى قوة عظمى، ولكن سرعان ما تنهار تحت ضربات التحالفات، في حال أخلت بوصيّة رجل ألمانيا الأول. بقيت ألمانيا قوية في هجومها دائمًا، ضعيفة في دفاعها؛ مما جعلها مطمئنة أثناء الهجوم، متقهقرة في لحظات الدفاع، ولطالما أرقت عظمتها جاراتها، وفي مقدمتهم فرنسا، وكلما شعرت بالقوة، أخلت في الاتفاقات التي ربطتها بمعاهدات أحادية مع جيرانها، روسيا وفرنسا على وجه الخصوص، لتتدخل معهم بريطانيا التي طالما حظيت بأوروبا منافسة بشكل ضعيف متمثلة بفرنسا، وكلما تمردت ألمانيا الإمبراطورية الشابة على النظام القديم الذي تقاسمت عبره الإمبراطوريات الأخرى فضاءات العالم الاستعماري، كان الرد دفاعيًا يتحول إلى هجومي كاسح يعيدها إلى نقطة الصفر. بعد الحرب العالمية الثانية استفادت ألمانيا من طريقة النظام العالمي الجديد في التعامل مع الخاسر في المعركة، بإسقاط الالتزامات والتعويضات وخسارة الأراضي، وأفادها بشكل أكبر قرار منعها من التسلح، بهدف طمأنة جارتها فرنسا بالدرجة الأولى؛ فاتجهت إلى التطوير الاقتصادي والصناعي مستفيدة أيضًا بشكل كبير من الحرب الباردة لاحقًا، وعلى الرغم من أن تلك الحرب شطرتها إلى شطرين، ولكنها منحتها دعمًا كبيرًا من الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وحماية لها منه، وميزة عن جيرانها الآخرين في أوروبا، دعمًا سمح لمستشاريها ووزراء خارجيتها بعد الحرب بأن يضبطوا تلك العلاقة التي لطالما رغبت بشكل شديد بأن تحكمها، وهي علاقة الشرق مع الغرب في أوروبا، الاتحاد السوفييتي وأميركا، ودفع الأخيرة إلى قرار إعادة تسليحها، ولو بمستويات محدودة، إلا أن ألمانيا التي تعلمت درسها جيدًا ظل كابوس الائتلافات هاجسها الرئيسي، ولذلك سعت لتشكيل الاتحاد الأوروبي، وكانت متحمسة له، وبطبعها الذي يميل للهيمنة تمكنت ألمانيا من “ألمنة” أوروبا، بحجة “أوربة” ألمانية، فاليورو الأوروبي ليس سوى المارك الألماني بحلة جديدة، حيث كان المارك هو التربة التي نبت منها اليورو، وكان البنك الأوروبي نسخة أشمل عن البنك الاتحادي الألماني، وبذلك تمكنت ألمانيا من القضاء على كابوسها من خلال الاندماج، وفرض هيمنتها الاقتصادية بدلًا من الهيمنة العسكرية التي طالما فشلت في فرضها؛ الأمر الذي حماها من نفسها قبل أن يحمي جيرانها منها، واتجهت ألمانيا إلى الاقتصاد لتشكل قوة عظمى من خلاله، قوة عظمى تمشي بهدوء بين القوى الأخرى، ولا يعجبها ذلك اللقب الذي قد يعيد تهديد الائتلافات ماثلًا في وجهها، وباتت ألمانيا القوية المبادرة للحروب، وخاصة بعد نهاية الحرب الباردة التي أسقطت عنها ميزة عراب “الشرق-الغرب”، تُجَرُّ إلى الحروب جرًا كما شهدت حرب البوسنة، وبالرغم من أن للأوربيين مصلحة استراتيجية في سورية، من خلال مصادر الطاقة التي تشكل سورية فيها إما مصدرًا أو ممرًا، فإن ألمانيا ترفض أولًا الخروج عن القرار الأوروبي حتى تُبقِي على وحدته، وثانيًا ترفض الخوض في حرب تعرّفها قوة عظمى مرة أخرى، مما يغريها ويؤرق مَنْ حولها، وعلى الرغم من أن شكل العلاقات الدولية اختلف عما كان عليه قبل الحرب العالمية الثانية، فإن الجيوبولتيكيا باقية، وشبح الحرب دائمًا ماثل أمام ألمانيا التي تعلمت أن التنبؤات من ضعف احتمالية الحروب قبل نشوئها لم تمنع حدوثها، وهي التي لا تملك قوة الردع النووية كغيرها إلا بالمشاركة عبر الناتو وأوروبا، أي ضمن القرار الأوروبي، وتبقى على مسافة مناسبة من الولايات المتحدة أحد أكبر الزبائن المستوردين، وتحافظ ولو بدرجات أقل عما كانت عليه سابقًا من الدوران في فلك واشنطن، وخاصة بعد صعود الدب الروسي الجريح. من هنا يأتي تأثير ألمانيا على الملف السوري ضعيفًا، يتحدد أولًا بالقرار الأوروبي وبالرؤية الأميركية ثانيًا حتى لو خالفها، وتجنح ألمانيا للابتعاد عن الحروب، ولكنها لا تنفض يديها من مصالح متوخاة من سورية، فقد استقبلت الحصة الأكبر من اللاجئين السوريين في أوروبا، ودربت مؤسساتها العديد من الناشطين والسياسيين السوريين في الحقل العام، ووظفت جزءًا كبيرًا من جهدها الأمني لمراقبة تحركات الجماعات والعناصر الراديكالية التي تدخل وتخرج من سورية، وشاركت قواتها في قوات التحالف ولو بأعداد متواضعة، وقدمت استشارات عديدة للعديد من الفصائل المعارضة للنظام، وتعتبر بلدًا مفتوحًا لداعمي حزب (ب ي د) في سورية، إلى جانب أن أول ما تحدثت عنه ألمانيا منذ انطلاق الثورة هو “اليوم التالي”، أي ما بعد نهاية الثورة، ولذلك فهي جاهزة وتمتلك الحق من خلال ما سبق في المشاركة في مرحلة إعادة الإعمار، وبخاصة أنها ستصدر العديد من الخبرات السورية التي تدربت وتعلمت في ألمانيا أثناء استقبال اللاجئين، ناهيك عن فوائد مرجوة من اللاجئين، إحداها السعي لإغلاق العجز الذي تعانيه ألمانيا في الكادر الطبي عبر الأطباء السوريين اللاجئين إليها.

حسب استراتيجية السياسة الألمانية؛ فإن وحدة الاتحاد الأوروبي تأتي في المقام الأول، وعدم الخوض في حروب تجعل منها قوة عظمى في المقام الثاني، والإبقاء على الولايات المتحدة حليفًا ما أمكن ذلك، والسعي عبر الناتو لتأمين شرقي أوروبا من روسيا، وبخاصة بعد ما حدث في القرم وأوكرانيا؛ ما يجعلها أشبه بالعاجزة عن التأثير المباشر في الملف السوري، إلا في نطاق العمل الإنساني والتجهيز لمرحلة ما بعد الثورة.




المصدر