ميشيل بوتور الذي انتصر على الموت

29 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
7 minutes

دعد ديب

[ad_1]

لعبة الموت التي صارعها، بقوله: “كل كلمة نكتبها هي انتصار على الموت“، تجعل ميشيل بوتور -التسعيني الذي رحل صيف العام الماضي- حيًّا متجددًا ككائن اكتشف سر الخلود باعتبار الكتابة فعل حياة وديمومة، لاختراق وكسر السائد والمألوف، وفنًّا لتحطيم الحواجز ورصد العالم نفسه في حالات تغيره، مسكونًا بهاجس التجريب والتنويع، في سائر أعماله الأدبية من شعر وسرد ونقد.

بوتور الذي تصدّر أعلام ما سمّي بتيار الرواية الجديدة، على الرغم من نفوره من التأطير في التسميات، رغبة منه في الانعتاق من أسر التنميط وقولبة المفاهيم؛ حيث شغله العمل على تحطيم مرتكزات أساسية في البناء السردي التقليدية، من تسلسل زمني للأحداث وحبكة وخواتم سعيدة، عن أن يتم اختزاله في تيار ومفهوم محدد.

لعل روايته (التحول) الحائزة على جائزة (رونودو) لعام 1957 مثال بارز على تجاهل دور العقدة في الرواية، ورفض إعطاء أهمية مركزية للحبكة في السرد، حيث لا يعير رواد الرواية الجديدة أي اعتبار للحكاية أو الحدوتة التي تنتظر نهايتها. فصاحب ممر “ميلانو” لديه ولع في تأثيث المكان، المكان الروائي بالتفاصيل الوصفية للأشياء، الجو، الألوان، الزمن في تقطعاته، فالقطار الذي يستقله “ليون دلمون” -الشخصية المحورية في العمل- يتم وصف دقائق حيثياته بإسهاب حسي لموجودات المكان، من مقاعد وأرفف وصالات طعام، إضافة إلى ما ينجم من ضجيج وصخب وتفاصيل لحركة المسافرين معه، وإعطائهم أسماء وسيناريو متخيل لحياة كل منهم، ومن ألوان كامدة توحي بمناخ نفسي يتلون فيه البطل، كمقدمة للدخول إلى عوالمه النفسية، عبر مونولوج طويل يستمر خلال الرواية كلها، منسجمًا مع رأيه: “إن للأشياء تاريخًا مرتبطًا بتاريخ الأشخاص“، لينعكس فهمه هذا على الأمكنة والأحاسيس وخيارات العيش والوجود.

يركب القطار من باريس إلى روما ليلتقي حبيبته، ويفاجئها بقرار الانفصال عن زوجته وأولاده، واختيارها ليمضي بقية حياته معها، بعد أن اجتهد في ترتيب عمل وإقامة لها في مدينته، حيث تبدأ تداعيات لذكريات غامضة وقديمة، بكيفية نشوء علاقته بزوجته “هنرييت” التي أخذت فرصتها بالتوهج في أمكنة أحبها، ليقوده الشريط المتخيل لحياته القادمة إلى استنتاج، بأن علاقته مع “سيسيل” سيصيبها الفتور والملل وسيعاود الكرة بما يشابه ما عاشه مع أم أولاده، ليتوه في علاقة الأمكنة بالخيارات والمشاعر. فكل مكان له سحره الخاص وإشعاعاته الحسية التي ترخي جوًا حميميًا، قد لا يتوفر لمكان آخر القدرة على خلق الانسجام والسعادة ذاتهما مع الشريك، لأن الإحساس -وإن بقي كيمياء غير مفهومة- ذو علاقة كبيرة بظروفه ومكانه والمناخ النفسي الذي نشأ وتطور فيه، في ازدواجية وبعد نفسي لقطبي المرأة/ المدينة، بتداخل متواتر لعلاقته بكل منهما، وارتباطه الموزع بين امرأتين ومدينتين.

ضمير المخاطب الذي يستخدمه على طول الرواية ببراعة، استفاد منه في إقحام القارئ بالمناخ السردي المحكوم بتطور الوعي المتدرج الناجم عن حوار داخلي للبطل مع نفسه الذي يكتشف ويكشف بواطن الأمور بشكل تدريجي ومتتابع، وإنه -أي القارئ- معني تمامًا بموضوع يتوجه إليه بشكل مباشر.

لعبة الزمان والمكان التي لعبها بوتور من حيث التناظر بين الضيق والاتساع، بين المحدود واللامتناهي، بين الثابت والممتد، حيث المكان فضاء مغلق هو عبارة عن عربة القطار فقط، تتوزع الحركة بين مقعده وصالة الطعام، ولكن الحوار الداخلي يقودنا إلى فسحة براح، من رحلات عدة سبقت رحلته الآنية، وصبغت إحساسه بتوهج أمكنة بين روما الآسرة بإرثها الفني ومتاحفها المزدوجة التاريخ بين روما المسيحية وروما الوثنية التاريخ والعشق، في مدينة خالصة للحب والهيام، روما المدينة التي كانت مركز السلطة والإمبراطورية التي انتقلت بعدها إلى بيزنطة، وبعدها إلى باريس التي سبق مروره فيها مع زوجته، وانطبعت في ذاكرته محيية زمنًا نابضًا كان ذات شباب.

الزمن المحدود الذي بدأ منه -وهو زمن الرحلة- يمتد ويتشعب في أزمنة حياته الماضية في تشابكها؛ حيث تتنادى الأماكن التي مر بها عبر ماض عبره، وهو غير معني بتسلسله، وإنما بالمعنى المتبقي من تجواله في فضاء عقله، هذا المسافر الذي تستغرقه الأحلام لترده إلى ماض مزدوج للمدينة الحب والعراقة، في مخاطرة لاختيار هذا الأسلوب من الكتابة، والتعبير عن تلونات الوعي التي يصل إليها بعد مكابدات مضنية بالحوار والمشابهة.

والقارئ الذي ينتظر بشغف لقاء الحبيبين، وفق الخطة التي رسمها البطل، لن ينال مراده لأنه حسم أمره في النهاية، بعد حوار طويل مع نفسه، بعدوله عن المخطط، لأن العلاقة الجديدة ستتحول إلى ما يشبه زواجه الأول، وتفقد حميميتها التي ارتبطت بظلال مكان آخر وظروف أخرى، ولا مهرب من الملل الذي سيصيب أي علاقة مهما كبرت.

الكتاب الذي ظل بين يديه، ولم يفتحه طوال الرحلة، يشي بالفكرة التي وصل إليها، وهي المنارة التي يومي إليها بوتور بشكل خفي، والهاجس المستوحى من ملاحقة الصائد الكبير للمسافر في حلمه، توحي بخلاصة فهمه للقادم من أسفار الحياة، ألا وهي فعل الكتابة، تأليف كتاب ربما يكون الهداية والبوصلة لحل لغز المدينة في خاطره وخصوصية تعلقه بها، المدينة في أوج جرأتها وضياء أسطورتها، حيث سيبقى أبدًا موزعًا بين امرأتين ومدينتين، ومن خلاله يستطيع الإفصاح عن رغباته والتعبير عن أفكاره، بعيدًا عن لغة التجارة والآلات الكاتبة، وهو في الوقت ذاته المشكلة الأكثر تعقيدًا لحساسية خلق توافق وعي مع وعي آخر، ضمن توليفة مركبة للأفكار والمشاعر التي يعبر المرء بها، وهو يسلك طريقًا إلى غاية أخرى.

فهل توصلت إلى وعي الغاية الأهم والأعمق؟ سؤال مفتوح ومستمر.

[ad_1] [ad_2] [sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]