الإرهابُ باقٍ ما بقي الظلمُ والاستبدادُ


ميشال شماس

إذا كان لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، ولا يشحذ الألماس إلا الألماس؛ فإن النّار لا تُطفئ النار، بل تُبقيها جمرًا تحت الرماد، يمكن أن تشتعل من جديد، متى تهيأت لها الظروف والأسباب وما أكثرها، هذا الكلام ينطبق تمامًا على ما يسمونه اليوم بمعركة الحرب على الإرهاب.

مهما بلغت الطائرات والصواريخ والدبابات من القوة؛ فإن أقصى ما يمكن أن تفعله هو القضاء على نفوذ الإرهابيين واستعادة الأراضي والمناطق التي سيطروا عليها في هذه الدولة أو تلك، لكن بعد تدميرها وتسويتها بالأرض وقتل وتهجير سكانها، كما حصل في الموصل وما يحصل حاليًا في سورية، ولا سيما في الرقة ودير الزور ومناطق أخرى من العالم.

ربما لا ينقضي هذا العام أو العام القادم إلا وقد حطّت الحرب على الإرهاب رحالَها على ذكريات مروعة ومفجعة نرويها لأجيالنا القادمة، لكنّ الإرهاب -بوصفه ظاهرة- سيبقى يطل برأسه بين الحين والآخر، وقد يكون بشكل أكثر قسوة، طالما بقيت الحرب على الإرهاب تقتصر على القوة العسكرية فقط، دون أن تترافق مع معالجة الأسباب التي ساهمت في نشوء هذا الإرهاب “كالتسلط والاستبداد في الحكم والقمع والاعتقال ونهب الثروات وتبدديها”، هذه الأسباب وغيرها هي التي اتكأ عليها الإرهاب في ظهوره، بهذا الشكل المروّع الذي عصف -وما زال يعصف- في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط خصوصًا. يضاف إليها الدور القذر لبعض الدول المشاركة في معركة الحرب على الإرهاب ومساهمتها في خلق هذا الإرهاب، وهي تستغل مشاركتها هذه المعركة، لتحقيق غايات وأهداف ليست بريئة تمامًا.

يتساءل كثيرون: هل حان وقت التخلص من الإرهاب؟ وهل باتت الرغبة متوفرة فعلًا للقضاء على هذا الإرهاب؟

مِنَ السخف حقًا أن نصدق أن تلك الدول التي تقود اليوم الحرب على الإرهاب تريد فعلًا تخليص العالم من ويلات الإرهاب، وهي التي قدّمت -وما زالت تقدّم- الدعم لأنظمة الاستبداد، وتغض النظر عن انتهاكاتها الفظيعة ضد شعوبها، وتساعدها في نهب ثرواتها وتحميها من شعوبها، وهو الأمر الذي وفر في النهاية تربة خصبة لنشوء اضطرابات واحتجاجات تحولت في بعض البلدان إلى ثورات عنيفة مع استمرار حدة الاستبداد والقمع وانتشار واسع للمظالم والفقر، والأنكى من ذلك أن من بين تلك الدول التي تزعمت محاربة الإرهاب دولًا تُسهّل في الخفاء والعلن مشاركة قوى متطرفة وطائفية وتدعمها أيضًا، مع أنها لا تقلّ إرهابًا عن إرهاب (داعش) و(القاعدة) اللذين تدعي محاربتهما.

وما نراه اليوم أمامنا -وإن كان يجري تحت شعار “محاربة الإرهاب”- ينبئ بأن باطن الأمر ليس كذلك؛ فواقع الأمر يقول بوضوح إن الذي نراه في ساحات المعارك ما هو إلا تدمير ممنهج لمقومات الدولة في المنطقة العربية، بمشاركة قوى استبدادية وطائفية متطرفة في إطار صراع على النفوذ، يحتدم بين الدول التي تتزعم تلك المعركة على الإرهاب، كل ذلك بهدف تسهيل اقتسام المنطقة من جديد بينهم، على حساب مصالح شعوب المنطقة التي تتحكم بها أنظمة قمعية وطغاة مستبدون، لا همّ لهم سوى الحفاظ على كراسيهم حتى ولو باعوا بلادهم. فكأن هناك ترابطًا بين الطغاة والغزاة؛ فالطغاة لا يتورعون عن استدعاء الغزاة لحمايتهم من غضب شعوبهم، والغزاة يتذرعون تحرير الشعوب من بطش الغزاة، بينما هم في حقيقة الأمر يستغلون ذلك لاحتلال أراضي تلك الشعوب ونهب ثرواتها، وهذا ما حدث في العراق وليبيا وما يحدث حاليًا في سورية، وقد سبق أن أشار ابن خلدون إلى هذه العلاقة بين الطغاة والغزاة من أكثر من ستة قرون، بالقول:

حُكْمُ الطُّغَاةِ إلى الأعداء مَجْلَبَةٌ              والظٌّلْمُ مِنْ قِدَمٍ للظُّلْمِ جَلَّابُ

والجَوْرُ يَجْعَلُ كُلَّ النَّاسِ جائِرَةً              إنَّ العداوة بين الناسِ أسْبَابُ

سيكون القضاء على الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإرهابي وأخواته، إن تم فعلًا، إنجازًا كبيرًا، وخطوة مهمة في طريق طويلة لهزم الإرهاب الأخطر القابع في النفوس، لكن بشرط أن تقترن المعركة العسكرية الجارية الآن بالبحث الجدّي عن الأسباب الحقيقية التي ساهمت في نشوء هذا الإرهاب المدمر ومعالجتها بشكل صحيح، وإلاّ فسيبقى الإرهاب كالجمر تحت الرماد، لا نعرف متى ينفجر وكيف وبأي شكل ولون سينفجر؟ وحينها لن ينفع الندم.

باختصار شديد، وكما يقولون “حتى لا ننام في القبور ونرى منامات وحشة”، ولكي نضمن انتصارًا مجديًا وحقيقيًا على الإرهاب؛ لا بدّ أولًا من وقف قتل المدنيين والتدمير العشوائي للمدن والتهجير الديمغرافي، وثانيًا وقف دعم الأنظمة الاستبدادية والقوى المتطرفة والطائفية التي ساهمت بهذا الشكل أو ذاك في تنمية التطرف والعنف والإرهاب واستبعادها أو تحييدها على الأقل كخطوة أولى، تمهيدًا لإزالتها في مرحلة لاحقة، إذ ليس من المعقول أن يشارك في محاربة الإرهاب مَن كان سببًا في نشوئه، وثالثًا رفع الغطاء عن المجرمين الذين ارتكبوا جرائم حرب وإبادة وضد الإنسانية، ومنعهم من الإفلات من العقاب حتى لا تتكرر جرائمهم، ورابعًا مساعدة شعوب المنطقة في تقديم كل الدعم اللازم لها، بما يمكنها من إعادة بناء بلدانها على أسس جديدة تنتفي فيها المظالم، وتحترم حريات الناس وحقوقهم على أساس مبدأ المواطنة المتساوية، بصرف النظر عن العقيدة والدين واللون والجنس والعرق.. إلى آخر ذلك من الخطوات المهمة والأساسية التي لا بدّ من تحقيقها حتى نضمن نهائيًا عدم عودة التطرف والإرهاب مرة أخرى.




المصدر