on
تداعيات توسيع “الحرب على الإرهاب” في المنطقة العربية
Idrak Editor
لتحميل الدراسة بصيغة ملف PDF: تداعيات توسيع الحرب على الإرهاب في المنطقة العربية
في إطار تفاعلاتٍ سياسية وأمنية متشابكة، يبدو أن المنطقة العربية تدخل مرحلةً جديدة من الفوضى والضعف اللذين يتم توظيفهما من القوى الخارجية لتحقيق مصالحها؛ إذ تكاد متغيرات “الحرب على الإرهاب”، وتصاعد الصراعات العربية–العربية، وخصوصاً الخليجية–الخليجية، والإذعان العربي للابتزاز الذي تفرضه إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، أن تتحوّل إلى ثلاثة عناصر مهيمنة على مجمل التفاعلات العربية في هذه المرحلة؛ ممَّا يولّد انكشافاً عربياً متزايداً أمام تصاعد الاختراقات الإقليمية والدولية؛ إذ يشهد إقليم الشرق الأوسط عملية إعادة تشكيل لنظامه الإقليمي من بوابة “توسيع الحرب على الإرهاب”، بما يشمل إعادة ترتيب أوزان الدول العربية وكلّ من تركيا وإيران، وأدوارها الجديدة/القديمة في الإقليم.
ويبدو أن وصول “دونالد ترامب” إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية قبل عدة أشهر، أدى إلى تغيّر ما في المقاربة الأمريكية لمكافحة “الإرهاب”؛ إذ أصبحت أكثر ارتباكاً وارتجالية، وأقل انسجاماً على صعيد تناغم أداء الرئيس مع المؤسسات، ربما بما يسمح بتسلّل مقاربات أيديولوجية أو يمينية، تحاول إيجاد علاقة حتمية بين الإسلام والإرهاب والتطرف؛ ممَّا يولّد حالة الخوف من المسلمين “الإسلاموفوبيا” في أمريكا خصوصاً، وفي دول الغرب عموماً، وهذا ما يظهر في الخطاب السياسي لترامب، رغم محاولته إخفاء ذلك في القمة الأمريكية الإسلامية في الرياض في مايو/أيار الماضي.
إن شخصية الرئيس ترامب -وحرص إدارته على البراغماتية، وابتزاز السعودية ودول الخليج الأخرى مالياً، وسعيه إلى عقد الصفقات العسكرية والاقتصادية بمعزل عن أية قيم تخصّ تشجيع الديمقراطية أو احترام حقوق الإنسان- ربما شجّعت بعض النظم العربية، المعادية أصلاً لمنطق التغيير السلمي/الديمقراطي في المنطقة، على انتهاج مقاربةٍ أكثر عدوانيةً في تصفية خصوماتها السياسية مع المحور المؤيّد لثورات الشعوب العربية، وعلى رأسه تركيا وقطر وتيار الإخوان المسلمين.
وذلك بالتوازي مع تعزيز الديكتاتوريات العربية علاقاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية مع الكيان الإسرائيلي، الذي يسعى هو أيضاً للاستفادة من وجود ترامب في منصب الرئيس الأمريكي، لإتمام ترتيبات وإجراءات ما يُعرف بـ “صفقة القرن” لتصفية قضية فلسطين، وإنهاء بُعدها السياسي تماماً، وتشجيع التطبيع العربي – الإسرائيلي على الصعد كافة، أو بلوغ ما يسمى “الحل الإقليمي لقضية فلسطين”.
يتناول هذا التحليل مخاطر مسلك النظم العربية في توسيع “الحرب على الإرهاب” في المنطقة العربية، عبر مناقشة ثلاث جزئيات مترابطة:
أولاها: ملامح المقاربة الأمريكية لمكافحة “الإرهاب” في عهد الرئيس دونالد ترامب.
ثانيتها: أسباب النظم العربية ودوافعها في توظيف هذه المقاربة لتوسيع أهداف الحرب على الإرهاب، لكي يشمل حصار قطر والتضييق أكثر على الحركات الإسلامية، وإضعاف مؤيدي فكرة التغيير في المنطقة العربية.
ثالثتها: انعكاسات التوظيف العربي للمقاربة الأمريكية لمكافحة “الإرهاب” على العالم العربي بخاصة، وإقليم الشرق الأوسط بعامة.
أولاً- ارتباك المقاربة الأمريكية لمكافحة “الإرهاب” في عهد الرئيس دونالد ترامبكانت الظروف التي وصل فيها ترامب إلى الرئاسة استثنائيةً من عدة جوانب، وهو ما ينعكس على سياسات إدارته على الصعيدين الداخلي والخارجي، وثمة من “يتوقّع مزيداً من الفوضى من رئيس غير عادي وصل إلى منصبه محمولاً –جزئياً- على جناحَي تيارين: “شعبوي وأيديولوجي”[1].
ولئن كان الرئيس ترامب مسؤولاً بدرجة كبيرة عن ارتباك السياسة الأمريكية وارتجاليتها منذ مطلع عام 2017، فإن هذا الارتباك ظاهر منذ اندلاع الثورات العربية أواخر 2010، ولا سيما في موضوع “مكافحة الإرهاب”، الذي بات عنواناً لتفكير اختزالي يحاول إخفاء غياب استراتيجية أمريكية حقيقية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
وقد يفسّر ذلك لماذا تبدو أزمة قطع أربع دول عربية علاقاتها مع قطر صيف 2017 أعمق بكثير ممَّا حدث ربيع 2014، حينما سحبت ثلاث دول خليجية، السعودية والإمارات والبحرين، سفراءها من الدوحة، ولكن ذلك بقي محكوماً بمواقف الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما آنذاك، التي لم تُظهر تأييداً مفتوحاً لتوجهات دولة الإمارات العربية المتحدة في الانتقام من قطر، على خلفية مواقف الدوحة السياسية الداعمة لموجة التغيير والثورات العربية وصعود تيار الإخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا.
والواقع أن هناك جدلاً علمياً حول تأثير الربيع العربي على نفوذ واشنطن في المنطقة العربية، ودرجة قدرتها على الاستمرار في الانفراد بتوجيه مجمل تفاعلات المنطقة، بما يخدم المصالح الأمريكية.
ويُلاحظ هنا أن بعض آراء الخبراء الأمريكيين تسلّم ضمنياً بحدوث تراجع في نفوذ واشنطن في العالم العربي؛ لثلاثة أسباب على الأقل:
أولها: نقص القدرة المالية الأمريكية، على عكس وجود فوائض مالية خليجية تسمح لعواصم الخليج بالتأثير، لا سيما في دول الثورات العربية، وأيضاً في العواصم الدولية الكبرى بدرجة ما.
ثانيها: وجود اعترافٍ أمريكي ضمني بأن الثورات العربية ربما أوجدت ديناميكية جديدة في المنطقة[2].
وثالثها: أن “تعامل إدارة أوباما مع تحديات الربيع العربي لم يكن جيداً؛ بل أظهر التوتر طويل الأمد في السياسة الخارجية الأمريكية بين المبادئ والمصالح. ورغم الإقرار بأن النفوذ الأمريكي في المنطقة العربية بدأ يضعف، فإن واشنطن لا تستطيع أن تنعزل، وليس بوسعها أن تكون مراقباً سلبياً بينما ترى جزءاً مهماً من العالم – مثل الشرق الأوسط – يمرّ بتغير غير مسبوق. ورغم أن تأثير الولايات المتحدة محدود، فإنه لا يمكن إهماله”[3].
وعلى عكس هذا الاتجاه الذي يقول بتراجع مكانة واشنطن في المنطقة العربية، يرى باحث إماراتي أن “الولايات المتحدة تمكّنت -بحلول عام 2013- من تحسين وضعها السياسي والاستراتيجي، مقارنةً بما كان عليه قبل الثورات العربية. ففضلاً عن نجاح واشنطن في تجديد “محور الاعتدال العربي” وتوسيعه، ربحت الولايات المتحدة أيضاً معركة الربيع العربي بسرعة مدهشة، وبأقل قدر من التدخل المباشر؛ فغيّرت من شكلها كقوة غاشمة تخوض حرباً كونية ضد الإرهاب وتعادي التيار الجهادي الإسلامي، إلى قوة ناعمة في ظل رئاسة أوباما الذي قرّر الانفتاح على العالم الإسلامي، وعقَدَ تفاهماً مع قواه الجديدة، وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، يتم بموجبه دعم وصولهم إلى السلطة، مقابل حفاظهم على المصالح الأمريكية الضخمة في العالم العربي”[4].
ولعل من الاستنتاجات المهمة التي يعكسها الجدل حول ارتباك السياسة الأمريكية بعد الثورات العربية، هو سيطرة متغير “الحرب على الإرهاب” والأبعاد الأمنية الاستراتيجية على مجمل المقاربة الأمريكية (والمقاربات الدولية الأخرى) تجاه الشرق الأوسط، ولا سيما في الإدارة الثانية للرئيس أوباما منذ أواخر 2012.
لقد سمحت إدارة أوباما بأن يتم الإطاحة بحركة الإخوان المسلمين وبالموجة الأولى من الثورات العربية (2011- 2013)، عبر سياسات سعودية – إماراتية- إسرائيلية أساساً، لكن واشنطن حرصت أيضاً على أخذ مسافة – ولو شكلياً – عن تدعيم مسارات القمع والتنكيل بالمعارضين السياسيين في العالم العربي[5].
أما الأمر الجديد في مقاربة ترامب لمتغير “الحرب على الإرهاب” فربما ينبع من أمرين:
أحدهما دمج ترامب مفهوم مكافحة الإرهاب، بعقد صفقات سلاح ضخمة مع السعودية ودول الخليج الأخرى، مقابل زيارة الرئيس الأمريكي للرياض، في ابتزاز واضح لأموال دول الخليج، ربما مقابل تأخير استعمال قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”، أو قانون جاستا، الذي أقره الكونغرس الأمريكي أواخر أيلول/سبتمبر 2016[6].
والآخر عودة ترامب في مقاربته لموضوع الإرهاب إلى مستوى من “الأدلجة أو الشعبوية” شبيه بما كان عليه الحال أيام جورج بوش الابن، الذي طبّق في تلك الحرب شعار “من ليس معنا فهو ضدنا”.
ويمكن القول إن ثمة فريقين داخل إدارة ترامب يؤثّران على المقاربة الأمريكية لمتغير “الحرب على الإرهاب”، الذي تراه واشنطن تهديداً كبيراً لأمنها ومصالحها حول العالم؛ “ففي حين يصر ترامب وفريق مستشاريه الأقرب من الأيديولوجيين على تعريفه بوصفه “إرهاباً إسلامياً متطرفاً”، يرى الجنرال هربرت ريموند ماكماستر مستشار الأمن القومي، وأغلب المؤسسات الخارجية والدفاعية والأمنية من فريق البراغماتيين، أن ربط الإرهاب بالإسلام يُضعف قدرة الولايات المتحدة على مجابهته، ويعطي منصة دعائية لمن يمارسونه بأن واشنطن تخوض حرباً على الإسلام نفسه. ويبدو أن ترامب، إلى الآن، قد اختار الانحياز إلى فريق مستشاريه من الأيديولوجيين؛ ما ينذر بمزيد من الفوضى في مسار هذه الإدارة التي تنتقل من أزمة إلى أخرى”[7].
وما يهمنا في هذا السياق هو انعكاسات الخلاف في إدارة ترامب حول سياسة “مكافحة الإرهاب”، بين المقاربة الأيديولوجية والمقاربة البراغماتية؛ فالأولى يمكن أن تولّد مزيداً من الفوضى في العالم العربي، عبر توسيع استهداف قوى ودول لا تدعم الإرهاب، وإنما لها نشاط سياسي أو معارض أو إغاثي يختلف مع الأجندة الأمريكية في المنطقة، لكنه لا يتصادم معها، ولا يمارس أي نشاط يمكن وصفه بالإرهاب.
أما المقاربة البراغماتية فمن شأنها أن تبقي محاربة الإرهاب ضمن إطار أكثر موضوعية، وأقل ضرراً على مصالح الشعوب والناشطين الذين يطلبون الحرية وتوسيع المجال العام وصون الحريات، ودعم انفتاح الأجواء السياسية في العالم العربي.
ولعل هذا كله يؤكد مدى الحاجة عربياً ودولياً إلى عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة لتحديد مفهوم الإرهاب بدقة، والاتفاق على سبل مكافحته ضمن إطار قواعد القانون الدولي؛ بهدف وقف التوظيفات المختلفة التي تقوم بها أطرافٌ دولية وإقليمية لخدمة أجنداتها السياسية والعسكرية بالمخالفة لقواعد القانون الدولي، وفي مقدمة هذه الأطراف: الولايات المتحدة الأمريكية، والكيان الإسرائيلي.
ثانياً: دوافع النظم العربية في توسيع أهداف “الحرب على الإرهاب”يمكن القول إن ثمة عاملين رئيسين يقفان وراء مسعى النظم العربية لتوسيع أهداف الحرب على الإرهاب؛ أحدهما توظيف نتائج زيارة الرئيس ترامب للسعودية وإسرائيل والضفة الغربية 20 – 23 أيار/مايو 2017، التي أكد فيها التحالفات القديمة لواشنطن، ورفضه سياسات الحكومات الأمريكية السابقة، المرتبطة بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد أعطت هذه الزيارة دفعةً قوية للقوى المعارضة للتغيير في العالم العربي، وسرّعت من وتيرة “الموجة الثانية للثورة العربية المضادة”[8].
وكما أشير آنفاً، فإن ثلاثة متغيرات تتحكم الآن في سياسات النظم العربية ومجمل التفاعلات العربية: “الحرب على الإرهاب”، وتصاعد الصراعات العربية–العربية عموماً، والخليجية–الخليجية خصوصاً، والإذعان العربي للابتزاز المتكرر الذي تفرضه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ويمكن القول إن تفاقم تأثير هذه المتغيرات الثلاثة وتحكمها في مجمل التفاعلات العربية، هو الوجه الآخر لغياب أية مظاهر لتداول السلطة في العالم العربي، وتدني مستويات المشاركة السياسية والمجتمعية، وسياسات السلطات العربية في إغلاق المجال العام أمام المواطنين العرب؛ ممَّا يؤدي لتوليد مستويات مرتفعة من العنف السياسي.
ويشير باحث مختص إلى أن من أسباب تفشي العنف السياسي في العالم العربي، العوامل الآتية: أزمة بناء الدولة الوطنية الحديثة، وأزمة التنمية، وغياب العدالة الاجتماعية، واستشراء الفساد الإداري والسياسي، وسوء إدارة التعددية المجتمعية وتفجر مشكلات الأقليات، وتجذر التسلطية مع غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وعدوى العنف، إضافةً إلى العوامل الخارجية[9].
أما العامل الآخر وراء مسعى بعض النظم الخليجية لتوسيع أهداف الحرب على الإرهاب فيتعلق بأسباب داخلية، وخصوصاً في السعودية والإمارات؛ إذ تظهر الدولتان سلوكاً خارجياً مندفعاً نحو معاقبة خصومهما -استخدام أدوات شن الحروب الإلكترونية، واختراقات المواقع والحسابات الرسمية، وتأليب لوبيات وشخصيات ومراكز أبحاث أمريكية في واشنطن ضد قطر، وفرض الحصار البحري والبري والجوي- بهدف التغطية على بروز مؤشرات تململ تتعلق بتوريث السلطة في كل من السعودية والإمارات، واحتمالات حدوث تراجعات اقتصادية تولّد توترات مجتمعية؛ ممَّا يعني أن استقرار الدولتين، على هشاشته، لم يعد أمراً مُسلّماً به، كما كان سابقاً.
أ-حالة السعوديةثمة تغيرات داخلية حقيقية تحدث داخل المملكة العربية السعودية، وقد تسارعت وتيرتها منذ مطلع عام 2017؛ بسبب انعكاسات الانخراط السعودي غير المحسوب في اليمن، وتراجع الآمال بخصوص مستقبل السعودية في ظل رؤية 2030، فضلاً عن الانعكاسات التراكمية التي تترتب على الانخفاض في أسعار النفط، سواء على قدرات الدولة أم على سياساتها الداخلية والخارجية، أم على مستوى معيشة المواطن السعودي.
وبناء على هذه المعطيات، ربما يُراوح مستقبل السعودية بين ثلاثة سيناريوهات أساسية:
أولها: الانفراط المفاجئ لعقد الدولة أو تفككها؛ بسبب ما يبدو من صراعات محتملة داخل أسرة آل سعود، التي يبدو أنها ليست مُجمعة على انتقال ولاية العهد إلى الأمير محمد بن سلمان.
وثانيها: تصاعد وضع الاختراق الخارجي للسعودية؛ سواء عبر إيران أو المليشيات التابعة لها في اليمن والعراق، أو عبر الخلايا النائمة في دول الخليج، مثل “خلية العبدلي” التي كشف النقاب عنها في الكويت مؤخراً.
وثالثها: الاختناق الاقتصادي في السعودية؛ نتيجة انخفاض أسعار النفط، أو غموض مصير رؤية 2030، بما تحمله من برامج تبدو غير مدروسة، والتي يغلب عليها التركيز على جوانب خصخصة اقتصادية أو شكلية ترفيهية، دون إيلاء عناية كبيرة للأبعاد السياسية/المجتمعية؛ إذ لم تُعرض تلك الرؤية على أي حوار سياسي أو مجتمعي قبل طرحها؛ فمن البدهي أنه ليس هناك تحول اقتصادي ناجح لا يرتبط بتحولات سياسية ومجتمعية، وهو ما تغفله الرؤية التي تغيب عنها الفلسفة الناظمة لأفكارها؛ إذ يتم تقديمها بوصفها مشروع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، اعتماداً على الصلاحيات الواسعة الممنوحة له من قِبل والده الملك السعودي.
أضف إلى ذلك، ما يبدو كأنه مؤشرات على نكوص السياسة السعودية منتصف 2017 عن “انفتاحها النسبي” الذي حدث بعد تولي الملك سلمان أوائل 2015؛ إذ شكّل انتقال العرش إليه بداية مرحلة من “تهدئة الصراع بين محوري الثورات والثورات المضادة في المنطقة العربية”؛ ممَّا انعكس ايجاباً على عدد من القضايا العربية، مع انتقال الرياض إلى تنسيق سياساتها الإقليمية مع محور تركيا-قطر بهدف العمل على حل مشكلات المنطقة العربية أو تهدئتها، بدلاً من الانسياق خلف سياسة تأزيم المنطقة وتوظيف أزماتها.
وقد ظهر تأثير هذه التهدئة في السلوك السعودي في عدة أمور؛
أولها: تطور أداء المعارضة السورية المسلحة في ربيع عام 2015، والذي استمر بدرجات متفاوتة، إلى حين حصول التدخل الروسي في سورية أواخر أيلول/سبتمبر من العام نفسه.
وثانيها: تشكيل التحالف العربي أواخر آذار/مارس 2015 بقيادة السعودية للتدخل في اليمن والتصدي لتحالف الحوثي- صالح، الذي سيطر على العاصمة اليمنية صنعاء.
وثالثها: إبداء السعودية درجة من “الانفتاح المؤقت” على بعض الحركات الإسلامية التي تنتمي إلى تيار الإخوان المسلمين، سواء في اليمن، أم حركة حماس في فلسطين.
ورابعها: تحسّن العلاقات السعودية التركية، والعلاقات السعودية – القطرية؛ إذ قام الملك سلمان بزيارة الدوحة في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2016.
وقد بدا من حصيلة تفاعل هذه الأمور الأربعة كأن الرياض أخذت تتقبل فكرة حصول تغيير في المنطقة العربية يقتضي منها القيام بإعادة النظر في تحالفاتها الدولية، وإعطاء علاقاتها الإقليمية -سواء مع الأطراف الإسلامية أم العربية أم الخليجية– مزيداً من الاهتمام والأولوية. بيد أن هذا التوصيف ثبت أنه غير صحيح.
وثمة من يرى في إعفاء الأمير محمد بن نايف أواخر حزيران/يونيو 2017 من جميع مناصبه، بما فيها ولاية العهد، وتولي الأمير محمد بن سلمان منصب ولي العهد “انقلاباً أبيض من داخل القصر السعودي، ممَّا سيؤدي إلى تغيير في مستقبل منطقة الخليج والعالم العربي برمته”[10].
“ثمة اليوم تغيرٌ في سياسة السعودية في ثلاثة ملفات على الأقل: أولها حرب اليمن، ثانيها تطور العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، حتى لو كانت سرية أو تتم عبر طرف آخر، وهو الولايات المتحدة الأمريكية على الأرجح. وثالثها التعامل السعودي مع مجلس التعاون الخليجي، واستهداف قطر خصوصاً. وإذا تم استيعاب ديناميكية السياسة السعودية الجديدة في هذه الجوانب الثلاثة، يمكن استشراف نمط الحكم المقبل في شبه الجزيرة العربية”[11].
“ففي حين كانت السعودية قديماً تسعى للتوصل إلى حلول، بدون فرض سياسة كسر العظم على الطرف الآخر، أصبح موقف الرياض اليوم خارجاً عن المألوف، ويمكن اعتباره تغييراً في ديباجة تأسيس مجلس التعاون الخليجي، ويهدف لإحداث تغيير كبير على طبيعة العلاقات الخليجية – الخليجية، بحيث تتخلى الدول الصغيرة، طوعاً أو كرهاً، عن سيادتها لمصلحة الشقيقة الكبرى؛ أي السعودية، كما فعلت البحرين. لذلك إذا استطاعت الرياض فرض شروطها على الدوحة فسيكون ذلك إنجازاً كبيراً، ربما يعوض خسارة السعودية المعنوية والمادية في حرب اليمن، التي جرّت على السعودية كثيراً من الانتقادات. إن جوهر أزمة حصار قطر هو أنها ترتبط برغبة سعودية غير معلنة في فرض الهيمنة المطلقة على بقية دول المجلس. وهنا تبدو الوقائع المعلنة مختلفة عن الدوافع المبطنة، الأمر الذي يساهم كثيراً في تعقيد الأزمة بسبب غياب عناصر النزاهة والشفافية والموضوعية بشأنها”[12].
وترى باحثة مختصة أن هذا التغير الذي يحدث في السعودية، “في ظل قيادة ولي العهد الجديد، الأمير محمد بن سلمان، سيؤدي إلى انحسار الخطاب الدبلوماسي السعودي، وازدهار خطاب العسكرة وفرض الحصار على أية دولة تعتبر مشاغبة من منظور الرياض. كما سيتم الفتك بالسلم الخليجي والنسيج الاجتماعي، عبر الزج بمواطنين خليجيين في الصراع السياسي، مثل طلب ترحيل مواطنين مقيمين في دولة ما إلى دولتهم الأم خلال الأزمات. وقد تتوسع الرياض في شراء ولاءات الدول، لكن هذا لن ينفع كثيراً مع دول غنية مثل قطر، وقد تزيد الصراعات الخليجية، نتيجة طموح السعودية في فرض مصالحها وتوجهاتها على منطقة الخليج، لا سيما مع افتقاد الحنكة السياسية والخبرة في التعامل مع الأزمات”[13].
ب- حالة الإماراتربما يمكن تفسير السياسة التنافسية الحادة التي تنتهجها دولة الإمارات ضد الدوحة، سواء في أزمة حصار قطر صيف 2017 أو قبلها، بما يحدث في دور الإمارات في المنطقة العربية من تحول في مضمونه، خصوصاً منذ أواخر عام 2004، حينما رحل رئيسها الشيخ زايد آل نهيان.
وفي هذا السياق، عرفت السياسة الخارجية الإماراتية تحوليْن مهميْن؛
أحدهما في عهد الشيخ زايد ( 1971 – 2004)، وتميز بانتهاج الإمارات سياسة خارجية معتمِدة أساساً على العلاقات الوثيقة مع دول الخليج بخاصة، ومع الدول العربية والإسلامية بعامة؛ فكان الشيخ زايد ملتزماً بقضية فلسطين والقضايا العربية. كما قامت الإمارات بدعم خطاب محور المواجهة مع إسرائيل.
أما التحول الثاني، فتميز بتبنّي خطاب محاربة الإرهاب والتركيز على المقاربة الأمنية في التعامل معه، وذلك منذ نهاية عقد التسعينات[14].
وبهذا أصبح واضحاً أن سياسة الإمارات، في كثير من أبعادها الأمنية، بدأت تتحول نحو التقارب، لكيلا نقول التماهي، مع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين، “طرأت تحولات على السياسة الخارجية للإمارات، وذلك بعد تقدم السنِّ بالشيخ زايد، وتحوّل اهتمام الإمارات تدريجياً عن الالتزام بالقضايا العربية والإسلامية، وظهر انخراطها وتفاعلها الاستباقي مع أهم التطورات الطارئة على الاقتصاد العالمي ونظام الحكم الدولي من أجل مُراكمة قدرات احتياطية هائلة من القوة “الناعمة” و”الصلبة”، وإيجاد مكان لها في مجالات اقتصادية مختارة بعناية (مثل: مجالات الطيران المدني، والطاقة المتجددة، والتمويل الدولي). هذا وقد تعمّقت العلاقات الإماراتية – الأمريكية، خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وقد ضمت قائمة الخاطفين إماراتييْن اثنين من بين المهاجمين التسعة عشر، ومن ثم ظلت العلاقة مع أمريكا تمثِّل حجر الزاوية في سياسة الإمارات الخارجية”[15].
بيد أن اللافت أكثر في السياسة الخارجية للإمارات، هو طبيعة التغير الذي ظهر عليها بعد اندلاع الثورات العربية أواخر 2011.
ورغم ما هو معروف من أدوات تنفيذ هذه السياسة في المنطقة العربية منذ 40 عاماً، ومنها: الدبلوماسية التقليدية، وسياسة المساعدات الخارجية، والأداة الدعائية، فإن اللجوء إلى الدعاية تزايد منذ عام 2011؛ فلقد كان “من أهم التغيرات في السياسة الخارجية الإماراتية بعد اندلاع الربيع العربي، إنشاء مراكز أبحاث خاصة، وإطلاق قنوات تليفزيونية مخصصة لتخدم أهداف هذه السياسة، ومن أبرز الأمثلة على ذلك إطلاق قناة “الغد العربي”، واستضافة قناة “سكاي نيوز” العربية في أبو ظبي”[16].
وثمة من يدافع عن سياسة الإمارات بوضعها ضمن سياق تحوّل استراتيجي تمر به منطقة الخليج العربي ومجمل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، في ظل الثورات العربية.
وتجادل إحدى الدراسات بأن “التحول في السياسات الخارجية لدول الخليج باتجاه تبني أنماط “غير تقليدية” في معالجة قضية التغيير في دول المنطقة، يكشف أن هناك “خليجاً جديداً يتشكل، سواء من حيث التصورات السائدة في دول الخليج حول أمنها الوطني ونوعية السياسات التي يمكن تبنيها للحفاظ على هذا الأمن، أو من حيث الطبيعة البراجماتية في سياسات هذه الدول في معالجتها للعديد من القضايا المعقدة في الإقليم؛ مثل: قضية تطبيع العلاقات مع إيران وإمكانية الحوار معها من عدمه، وقضية تزايد تأثير الفاعلين المسلحين من غير الدول في أمن الإقليم، وقضية تحوّل دول الخليج، ولا سيما السعودية والإمارات وقطر، إلى مركز الثقل السياسي والاقتصادي في تفاعلات المنطقة العربية[17].
وتضيف الدراسة ذاتها أن “التحولات التي تشهدها المنطقة، أدت إلى تحول في أولوية القضايا التي تشغل دول الخليج الست بدرجات متفاوتة. وإذا كانت الثورات العربية قد جعلت قضية أمن نظم الخليج في مواجهة التغيير، سواء من خلال دعمه كما في حالة قطر، أم عبر احتوائه كما في حالة السعودية، فإن مظاهرات 30 حزيران/يونيو 2013 في مصر، وتزايد نشاط تنظيم داعش في العراق، أديا إلى تغير تصورات دول الخليج فيما يتعلق بالتغيير الذي تشهده المنطقة نتيجة للثورات العربية، وكذلك القضايا التي تهتم بها. لا سيما بعد أن تراجع نسبياً نشاط السياسة الخارجية القطرية، مقارنةً بالإمارات والسعودية، فيما يتعلق بالتأثير في مسار التغيير في المنطقة العربية. وارتبط بهذا التحول في السياسات الخليجية تزايد أهمية قضيتين؛ إحداهما قضية نشر الاعتدال ومكافحة الإرهاب والتطرف. والأخرى التأقلم مع التغير في الوضع الجديد لإيران في المنطقة[18].
وبناء على هذا التغير في دور أبو ظبي في المنطقة، بدأت الإمارات في التحريض على حركة الإخوان المسلمين؛ إذ دعا وزيرُ خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2012، دولَ الخليج إلى تكوين جبهة خليجية “لمنع جماعة الإخوان المسلمين من التآمر لتقويض الحكومات في المنطقة، ذلك أن فكر الإخوان لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا بسيادة الدول، وأن تنظيم الإخوان العالمي يعمل على اختراق هيبة الدول وسيادتها وقوانينها”[19].
ومن الجدير بالذكر أن هذه السياسة الإماراتية لاقت استحساناً أمريكياً؛ إذ أخذت مؤسسات ومراكز أبحاث أمريكية تصف الإمارات بأنها “شريك مفضل في المعركة التي تخوضها واشنطن ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وضد الإرهاب. وقد صرح القائد السابق للقوات الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال أنتوني زيني، في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، أن العلاقة بين الدولتين هي “الأقوى من بين العلاقات التي تربط الولايات المتحدة مع باقي دول العالم العربي اليوم”. كما عرض مقال في مجموعة “بلومبرغ” الإعلامية في كانون الثاني/يناير 2015 آراء سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، من بينها أن بلاده دولة “معتدلة ومنفتحة ومتسامحة”[20].
وربما يكشف الدور المحوري الذي قامت به الإمارات، وسفيرها في واشنطن يوسف العتيبة، على مدار السنوات الثلاث الماضية 2013- 2016 خطورة المنحى الذي يمكن أن تنجرف إليه الدول العربية إذا قامت بالتماهي –أو حتى مجرد التوافق- مع المقاربة الأمريكية لمحاربة الإرهاب، وتأثيراته الممتدة على تفتيت العالم العربي وإضعافه أكثر فأكثر، وفتح الباب على مصراعيه أمام تدويل القضايا العربية وتعزيز التدخلات الخارجية فيها، كما سنوضح أدناه.
ثالثاً: التداعيات العربية والإقليمية لتوسيع أهداف “الحرب على الإرهاب”لا شك أن تصدُّر متغيرُ “الحرب على الإرهاب” الأجنداتِ الخليجيةَ والإقليمية والدولية سيكون له تداعيات كثيرة على المنطقة العربية. ومن بينها على سبيل المثال الآتي:
1-قد تكون أزمة حصار قطر، المستمرة منذ 5 حزيران/يونيو 2017، بداية لأزمات أخرى مشابهة تنتظر المنطقة العربية، حيث يشتدّ الصراع بين محور الثورات العربية المضادة وإسرائيل المتحالفة معها من جهة، وأنصار التغيير السلمي في المنطقة من جهة أخرى، في ظل وجود رئيس أمريكي مثير للجدل، وراغب في ابتزاز الدول الخليجية جميعاً؛ بغية تنفيذ أجندته التي كان يعلنها عندما كان مرشحاً للرئاسة، بأن تدفع السعودية ودول الخليج تكلفة الحماية الأمريكية لها.
وثمة دراسات عربية تشير إلى أن “التوسع في تهم الإرهاب في المنطقة العربية، هو محاولة تقوم بها القوى الدولية الكبرى، والدول الإقليمية المتحالفة معها؛ من أجل القضاء على النضال الوطني التحرري الذي تمارسه حركات التحرر ضد الهيمنة الأجنبية؛ لأن التوسع في تهم الإرهاب وعدم حصرها في إطار محدد سوف يؤدي إلى تكييف هذا المفهوم حسب إرادة الدول الكبرى، وبالتالي سوف تسمح لنفسها بالتدخل من أجل حفظ ما يسمى حفظ الأمن والسلم الدوليين، ولكن الهدف النهائي هو استنزاف موارد المنطقة بشكل عام، وكذلك التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة بهدف حمايتها من الإرهاب حسب وصف الدول الاستعمارية”[21].
وفي السياق نفسه يؤكد باحث آخر أن العلاقات العربية البينية أصبحت عرضة لتقلبات وارتدادات كثيرة، بسبب الاتهامات المتبادلة بين بعض الدول العربية بدعم الإرهاب؛ الأمر الذي يخلق موضوعاً جديداً وبؤرة أخرى للخلافات والاستقطابات العربية البينية. ممَّا يؤكد الحاجة إلى “تحديد مفهوم إجرائي عربي محدّد للإرهاب، يمنع تداخله مع مفاهيم أخرى، مثل حركات التحرر الوطني، والمعارضة السياسية لنظم الحكم؛ ذلك أن أحد الأسباب الرئيسة لتصاعد الإرهاب هو صيغ نظم الحكم التي لا تعبر على نحو مُرضٍ عن كافة مكونات الجسد السياسي في بلدانها”[22].
2- بداية مرحلة من انتقال موجات عدم الاستقرار والفوضى من دول الثورات العربية، إلى الخليج العربي. وبذا تخرج دول الخليج، ولاسيما السعودية والبحرين والإمارات، من دائرة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية القابلة للإدارة والإصلاح، إلى الأزمات السياسية الأمنية الاقتصادية الأكثر تعقيداً وتركيباً، التي تشكل بيئة مثالية جاذبة للتدخلات الخارجية بكل أهدافها التقسيمية والاستعمارية.
ولعل من التداعيات المباشرة لأزمة حصار قطر، بداية إصدار تشريعات إضافية أو إنشاء مؤسسات جديدة لمحاربة الإرهاب في كل من قطر والسعودية ومصر[23].
3- تراجع المواقف الخليجية من الأزمة السورية، وخصوصاً مواقف السعودية، التي باتت مشغولة أكثر بإدارة الصراع مع قطر، عبر الاستقواء بمحور أبو ظبي- القاهرة، مع تزايد احتمال إبرام صفقات إقليمية ودولية لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الثورات العربية أواخر 2010، سواء في سورية أو ليبيا أو اليمن، بما يضر بكل تأكيد بمصالح الشعوب في هذه الدول.
وليس من المصادفات تغيّر الموقف الفرنسي بعد تولي الرئيس إيمانويل ماكرون من فكرة إزاحة بشار الأسد من السلطة في سورية، فضلاً عن دخول باريس، في ظل هاجسي الإرهاب والهجرة، على خط الأزمة الليبية في سياق دعم الجنرال خليفة حفتر؛ إذ احتضنت فرنسا في 2017/7/25 بمبادرة من ماكرون، لقاءً بين رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً، فايز السراج، وقائد قوات شرق ليبيا، الجنرال خليفة حفتر، اتفقا فيه، عبر وساطة فرنسية، على وقف إطلاق النار وتنظيم انتخابات في ربيع 2018[24].
وليس مصادفةً أيضاً بروز دور الإمارات في تشجيع انفصال جنوب اليمن، فضلاً عن تواتر أنباء متعددة عن وجود شبكة سجون سرية في اليمن تديرها الإمارات، أو قوات يمنية دربتها أبو ظبي[25].
ويشير أحد الباحثين إلى أن “تداعيات دور الإمارات في حرب اليمن، تؤكد أن خطورة دور أبوظبي على السلطة الشرعية اليمنية، عبر مساعيها للإطاحة، بالرئيس عبد ربه منصور هادي، ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار اليمن ووحدة ترابه، وانعكاس ذلك على محيطه الإقليمي، لا سيما في ظل تنامي نزعات مناطقية جنوبية تستقوي بالآلة العسكرية، التي أسستها ودعمتها الإمارات داخل محافظات الجنوب، الواقعة خارج السيطرة الحقيقية للسلطة الشرعية، لتتحول البلاد إلى كانتونات مشيخية تُذكِّر بوضع اليمن في عهد الاحتلال البريطاني”[26].
ويجب أيضاً في هذا السياق تحليل تداعيات “الحرب على الإرهاب”، وإصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الموصل، والتوظيف الذي قامت به حكومة حيدر العبادي واستثمارها للدعم الدولي والإقليمي لها في إرخاء العنان للمليشيات الطائفية في العراق، فضلاً عن القوات الحكومية وطائرات التحالف الدولي، في القيام بانتهاكات غير مسبوقة في حق المدنيين العراقيين في الموصل؛ إذ تشير تقارير صحفية واستخبارية ومسؤولون أكراد إلى مقتل 40 ألف مدني في معركة الموصل، التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر 2016[27].
ممَّا قد يشكّل بيئةً مثالية لإعادة إنتاج “الإرهاب” في العراق وسورية بدلاً من محاربته، على ضوء هذه الانتهاكات والمظالم بحق المدنيين العزل.
4- استعداد دول الثورات المضادة لإبداء مزيد من التجاوب لتطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي، ومن ذلك احتمال تطوع بعضها لإدانة أعمال المقاومة الفلسطينية المشروعة ضد الاحتلال، ولعل ضعف المواقف العربية من أزمة إغلاق المسجد الأقصى بعد 14 تموز/يوليو 2017، وتركيب بوابات إلكترونية على بواباته، دليل على أن وجود صراعات عربية- عربية مستعرة، كفيل بإضعاف الموقف الشعبي الفلسطيني أمام الكيان الإسرائيلي، الذي ينجح دائماً في توظيف الخلافات الفلسطينية البينية، والخلافات العربية البينية، في تنفيذ مخططاته الاستعمارية سواء تجاه المقدسات أو الاستيطان أو غيرها من القضايا.
خلاصةأدّت المقاربة الأمريكية لمكافحة “الإرهاب” في عهد الرئيس ترامب، والتوظيفات الخليجية والإسرائيلية لها، إلى تعزيز عناصر الفوضى في الخليج العربي خصوصاً، وفي المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط عموماً.
وبعد النشاط الدبلوماسي الغربي –الأمريكي والأوروبي- نحو الخليج العربي، فضلاً عن النشاط التركي، على مدار قرابة شهرين، لحل أزمة المقاطعة السعودية الإماراتية البحرينية المصرية لقطر، ورفع الحصار عنها، يبدو كأن الخليج العربي دخل في مرحلة انتقالية جديدة، تعكس نمطاً جديداً من التوازنات الخليجية والإقليمية والدولية، عبر معادلات جديدة يعاد تشكيلها حالياً، من بوابة أزمة قطر أساساً، التي تمثل أول اختبار جدي للسياسة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب تجاه السعودية والإمارات وقطر، وإقليم الشرق الأوسط إجمالاً.
ولا شك أن انسياق بعض النظم العربية نحو مجاراة المقاربة الأمريكية لمكافحة الإرهاب في عهد الرئيس ترامب، بل وافتعال أزمات عربية-عربية بدعوى مكافحة الإرهاب، يؤكد أن أزمات المنطقة العربية تدخل مستويات أعلى من التعقيد؛ ممَّا يؤدي إلى إفساح المجال بصورة أكبر لتحكم العوامل والتدخلات الخارجية في تقرير شؤون المنطقة ومصير شعوبها.
وهذا كله يؤدي إلى مزيد من احتقان المنطقة العربية وزيادة الضغط على شعوبها؛ ممَّا يجعلها مهيئةً أكثر لانفجارات شعبية ومجتمعية؛ بسبب عجز الأنظمة العربية عن اجتراح معادلات سياسية وديمقراطية جديدة تنصف الشعوب، وتعاقب النخب والقيادات التي تصرّ على قمع المطالبات بالتغيير والحرية تحت دعوى مكافحة أو محاربة الإرهاب، في حين أنها المسؤولة عن تخليق البيئة السياسية والمجتمعية المحتقنة الدافعة إلى الإرهاب؛ إذ يقع اللوم على من يملكون السلطة والموارد ويحتكرونها، وليس على المطالبين بالحقوق والتغيير.
_____________________________________________________________
الهوامش[1] انظر: وحدة تحليل السياسات، “الحرب على الإرهاب” في إدارة ترامب بين مقاربتي الأيديولوجيين والبراغماتيين”، تقدير موقف، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017/3/28. (شوهد 2017/6/15). على الرابط: https://goo.gl/dwgtA4
[2] آلان كيسوتر وميليسا بويل ماهل، “الارتهان للواقع.. حدود قدرة الولايات المتحدة تجاه الربيع العربي”، ملحق تحولات استراتيجية، السياسة الدولية، العدد 190، تشرين الأول/أكتوبر 2012، ص 7-8.
[3] وليم ب. كوانت، “السياسة الأمريكية والثورات العربية عام 2011″، في: الشرق الأوسط الجديد الاحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي، فواز جرجس (محرر)، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، نيسان/أبريل 2016، ص 381- 382.
[4] عبد الخالق عبد الله، “تغيرات استراتيجية: السياسة الأمريكية في العالم العربي بعد الثورات”، السياسة الدولية، العدد 193، تموز/يوليو 2013، ص 11- 14.
[5] لمزيد من التفاصيل راجع: أسامة أبو إرشيد، “الولايات المتحدة الأمريكية والإخوان المسلمون في مصر”، تحليل سياسات، أيار/مايو 2014، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على الرابط: https://goo.gl/kKbcSr
[6] راجع حول قانون جاستا: وحدة تحليل السياسات، “تداعيات قانون جاستا على العلاقات الأميركية – السعودية”، تقييم حالة، الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016/10/19. (شوهد 2017/7/26). على الرابط: https://goo.gl/YmZ37F
[7] وحدة تحليل السياسات، “الحرب على الإرهاب” في إدارة ترامب بين مقاربتي الأيديولوجيين والبراغماتيين”، مصدر سابق.
[8] علاء بيومي، “الموجة الثانية للثورة العربية المضادّة”، العربي الجديد، 2017/6/7، على الرابط: https://goo.gl/xoQgYH
[9] انظر: حسنين توفيق إبراهيم، “العنف السياسي في الوطن العربي”، أوراق عربية، (17)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2012، ص 23-30. ولمزيد من التفاصيل حول الحالة المصرية تحديداً بعد ثورة 25 يناير 2011، راجع: التقرير الاستراتيجي العربي 2011-2012، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، 2013، ص 468- 481
[10] سعيد الشهابي، “ثلاثة انقلابات سعودية في أعوام ثلاثة”، القدس العربي، 2017/6/28. على الرابط: https://goo.gl/5GVtNW
[11] بتصرف عن: المصدر نفسه.
[12] بتصرف عن: المصدر نفسه.
[13] مضاوي الرشيد، “السعودية وجيرانها: علاقة مضطربة”، تقارير، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2017/7/5. (شوهد 6/7/2017). على الرابط: https://goo.gl/ihDYbh
[14] كريستيان كوتس أولريخسن، “الإمارات العربية: تحولات القوة والدور”، تقارير، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2017/6/8، على الرابط: https://goo.gl/BF15Vt
[15] المصدر نفسه.
[16] خالد المزيني، “الموقف الإماراتي من ثورات الربيع العربي”، في: جمال عبد الله ومحمد بدري عيد، الخليج في سياق استراتيجي متغير، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، وبيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014، ص 138- 139.
[17] إيمان رجب، “خليج ما بعد الربيع: التحدي والاستجابة”، الديمقراطية، العدد 57، كانون الثاني/يناير 2015، ص 74.
[18] المصدر نفسه، ص 79- 80.
[19] التقرير الاستراتيجي العربي 2011-2012، القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، 2013، ص 159.
[20] لوري بلوتكين بوغارت، “لمَ يزداد سطوع نجم الإمارات العربية المتحدة؟”، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 2015/1/18، على الرابط: https://goo.gl/c6V5Pd
[21] بتصرف عن: محمد فهاد الشلالده وأحمد حسن أبو جعفر، “إشكالية التوسع في تهم الإرهاب في المنطقة بدوافع سياسية”، دراسات شرق أوسطية، العدد 72، صيف 2015، ص 31- 32.
[22] راجع: أحمد يوسف أحمد، “تأثير الإرهاب في جامعة الدول العربية والتكتلات العربية: أفكار للنقاش”، السياسة الدولية، العدد 199، كانون الثاني/يناير 2015، ص 60- 65.
[23] راجع المصادر الآتية:
-“وكالة: أمير قطر يصدر مرسوماً يستهدف تعزيز الحرب على الإرهاب”، رويترز، 2017/7/20، على الرابط: https://goo.gl/PA81Hf
-“وزير الإعلام السعودي: جهاز أمن الدولة سيكافح الإرهاب والاختراق الفكري”، الحياة، 2017/7/24.
– “مصر تنشئ مجلساً قومياً لمواجهة الإرهاب والتطرف”، رويترز، 2017/7/26. على الرابط: https://goo.gl/zemR1p
-جميل مطر، “الخليج لن يعود كما كان”، الشروق، 2017/7/6 ، على الرابط: https://goo.gl/dwnjph
[24] راجع: عبد النور بن عنتر، “فرنسا والأزمة الليبية.. هاجس مزدوج”، العربي الجديد، 2017/7/29، على الرابط: https://goo.gl/EDzVSj
[25] “مشرعون أمريكيون يطالبون بتحقيق في تقارير عن تعذيب في اليمن”، رويترز، 2017/6/23، على الرابط: https://goo.gl/TzRN2T
[26] علي الذهب، “دوافع الدور الإماراتي في الحرب اليمنية ومخاطره”، تقارير، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2017/7/10. (شوهد 2017/7/21) على الرابط: https://goo.gl/yRtp7G
[27] راجع المصدريْن الآتيين:
Patrick Cockburn, “The massacre of Mosul: 40,000 feared dead in battle to take back city from Isis as scale of civilian casualties revealed”, Independent, 19 July 2017.
-“زيباري: 40 ألف مدني قتلوا في معركة الموصل”، الشرق الأوسط، 2017/7/20، على الرابط: https://goo.gl/4oiHGa
Share this:Click to share on Twitter (Opens in new window)Click to share on Facebook (Opens in new window)Click to share on Google+ (Opens in new window)المصدر