رحيل آن ديفورمانتيل: معانقة الخطر بعد مديحه


muhammed bitar

لم تكن آن ديفورمانتيل (1964 – 2017)، من الصف الأوّل من مشاهير المشتغلين في الفلسفة والتحليل النفسي (مجالَي اشتغالها) في فرنسا، رغم إصداراتها الـ22 التي كان اسمها في بعضها مصاحباً لأسماء كبيرة، مثل جاك دريدا (كتاب “الضيافة”، 1997)، ومارك آلان واكنين (“سفر يونس”، 2001)، غير أن رحيلها، أو بالأحرى قصّة رحيلها، قد تأتي لمسيرتها بأضواء كثيرة.
فقد رحلت المحللة النفسية الفرنسية الأسبوع الماضي وهي تحاول إنقاذ طفلين، أحدهما ابن صديقتها، في أحد شواطئ جنوب فرنسا. وقد أشار التقرير الطبّي إلى أنها تعرّضت لسكتة قلبية أثناء ذلك، فيما نجا الطفلان مع تدخّل فرق الإنقاذ لاحقاً.
ما أقدمت عليه ديفورمانتيل في هذه الحادثة كان مزيجاً من التضحية والمخاطرة، والعجيب أن المُصطلحَين يظهران في أعمالها؛ الأول في كتاب بعنوان “المرأة والتضحية” (2007)، والثاني “مديح الخطر” (2011)، الذي لاقى قبولاً حسناً في القراءات النقدية حوله وقت صدوره.
في “مديح الخطر”، حاولت ديفورمانتيل تقديم إطار فلسفي حول “الخطر” الذي كان دائماً فكرة عابرة في النظريات الفلسفية الكبرى (ما عدا نيتشه). انطلقت من مقولة الشاعر الألماني هولدرلين “أينما نظنّ أنه الخطر، يمكن أن نظنّ بأنه الخلاص”، والتي تأتي بها إلى العصر الحديث حيث تتناثر الأخطار أينما توجّهت الأبصار؛ سطوة الدولة والقانون والتكنولوجيا، غضب الطبيعة، الأزمات الاقتصادية (…) معتبرة في الأخير أن المخاطرة شكل لامتلاء الحياة؛ معدّدة هذه المخاطرات التي تضع علامات فارقة في مساراتنا، وبالتالي تصنعها: المخاطرة في دخول تجربة الحب، المخاطرة في أخذ قرار الاستقلال الذاتي، وغيرها مما تحفل به الحياة البشرية.
ولكن من المؤكد أنه يمكننا أن نضيف إلى القائمة شكلاً آخر؛ المخاطرة بالقيام بعمل إنساني مثل محاولة إنقاذ حياة أطفال من الغرق. إنها لحظة يمكن من خلالها التفكير في كل مسار آن ديفورمانتيل؛ أفكارها عن “بشرية استثنائية” و”قوة النعومة” (عنوان كتاب صدر في 2013)، وربما أيضاً إصدارها الشخصي الأول “البُعد النبَوي للفلسفة” (1998)؛ والذي كان إعادة كتابة لرسالة تخرّجها من الجامعة.
يعود الاهتمام المزدوج بالفلسفة وعلم النفس إلى الفضاءات التي تكوّنت فيها ديفورمانتيل، فعلى المستوى الأسري، كان أبواها محلّلين نفسيين، ضمن المدرسة اليونغية (نسبة إلى كارل غوستاف يونغ)، ومنهما أخذت زاوية النظر النفسانية إلى الأشياء. أما أكاديمياً، فقد اختارت طريقاً آخر حين تخصّصت في الفلسفة، وكانت بداياتها من الثيولوجيا قبل الانفتاح شيئاً فشيئاً، مع تراكم المؤلفات، على قضايا العالم الحديث.
من أبرز اشتغالات ديفورمانتيل هو محاولاتها فكّ قوقعة المركزية الفكرية الفرنسية، حيث اجتهدت في نقل راهن الفلسفة الأميركية، خصوصاً في كتاب “أميركان فيلو” (2006)، وتبدو جهودها مقابلاً موضوعياً للجهود الأميركية التي ظهرت في الثمانينيات في فهم الفكر الفرنسي، خصوصاً لنظريات دريدا وفوكو وبودريار.
لكن أكثر ما لفت إليها الجمهور كانت كتاباتها النفسية التي عالجت فيها مواضيع الحياة اليومية بشكل مبسّط، وقدّمت في بعضها مواقف بعيدة عن التوقعات، مثلما هو الحال مع “الوحشية الأمومية” (2001)، أو “في حالة الحب” (2012)، حيث تدرس الجوانب المَرَضية لعلاقات كثيراً ما جرت إحاطتها بهالات من التقديس والتبجيل، مثل العلاقة الغرامية أو الأمومة.
آخر مؤلفات ديفورمانتيل صدر في 2015 بعنوان “حماية السر”، وهو مجموعة نصوص لم تلتزم فيها بالمواضعات العلمية، تتضمّن دعوة للإنسان المعاصر إلى توفير مساحة كبيرة من الحميمي الذي يتآكله الظهور المكثّف مع ما يفرضه “عصر الشبكة والأنا المتضخمة”. إنه خطر آخر تنبّه إليه المفكّرة الفرنسية، ولكنه يظلّ على قدر كبير من الجاذبية.




المصدر