فتحي المسكيني: في السؤال عن إعادة كتابة العالم


حاتم محمودي

ما لم يدركه فلاسفة الرّاهن من الانفجارات الثورية، وأغلبهم يتحوّل الآن إلى سياسيّ أو كاهن محض، أنّهم كانوا في السّديم شعراء، إذا نزلوا إلى حرب كانوا مثل “مريونيس” اليوناني، و”مريونيس” بدوره مثل إلكترون لا يلاحظ إلّا من خلال أثره، تحدّده سهام العدوّ فإذا به في حرب أخرى، وتلتحق به فيكون في ثالثة، بما تعنيه إقامته داخل معادلة الحرب وخارجها في اللحظة ذاتها. وما فاتهم -أيضًا- أنّ الفلسفة باتت تخون، منذ أن صار للسياسي شأن في حقولها، بينما حقلها أبعد من التمركز “الأبّولوني” لا من نبله، أو ربّما سلطويته؛ إذ إنّ ما يعرف لدينا اليوم عن “التعقلن الأبّولوني” لا يمكن أن يتخطّى حدود أوهام المثاقفة ومغالطاتها الكبرى منذ العهد الإغريقي. ففلسفة القرن الرابع قبل الميلاد كانت مصنعًا كهنوتيًا لا تقول استتباعاتها الكولونيالية بغير الصراع؛ ذلك أنّها منذ بداياتها اغتالت الشعراء وسبت إله الكروم ديونيزوس، فكان تاريخ التمركز الإغريقي وليد ذلك، وهو -حتى الآن- يرمي بسهامه الحارقة راهن عالمنا.

وما من فيلسوف نقرأ له الآن، يعيش خارج الدائرة، بوصفه المحارب أو ربما هو شاعر ضحوك وغاضب، وعصيّ على الزمن، بما تعنيه لحظة الكتابة باعتبارها نوعًا من الإقامة في المستقبل، حتى يكون بمثابة لحظة زئبقية يصعب الإمساك بها، ما دام كهنوت الحداثة في العالم ينفي إمكانية مولد خصب إنساني جديد ضمن المشترك الثقافي، مكانه برزخ عشقيّ بين الإلهين “ديونيزوس” و”أبولون”. يبدو أن فتحي المسكيني يتحرّك في تخوم إشكالية من هذا النوع، ولكن ذلك شريطة أن نقرأه كرؤيويين، أي أنّنا في حالة وجد صوفيّ أشبه بالرقص على أركان مثلّث “بارموديّ” الرّعب، تبحث عن مشروعه الفلسفيّ بوصفه الحلقة المفقودة في السلسلة البنيوية بين عاشق الكروم “ديونيسيوس”، وربّ الانتظام “أبولون”، الأوّل تشغيل للطقوس والنذور والروح الشرقية، بما تحمله من توحش خالص ومشتهى، لهث من ورائه علماء “الأناسة” وبعض من المسرحيين وشعراء كبار، والثاني مطلب ملحّ يشغّل نزعة الحكمة، بينما الإقامة بينهما لا تنتج غير الاضطراب؛ إذ إنّها إقامة تتطلب خيارًا ثقافيًّا يقول بالأفضلية والتفوق؛ ما ينتج حالة من التمركز تتبعه مغالطة مفهومية وجدت ترجمتها المصطلحية في لفظة المثاقفة، لذلك لا نصف “المسكينية” على أنها إقامة، بل تشغيل للمفقود والهامشي بينهما.

هل تفطّن هذا الفيلسوف، بضرب من النبوّة، إلى شراك تلك الدائرة، فقرّر أن يكون محاربًا على غرار “مريونيس”؟ وفيلسوفًا لا كما فلاسفة الإغريق الأخلاقيين، أو شاعرًا كما لم يقل “أرسطو” عن التراجيديات؟ و “ما بعد ديني”، كما فكّر جلجامش في الآخرة؟ ليس ثمّة –علميًا- عشبة خلود، ولكن يبدو أنه ثمة عشبة مستقبليّة ينحدر منها الفيلسوف، إذا لم يخن الشعر: أن يكون ذلك الزخم الماضويّ القادم من المستقبل.

إنّ تشغيل “المسكينية” من جهة “ديونيزوسيّة” وأخرى “أبولونية”، بوصفهما يمثلان النّصل نفسه الذي يحارب به “مرنيوس”، والنبتة نفسها التي لا تسقى من نبع المركزيات، إنما تجد غيمتها في تناسج السياقات الثقافية، فتقوّض بذلك سيرة تشغيل الهويّات وتناحرها. هكذا يكون الفيلسوف مدية على وريد مغالطات تراثه ومستقبل راهنه، كأن يعيد الكتابة بأجهزة مفهوميّة مغمّسة في تراجيديا العالم، ليقيم خارج القطيعة التي مزّقت أوصال المشترك، وغذّت المغالطة الأولى التي تحرّكت ضمن تصادم الثقافات بإعلائها شأن الأفضلية والتراتبيّة، ويصبح سؤاله الفلسفيّ إبرة تخيط شروخ هذا العالم.

لقد حدثت مغالطة جديدة وجدت مقامها في مصطلح المثاقفة ذاته، إذ بما هي تشغّل المشترك تحدث جراحات كولونيالية جديدة. فالغرب لم يلتفت إلى الآخر، من باب التفاعل المشترك، إلّا لكونه يريد استثماره، وكثيرًا ما نتحدث الآن -على سبيل المثال لا الحصر- عن “آرتو”، بينما ننسى طقوس (اللاما)، وكثيرًا ما تبهرنا (مهابهاراتا) “بيتر بروك”، وننسى “المهابهاراتا” الأصل، لكن دون أن نتجرّأ على تفكيك مثل هكذا هوّة تنشأ؛ إذ يبدو الأمر في غاية التعقيد. وهنا ينبهنا “المسكيني” في كتابه (الأنوار والحرّية) بالإشارة إلى “هشاشة المشترك” من خلال قوله “لنحترس من ثقافة التعدد التي لا تدافع عن “المشترك”؛ ذلك أن “ثمرته” لم تعد نتيجة نقاش بين العقول، بل من خلال نزعة كولونيالية وتراتبيّة.

ثمّة أيضا “مكر لاهوتي/ هوّوي”، حذّرنا منه في سياق تشغيله للفلسفة النيتشويّة، فبينما يذهب البعض إلى القول إن فيلسوف المطرقة يلتقي في نهاية المطاف مع عدوّه هيغل، حين يتمّ التحدث عن أصل الفلسفة بإلصاقها إلى الغرب وحده دون الشرق، وإلى توصيف عودته إلى “زاراتوسترا”، من باب استثمار أنثروبولوجي للحضارات الأخرى، يفتح المسكيني سؤالًا له مديتان، الأولى تدين هذه القراءة الخاطئة، بينما تعيد الثانية تشغيل القديم من ثقافتنا بما يجب أن تُموْضعَ في سياق الحسّ الحواريّ مع هذا الغرب.

يقول في الكتاب نفسه ما يلي: “بعيدًا عن أيّ مكر لاهوتي أو هووي، علينا أن نأخذ تدخل نيتشه في شؤوننا الإلهية والنبوية، بوصفه تعبيرًا ما بعد ميتافيزيقي، عن محبّة جارفة للنوع الإنساني فينا”، والنوع الإنساني كما ندركه هنا، هو هذا الذي يتخطّى “هشاشة المشترك”، بوصفه -أيضًا- ما بعد لاهوتيّ، خارج معادلة الحداثة نفسها؛ إذ هي محض تتويج للماضي من الديانات، كما تم تفكيكها من قبله في أكثر من موضع. فليس لأنّ “الغرب لم يؤمن بنا أبدا”، أمر يجعلنا بَافلوفِيين أو “هوّويين”؛ وبالتالي يكون سقوطنا في المربّع ذاته الذي يتحرك من خلاله، بما يغذّي نشأة الأصوليات، بل يمكننا الإفصاح عن أنه ثمّة “ثقوب ما داخل فكرة الغرب، هي التي تجعل تفكيرنا اليوم ممكنًا”. هكذا تكون ثوراتنا الآنية -تلك التي أشرنا إليها في أوّل المقال- “استعادة حادّة وكثيفة لحقوق الإنسان الكونية وليس الهووية”.

إن سوء استنطاقنا للقديم من تراثنا، وسقوطنا في ردّة الفعل ضدّ هوويّة الغربي وكولونيالته، أمر يجعلنا نعود إلى مساءلة الإلهين ذاتهما، “أبولون” و”ديونيزوس”. الأوّل في بعض معانيه يمثل هذه الكولونيالية، بينما الثاني وبعد خروجه ثائرًا من رحم تمّ تذويبه فيها قسرًا وغصبًا، صار هوويًا. لقد نبتت “هشاشة المشترك” من هذا التصادم بينهما؛ حيث يظهر لنا الأوّل في صورة تاجر السلاح والاستعماريّ، بينما طفح كيل الثاني فصار إرهابيًا يقطف الرؤوس: كأنّه ثمّة تتويج أو بالأحرى ثأر كان مؤجّلًا منذ القديم.

من هنا تتحرّك الأنصال “المسكينية” لتدين هذا الصراع بين الإلهين، فتقرأ النيتشوية من خلال شذرة نبسطها الآن: “وحده نبيّ يمكنه أن يوصل خبر موت الإله الأخلاقي إلى المؤمنين به”، فهل لنا نبيّ الآن يقول ذلك؟ وإن وُلد في حقولنا ليعلّمنا هذا الخلاص، فمن سيكون ذلك النبيّ الذي سيخلّص العالم برمّته، ويقول للإلهين أن ما يجمعهما هو الحبّ وليس التصادم؟

نعم، ثمّة ما يمكن أن نجده في كتابه “فلسفة النوابت” عن معضلة كهذه، هنا “مرض قراءة التراث وتأويله: لقد أصبحت الفلسفة عندنا بسبب ذلك حيوانًا تراثيًا هجينًا”، وثمّة أيضًا غرب عليه أن يؤمن بنبيّ كنيتشه، فـ “العلماء والشعراء هم السكان الأصليون للأرض”، بعيدًا عن أولئك الأرذال من جيوش الساسة وعسس الهويّات، وعلى الفيلسوف أن يصاحب الحبّ بوصفه ذلك الجمع بين الإلهين والمبشر بمولد طينة الإنسان الجديد، بعد فصل من مرارات العصور. فليعش الشعراء إذن، لقد أذن لهم الفيلسوف بذلك، ليس من باب سلطويّته، بل لأنّهم “يحرسون هشاشة العالم”.




المصدر