الحريات الفردية ليست كماليات

31 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
7 minutes

العرب

يخطئ من يظنّ بأن الحريات الفردية من الكماليات القابلة للتأجيل إلى ما بعد حسم القضايا الكبرى. وما عساها تكون القضايا الكبرى إن لم تكن في جوهرها الإنسان؟ ومن ذا الذي سيحسم القضايا الكبرى أو الصغرى إن لم يكن الإنسان عينه؟ وهل الإنسان شيء آخر غير الأفراد كذوات واعية وأجساد كريمة؟ هنا بالذات تكمن إحدى ثغراتنا وعثراتنا التي تستوجب الإمعان والتمعن.
عموما، ثمة معاينة إجمالية يمكن الانطلاق منها، تختلف مظاهر العمران ومعدلات النمو في العالم الإسلامي الممتد عرضا من ساحل المغرب الأقصى إلى أرخبيل إندونيسيا، تختلف معدّلات النمو الاقتصادي، ومؤشرات التنمية البشرية والتنمية السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، إلا أن هناك سمة غالبة على كل الحالات. إذ يبقى الفرد هو الغائب الأكبر. انمحاء الفرد هو ما يجعل قابلية النّكوص كامنة في اللاوعي الجمعي للمجتمعات الإسلامية كافة. فالإنسان المسلم ينشأ منذ طفولته على اعتبار نفسه مجرّد جندي صغير ضمن بنيان مرصوص. لذلك، تكفي أحيانا حالة انفعالية جارفة حتى تتهاوى مظاهر التمدّن وتطغى غرائز القطيع على الجميع.
في مجمل نقاشاتنا حول سؤال الحداثة بالعالم الإسلامي ثمّة مدخل لا ننتبه إليه. لا يتعلق الأمر بممر سحري كما يخال البعض، لا يتعلق الأمر بنفق سري تحرسه قوى شيطانيّة تتحكّم في مفاصلنا وتفاصيلنا وتستوجب النفير للقتال كما ظن البعثيون والجهاديون والخمينيون.
وقد كان هذا الظن الاحترابي باهظ الكلفة على العمران والأوطان، لكن، يتعلق الأمر ببوابة دخول رئيسية إلى العالم الجديد، لا يمنعنا عنها إلا ما بأنفسنا من غشاوة وأوهام، ولا يحجبها عنا سوى الجهل المستشري فينا، باب قد ندنو من عتبته أحيانا لكننا سرعان ما نعرض عنه ونولي الأدبار خائبين خائفين متوجسين. هذا الباب هو الحريات الفردية، تحديدا أو توضيحا، الحريات الفردية في مختلف أبعادها الثقافية والفكرية والسياسية والدينية والجنسية.. إلخ.
غير أنّ الحريات الفردية تستدعي أن يكون للفرد وجود. إذ يجب أن يوجد الفرد أوّلا. في حين أنّ الفرد كان ولا يزال غائبا في ثقافتنا غيبة كبرى. وبالأحرى فإنه مغيب بفعل رؤى ثقافية تطمره داخل مفاهيم الأمّة والشّعب والجماعة والطبقة والطائفة، ولا تسمح له بالتعبير عن نفسه خارج هوية عصبية جامعة.
تتعلق المسألة، من وجهة نظر اللاوعي الجمعي، ببقايا غرائز القطيع البدائية، عندما كانت السباع تنقض على الطرائد القصية وتنفرد بالفرائس المنعزلة. لقد كانت ظروف العيش في البراري تجعل الالتحام بالقطيع مسألة حياة أو موت بالنسبة لكافة الكائنات الحية وضمنها الإنسان.
وبما أن تاريخ البشرية ليس تاريخ قطائع نهائية وإنما هو تاريخ احتواء وتجاوز، فمن الطبيعي أن تبقى غريزة القطيع كامنة في لاوعي الإنسان. وهذا معطى تستثمره الأيديولوجيات الشمولية لغاية إقصاء الفرد والزج به داخل بوتقة هويات الجموع، ثم تجعله يتصرف على ذلك الأساس، سواء تعلق الأمر بالمشاركة في تظاهرة نقابية، أو حضور إحدى خطب الزّعيم، أو مباراة في كرة القدم، أو خطبة عالم الدين، أو تعلق الأمر بالكرنفالات الاحتفالية والتي قد نعتبرها بمثابة تحوير إبداعي وفني وجمالي لغرائز القطيع، لكنه تحوير محمود في كل الأحوال ومفقود في أحوالنا.
أحيانا قد يذهب الظن ببعض نخبنا إلى الاعتقاد بأن الحريات الفردية ستضعف الأحزاب والنقابات والمؤسسات، وقد تضعف الدولة والأمة والملة، بل قد تضعف المعارضة بالنسبة للمعارضين، والمقاومة بالنسبة للمقاومين، والثورة بالنسبة للثوريين، والممانعة بالنسبة للممانعين، والإسلام بالنسبة للإسلاميين، ومن ثمة قد لا تعدو أن تكون أكثر من دعوة مشبوهة إلى شق صف المجموع، وزعزعة ولاء الأفراد للجماعة. وهذا خطأ جسيم في التقدير. ذلك أن قوة المؤسسات والمجتمع من قوة الأفراد، وفاعلية المؤسسات والمجتمع من فاعلية الأفراد، وتطور المؤسسات والمجتمع من تطور الأفراد.
الفرد هو الحلقة المركزية في كل معارك الانتقال من مجتمعات العصر الوسيط إلى مجتمعات الحداثة. أولا، لأن الفرد من حيث هو وعي بالذات هو الحامل المحوري لعملية التفكير. ثانيا، لأن الفرد من حيث هو إرادة حرة هو الحامل المحوري للإرادة الخاصة باعتبارها النواة الأصلية للإرادة العامة، إذ لا وجود لإرادة عامة حرة دون إرادات خاصة وحرة.
ثالثا، لأن الفرد من حيث هو ذات مستقلة هو الحامل المحوري للعقد الاجتماعي والذي هو أساس بناء الدولة والمؤسسات. رابعا، لأنّ الفرد من حيث هو مواطن فاعل هو حامل الصوت الانتخابي كعنصر حاسم ضمن العملية الديمقراطية؛ فإن المواطن يدخل بمفرده إلى مخدع التصويت.
خامسا، لأن الفرد من حيث هو شخص هو الموضوع الأساسي لحقوق الإنسان، ذلك أن الحقوق متعلقة بكرامة الشخص، ويصدق هذا على كافة الحقوق، بما فيها الحقوق الاجتماعية والسياسية، بل يصدق على حقوق الأقليات طالما أن الفرد هو أقلية الأقليات.
في مجتمعات العصور الوسطى لم يكن هناك شيء اسمه الحياة الخاصة. كانت الحياة الخاصة جزءا من الحياة العامة. لذلك كان نظام العقوبات يطال الحياة الخاصة أيضا. ههنا لا يقف الأمر عند حدود إنكار الحريات الفردية، وإنما يصل إلى مرتبة إعلان الحرب عليها. بل أصبحت حرب الجميع على الحياة الخاصة للجميع بمثابة حرب مقدّسة تدخل ضمن ما يسمى في السياق الفقهي بـ“الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
على أن دعاة تغيير المنكر لا يقصدون أبدا مكافحة الجرائم الاقتصادية من قبيل الرشوة والتهرب الضريبي وتبييض الأموال، ولا يقصدون المطالبة بتفعيل القانون في تلك المجالات التي تمثل مؤشرا على خراب العمران وهلاك الأوطان، وإنما مقصودهم بالأولى إعلان الحرب البدائية على أفعال شخصية لا تمثل أي خطر أو ضرر على أي أحد، من قبيل نوعية اللباس وطريقة المشي ووسائل التجميل وتسريحة الشّعر ومايوهات السباحة والأذواق الموسيقية والميول الجنسية، إلخ. تلك الحرب القذرة على الحريات الشخصية تندرج ضمن بقايا المعتقدات البدائية. كيف ذلك؟
ليس يخفى أن العشائر البدائية كانت تعيش تحت رحمة الخوف الدائم من انتقام الآلهة من العشيرة كلها بسبب الأفعال الشخصية لفرد واحد أو لبضعة أفراد، فيما يُصطلح عليه اليوم باسم العقاب الجماعي. هذا ما ترفضه العدالة المعاصرة بكل تأكيد. فضلا عن ذلك فإن العقاب الجماعي يخالف القيم الوجدانية للخطاب القرآني نفسه، فيما لو أن قومنا يقرأون “ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى” الأنعام 164. وبهذا القول نختم المقال.

(*) كاتب مغربي

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]