فكر صادق جلال العظم في مجلّة (قلمون)


مصطفى الولي

في العدد الأول من مجلة (قلمون) التي تصدر عن مركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، احتل الملف الذي يتناول فكر صادق العظم ومساهماته النظرية والفلسفية، مساحةً من الصفحات تزيد عن مئتي صفحة. قدّم خلالها أربعة عشر مفكرًا وباحثًا مساهمات مهمّة بمجموعها، وفي كل مساهمة زاوية تُقارب -نقدًا وعرضًا وتحليلًا- أفكارَ صادق العظم التي طرحها في كتبه ومؤلفاته، أو في مقالاته ومقابلاته وحواراته.

في مراجعة المواد التي تضمنها الملف، يمكن الإشارة إلى عدة نقاط، هي -باعتقادي- ضرورية للقارئ، فالوقوف على مساهمات عميقة ونوعية لمفكرين وباحثين لهم مكانتهم، كل في اختصاصه، وهم يتناولون موضوعًا غنيًا وخصبًا (أفكار صادق جلال العظم) هو مسألة شاقة، وهذه المراجعة المطروحة للقارئ لا تدّعي الإحاطة المكتملة والشاملة والتفصيلية لكل ما ورد في الملف من مساهمات قدمها المشاركون.

بناء على ما ذُكر أعلاه؛ كان اجتهادي في المراجعة أن أتناول المواد كمحاور، ولكل محور “هوية” أو “نوع”، إن صحّ الوصف، وأقصد بالمحور -الهوية- النوع الذي يجمع ويصل عددًا من المساهمات ببعضها من حيث المضمون تحديدًا، لأنّ في كل مساهمة شكلًا مختلفًا عن الشكل الذي جاءت به مساهمة أخرى، والمحاور التي اخترتها هي الآتية:

– محور العلمانية والدين

– محور النقد والنقد الفلسفي

– محور العولمة والحداثة والفوات

– المحور السياسي الاجتماعي والإنساني

يجب التأكيد على أن هذه المراجعة لن تُغني عن قراءة الملف، لكنها ربّما تُشكل حافزًا للمهتمين بالفكر وبالثقافة عمومًا، وبأفكار صادق جلال العظم تحديدًا، للاطلاع الكامل على الموضوعات المهمة التي يحتويها ملف العدد الأول، من هذه المجلة الوليدة.

المحور الأول: العلمانية والدين

يندرج في هذا المحور عدد من المساهمات (مقالة أو دراسة أو بحث)، تدلّ عناوينها المباشرة على الموضوع المطروح: الدين العلمانية والعلم والعقلانية، وهذه العناوين هي: “مسار وعي العلاقة بين العلم والدين، عند صادق جلال العظم”، لرشيد الحاج صالح ص69، و”العقلانية النقدية والدين – مساهمة صادق العظم بعد نصف قرن”، لفالح عبد الجبار ص87، و”العلمانية والإسلام في فكر صادق العظم السياسي”، لعبد الباسط سيدا ص103).

يُجمع الكتّاب الثلاثة على أن العظم هو واحد من المفكرين الذين شكّلوا علامة بارزة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، فهو من الباحثين القلائل الذين تناولوا موضوعاتهم بطريقة نقدية معمقة، بطريقة النبش في الذهنيات التي سيطرت في الثقافة العربية المعاصرة وما زالت تسيطر (1). وفي كتابه الأول والأهم (نقد الفكر الديني)، هناك وحدة في المنهج النقدي الذي يقوم على المنهج العقلاني-النقدي، والتنوع في المقاربات، وميزة العظم في هذا المجال أنه لم يكن يُمارس التحليل والنقد من موقع تأملي بعيد عن الواقع الملموس، وهذا ما تجلى في التجارب الذهنية التي اعتمد عليها بصورة لافتة، بل كان متفاعلًا مع الأحداث، قريبًا من الناس (2).

لقد حملت المقالات المشار إليها، فضلًا عن عرضها لأفكار العظم حول العلاقة بين الدين والعلم، ومقارباته عن العلمانية والدين، تحليلًا نقديًا لبعض طروحات العظم، ووقفات حيال التغيرات الأساسية التي حدثت في طرحه الفكري والفلسفي، ومنها كان استخلاصهم لرؤى مختلفة، وصل إليها العظم في العقود الثلاثة الأخيرة، بعد مضي زمن كتابه (نقد الفكر الديني).

لقد مر فكر العظم بمرحلتين: الأولى تمتد حتى عام 1995، وكان يقول فيها بوجود تناقض بين العلم من جهة وبين الدين والميتافيزيقا من جهة ثانية. والمرحلة الثانية، وهي التي أخذ فيها العظم يميل إلى الظن بأنه يمكن أن تستوعب الأديان العلومَ الحديثة، وأن تستوعب العلوم الحديثة المعتقدات الدينية. في المرحلة الأولى كان كتابه (نقد الفكر الديني) مثالًا عن تصورات العظم للعلاقة بين الدين والعلم، تلك العلاقة القائمة على التضاد الكامل والمطلق بينهما، والمرحلة الثانية، المتطورة عن الأولى، وبها قال بإمكانية التوفيق بين الدين والعلم، وهو ما دلّ عليه كتابه (الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية) الصادر في العام 2007(3). وفي تحديد الفوارق في فكر العظم بمسألة العلاقة بين العلم والدين – العلمانية والدين، يوجد التباس؛ فالعلم لا يُعادل العلمانية التي هي منظومة فكر لتوجيه العلاقات الاجتماعية والسياسية والحقوقية، وهي ليست أيديولوجيا كما هو الدين، على الرغم من أنها انطلقت من داخل الدين المسيحي البروتستانتي، والحركة اللوثرية الإصلاحية.

من بين الانتقادات الكثيرة التي وجهها المساهمون، في المواد المصنفة تحت هذا المحور، لأفكار صادق العظم ومقارباته، نقف عند القول: إن العظم لم يكن يؤمن بأن هناك مواقف يمكن أن تجمع بين الدين والعلم، أو بين الدين والعلمانية، أو بين الدين والتنوير؛ ذلك أنّ العظم لم ينتبه إلى أنّ علي عبد الرازق وقف ضد (ابن خلدون) الذي قال بفكرة الخلافة، ووقف مع رأي (جون لوك) في أن الحكومة يجب أن تكون مدنية ومسؤولة أمام الأمة، أي الشعب، رافضًا رأي توماس هوبز الذي قال إن “سلطان الملوك مقدس”(4). لكن متابعة تطور موقف العظم من هذه القضية تبيّن أنه قد طرأ تطور في وعيه (…)، حين بدأ يعطي الدين، بوصفه كائنًا اجتماعيًا وتاريخيًا، أولوية على الدين بوصفه عقائد وميتافيزيقيا (5). ويسمّي العظم التحول المذكور الذي طرأ على تفكيره، في مسألة العلاقة بين الدين من جهة وبين العلم الحديث والديمقراطية والعلمانية من جهة ثانية، بـ “النزعة الإنسانية العلمانية”، ويقصد بها أن الإسلام مثله مثل الأديان والعقائد الكبيرة كلها، يمكن أن يتفاعل ويتكيف مع قيم الحداثة الغربية من عقلانية وعلمانية وديمقراطية وغيرها”. لعل الزمن الذي قال العظم فيه بهذه الأفكار 2007، بعد نصف قرن من كتابه (نقد الفكر الديني)، وبعد التجارب التي مرت بها بلادنا، والتطورات التي شهدتها اجتماعيًا وسياسيًا، فضلًا عن مفاعيل الزمن في تطور فكر صادق العظم -الإنسان- ووعيه، يُفسر من الجانب الرئيسي هذه المرحلة الجديدة، ولا ننسى أن (نقد الفكر الديني) كتاب نقدي بالأيديولوجيا والميتافيزيقيات، أما في كتابه (الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية)، فهو يُحلل التجارب العالمية والأفكار الحقوقية والقانونية، ويبتعد عن السجال مع الأيديولوجيا الدينية وما تحمله من أفكار أزلية، لا تحتمل الحوار والمراجعة والتغيير.

أشار فالح عبد الجبار، في دراسته المنشورة في الملف الذي نتناوله، تحت عنوان “العقلانية النقدية والدين” مشاركة صادق جلال العظم بعد نصف قرن، إلى أن قضية الانتقال من (الإسلام العقائدي) إلى (الإسلام التاريخي) ما تزال ناقصة، هذه محنة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر، واحتدمت بداية القرن العشرين، لحظات الانتقال من الإمبراطورية المقدسة إلى الدولة الوطنية أو القومية الحديثة (6). ولم يتشبث العظم بشكل مطلق بحتمية الانتقال من الإسلام العقائدي الميتافيزيقي، إلى الإسلام التاريخي، العلماني والإنساني، وانشطار الإسلام الذي يذكره العظم في (الإسلام والنزعة العلمانية) يقدم أساسًا، وينبئ باتجاه للتطور نحو العلمانية والإنسانية ماثل بالقوة أكثر مما هو ماثل بالفعل حتى الآن، وعلى الرغم من أنه يبدو مثل نطفة وسط صخب الخمينية والسلفية الجهادية، في حمأة التباغض والتقاتل الطائفيين، فإن الإمكان مرشح للنمو. شروط هذا التحول مركبة، ثمة النزعة البراغماتية العملية عند الإسلاميين، مؤسسات وحركات ومفكرين، أي ما يسميه العظم (الإسلام التاريخي) نقيضًا للإسلام العقائدي، وثمة القوى الاجتماعية النابذة للدولة الدينية، وثمة الانقسامات بين الإسلاميين بمواجهة الحداثة، وانقسامات الدول الدينية، وثمة التقدم العاصف، الفكري – التكنولوجي في العالم (7).

لا شكّ أن العظم انتقل إلى الأمام في نظرته القائلة بوجود الإسلام التاريخي، لكن هل يعني ذلك أن مشكلة الصدام بين الإسلام والعلم قد تلاشت شيئًا فشيئًا في فكر العظم، كما كتب رشيد الحاج صالح في مساهمته في الملف موضوع تناولنا (8).

في ما قدمه الكتاب والباحثون من دراسات وبحوث ومقالات في هذا الملف، لم نقف حيال رأي يقول إن العظم أغلق على مشكلة الصدام بين الدين والعلم. فهو -كأيّ مفكر أو فيلسوف- معنيّ بحركة الحياة الواقعية، ومتغيراتها الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ولن يتخلى عن مهمته في تحليل التطورات واستخلاص رؤى جديدة، ولا سيّما أن الموضوع مثار النقاش أتت به تطورات الحياة في البلاد العربية والإسلامية، ومن تلك التطورات انزياح مفكرين وعلماء وحركات إسلامية عن المقولات التقليدية الكلاسيكية في رؤيتهم لقضايا العدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية. ولأن العظم -كما وصفه أحد الكتاب في هذا الملف- “مثقفٌ عضويّ”، فضلًا عن أنه مفكر وفيلسوف، فإن التحولات والتغييرات التي يُبرز الواقع أي احتمال لنشوئها تعنيه في الصميم. وإنّ التحول المشار إليه عن (إسلام تاريخي إنساني وعلماني) هو في حقيقته ليس تنازلًا عن علميته وماركسيته لمصلحة الدين العقائدي الميتافيزيقي.

حقيقة أن العظم بقي مخلصًا في نزعته “العلموية” (باصطلاح الكاتب) حتى النهاية، تلك النزعة التي تعلي من شأن العلم، وتطلب من الكيانات الدينية والقيم الإنسانية كلها الخضوع له (…)، في حين بينت الدراسات المعاصرة التي تهتم، بتاريخ العلم وعلاقته بالمجتمعات، أن تطور العلم في المراحل التاريخية المختلفة، والأهداف التي تحكم بحوثه وتجاربه، تأتي من خارج “بنيته الصلبة”، وبما يتناسب مع كل عصر ومتطلباته وثقافته، والمشكلات التي تواجهه، وهذا يعني أنه كما تحول الفكر الديني، في مراحل تاريخية مختلفة، إلى أداة بيد الفئات النافذة لتحقيق مصالحها، عن طريق التكيُف مع “صراطية الدين”؛ كذلك تحول العلم التكنولوجي المعاصر إلى أداة بيد القوى المهيمنة في المجتمعات، لتحقيق الأهداف التي كان الفكر الديني يحققها في أوقات سابقة، وما زال يحققها حتى الآن (…). واستنادًا إلى السابق؛ ينتقد رشيد الحاج صالح تقصير العظم في نقد العلم بالرغم من نزعته النقدية التي ميزت فكره على مدى أكثر من نصف قرن، وحماسة العظم الشديدة للعلم ومنجزاته تشكلت في تيار واسع يسمى “الوضعية” أو “العلموية”، وتقوم هذه العلموية على تصعيد العلم بجعله جوهرًا مكافئًا لإيمان جديد يقدم جوابًا لكل شيء (9). أي تحويل العلم إلى دين. ويخلص الحاج صالح إلى أن العِلم، ولا سيّما في الدول غير الديمقراطية، خدم الاستبداد أكثر من الفكر الديني، وذلك بتحويل المدارس والجامعات ومراكز البحوث والمراكز الثقافية ووسائل الإعلام إلى وسائل لإقناع الشعوب بالتعايش مع الاستبداد وتمجيده (10). والحقيقة ليست كذلك؛ فليس العلم مَن خدَم الاستبداد، وإنما مناهج التعليم.

يبدو هنا أن الكاتب يُماهي بين العلم والعلوم التطبيقية والإنسانية، وبين التعليم والتدريس. ففي بلادنا تخلو المناهج من أي استخدام للمناهج العلمية في إعداد الأجيال وتوسيع مداركهم. وهي مناهج تستند إلى المحرمات والمحظورات ذاتها التي ينطوي عليها الدين؛ فعلى سبيل المثال هل يستطيع طالب في المرحلة الثانوية أن يعترض على ما يتعلمه في نظام الإرث الإسلامي، وكذلك في أن “الرجل يساوي امرأتين”. وهل يستطيع أن يناقش أساتذته بأن موتَ الأطفال والفقراء ليس قدرًا، إن كانوا محرومين من الغذاء والدواء والسكن الصحي. أما عن نظريات الحياة والخلق فأقصى ما تقدمه المناهج، بما فيها الجامعية، تعريف الطلاب بوجود أكثر من فكرة عن الخلق، مع التحفظ على قبول أو تبني فكرة عدم وجود خالق. لهذا السبب يخدم التعليم، وليس العلم، ترسيخَ الاستبداد السياسي للدكتاتوريات.

فكريًا، من حق الكاتب إبداء ملاحظة على غياب نقد العلم عند صادق جلال العظم، فللعلم مشكلاته وتوظيفاته بكل تأكيد، غير أن العظم -بوصفه مفكرًا وفيلسوفًا- دخل عالم الكتابة غير الأكاديمية من خلفية الاهتمام الكبير والعميق بقضايا بلاده، ومجتمعاتها، وثقافتها، والأيديولوجيا السائدة فيها. وفي هذا لم يكن العظم يرى أن مشكلاتنا تنبع من استبداد العلوم وتغولها.

كلمات أخيرة في هذا المحور، فقد قدم الكتاب المساهمون فيه، قراءات مهمّة للموضوع (الدين والعقلانية والعلم والعلمانية عند صادق جلال العظم)، وكل من زاويته، وأحالوا القارئ إلى مادة غنية بأفكارها وصياغتها، كما في مرجعياتها الفكرية الموثقة لكتاب عالميين وعرب، لهم مكانتهم المرموقة في عالم الفكر والفلسفة.

المحور الثاني: في النقد والفلسفة

في هذا المحور ثلاث مساهمات: لحسام الدين درويش بعنوان “في التمييز بين النقد والانتقاد – صادق العظم أنموذجًا ص27″، وليوسف سلامة، بعنوان “النقد المزدوج عند صادق العظم ص245″، ولأحمد برقاوي بعنوان “وعي صادق الفلسفي ص59”.

في موضوعات هذا المحور، نُطالع محاولتي تحليل ونقد لمنهج العظم في الكتابة النقدية الفكرية والفلسفية، وذلك ما تختص به اثنتان من المساهمات، بينما تتناول الثالثة البنيةَ الفلسفية لأعمال صادق العظم ولأفكاره.

ينشغل حسام الدين درويش في مساهمته بتبيان الفرق بين النقد والانتقاد، فالخلط بينهما مشكلة عالمية في اللغات كافة (11). فالنقد يُقدّم مسوغاته من داخل النص المنقود، بينما الانتقاد يطرح أحكامه وتقويماته من خارجه. فكيف تعامل العظم مع هذه المسألة؟ هل تضمنت تقويماته أو أحكامه التقويمية محاجَات حاول تسويغها، بإظهار معقوليتها ومقبوليتها أو واقعيتها وصدقها. بناء على الجواب عن هذا السؤال؛ تتحدد طبيعة الممارسة النقدية التي أجراها العظم في متن مؤلفاته.

تستقر مقاربة الكاتب للجواب عن هذا السؤال، بوصفه للعظم بصفة المفكر والفيلسوف أو الكاتب والناقد، لكن أيضًا ينبغي التأكيد على أن العظم، في تفكيره ونقده وفلسفته، يُعدّ إلى جانب ذلك باحثًا بالمعنى الأكاديمي للكلمة؛ ذلك أنه يحيل على نصوص من يعرض آراءهم ويناقشها أو ينقدها، مع قيامه بتوثيق هذه الإحالات بما يظهر معرفته التفصيلية بها (…)، ومن دون هذه المعرفة يصعب غالبًا -وربما دائمًا- تحديد قصد الكاتب ومعرفة إنْ كان محقًا، أو غير محق في أحكامه التوصيفية منها والتقويمية(12). واقع الحال في كثير من الأحيان وجود من يطلق أحكامه النقدية أو الانتقادية، من دون امتلاكه أو إبرازه الأساس المعرفي المعقول ليسوغها ويسمح بها. والمثال الواضح على مثل هذا الطريق تعامل عدد غير قليل من الكتاب والنقاد مع رواية سلمان رشدي (آيات شيطانية)، إذ قاموا بشن هجماتهم على الرواية وكاتبها. لقد ذهب العظم إلى نقد الرواية والتعمق بها، كما نقد نقادها الذين تناولوها بأحكام قيمية وأخلاقية مسبقة (سلمان رشدي وحقيقة الأدب). من جانبه أقر صادق في غمرة هذا السجال، وفي زاوية منه تتصل بالمقارنة بين رشدي وبريخت، بأنه يجهل تاريخ الهند وتراثها وأساطيرها وملاحمها ورموزها الشعبية؛ وبالتالي فهو عاجز عن إقامة مقارنة بين الاثنين (13).

في تقويمه لمؤلفات العظم الفكرية والنظرية، من الزاوية النقدية، يصل إلى أن نصوص العظم عمومًا هي -وفقًا لمعيار التسويغ- نصوص بحثية نقدية. فقط في كتابه (ثلاث محاورات) لم يقم بذلك.

من زاوية أخرى مختلفة، يطرق يوسف سلامة موضوع النقد عند صادق العظم، ويُقرّ بداية بحقيقة أن النقد عند العظم كان سلاحًا، وكان هو من أبرز من استخدموا هذا السلاح في وجه الأصدقاء قبل الخصوم (14). ولعل مصطلح الأصدقاء والخصوم يشير إلى سجالات العظم مع مفكرين يقفون على الأرض الواسعة للأفكار العلمية التقدمية، وهو القصد بالأصدقاء، وأولئك الذين يقفون ضمن حدود الفكر التقليدي المتواشج مع الفكر الديني والثقافة السائدة.

في طريقة تفكير العظم، يرى يوسف سلامة أنَ لدى العظم طريقتين، الأولى وهي (التفكير على التفكير)، وتتلخص في قيام الكاتب بتعقب النصوص التي ينتجها الآخرون، حول الموضوعات التي تهمه وتشكل أولوية في نظره، على ما سواها؛ فيقوم بتحليل ومناقشة ما كتب، ودحضه، أو على الأقل بيان حدوده، وذلك ما توضحه (ذهنية التحريم وما بعدها). والطريقة الثانية: التفكير في الأشياء نفسها دون المرور بفكر الآخرين أو مواقفهم الإيجابية أو السلبية (15). ربما كان من المفترض تناول الكاتب الطريقتين كلتيهما، بناء على ظرف اعتماد كل واحدة منهما، وطبيعة المسألة التي يقوم العظم بدراستها وتحليلها ونقدها.

وتشف مقالة سلامة عن تحبيذه للطريقة الثانية، ليصبح الفكر أكثر استقلالًا وقدرة على إصدار الأحكام المستقلة، وبعيدًا عن الشروط التي يفرضها التفكير على التفكير (16). ففي الأولى –حسب سلامة- يكون موقع الكاتب في الهامش، بينما في الثانية يكون موقعه في المتن. لكنه يستدرك هذا الحكم بإشارة إلى أن العظم كان موجودًا في المتن والهامش معًا في كتاباته حتى من النوع الأول (17)، أي التفكير على التفكير، الذي يفهم منه الكتابة النقدية عن مؤلفات كتاب آخرين وأفكارهم، والتوصل إلى أفكاره النقدية من خلال السجال والحوار.

ثمة من يرى أن صادق العظم كان يُحبّ السجال للسجال، وقيل إنه يُساجل في سبيل السجال، وهذا أمرٌ لا يمكن التيقن منه، لأن أحدًا لا يعلم (كما يُشير عزيز العظمة) ما في خبايا نفس الآخر وقصده، إلا أن للسجال سياقًا، ولكل سجال سياق يندرج فيه (…). إن العظم اختار جملة من الموضوعات للسجال، وثبت في الإطار الجامع لها على امتداد نصف قرن، وإن اختياره وثباته على هذا الاختيار كان موقفًا مناسبًا لخطاب الرقي ومعالجة الفوات (18).

يتبنى بعض مؤيدي العظم وناقديه فكرة أن النقد هو ما يختص بما هو سلبي، لكن العظم، في ممارساته النقدية للواقع والفكر العربيين، كان حريصًا على إظهار انتمائه إلى ما ينقده أو ينتقده؛ ولهذا كان يتحدث بصيغة “نحن”، والنقد يهتم بالسلبيات والإيجابيات، أما الانتقاد فيركز اهتمامه على السلبيات فحسب (19).

أعود إلى النقد المزدوج عند يوسف سلامة، في مقاربته لفكر صادق العظم النقدي؛ فنجده يوضح النقد المزدوج بأنه (نقد للذات ونقد للآخر) لا جلد للذات ولا إلقاء التبعية في تخلف واقعنا على الآخر (الإمبريالية والاستعمار أي الغرب)، وفي هذا المجال، أبدى العظم استغرابه ودهشته لوقوف المثقفين الغربيين (ربما الأصح القول بعضهم) ضد رشدي، بينما دافعوا عن المنشقين السوفييت ومنشقي البلدان الشيوعية (…)، كما يرفض الافتراض الأوروبي في مسألة أن العالم الإسلامي غير قادر على إنشاء منشقين نقديين تجديديين حقيقيين، وأن المسلمين أنفسهم غير جديرين بهذا النوع من الثقافة الجديدة(20).

في تناوله لصادق جلال العظم فلسفيًا، وضع أحمد برقاوي صادق العظم في إطار -أطَره- كمنتمٍ إلى الفلاسفة الماركسيين اللينينيين، ودون أي محاولة منه للقيام بعملية نقد وانزياح، وهذا ما حدد وعيه الفلسفي بتاريخ الفلسفة كله، بل إنه قد مارس النقد الفلسفي على أطاريح الماركسية – اللينينية في صورها السوفيتية (21). ثمة تساؤل، على افتراض موافقتنا على ما أورده برقاوي، هل الانزياح عن الماركسية شأن ضروري؟ فيما أرى أن الذهاب إلى توصيف العظم (باللينيني والسوفيتي) لم تدعمه أي إشارة لمواقف العظم في هذا الخصوص، وما نعرفه عن العظم باعتماده المنهج الماركسي الديالكتيكي، نعرف إلى جانبه وبالتوازي معه أنه لم يكن لينينيًا؛ إذ إن لينين ليس صاحب منهج فلسفي بقدر ما هو مؤسس لأيديولوجيا سياسية، انطلاقًا من فهمه للماركسية، بخاصة في تطبيقها على الصراع الطبقي والسياسي في روسيا القيصرية. والسوفيتية التي تأسست على انتصار اللينينية السياسي، لا زوّادة فلسفية لها، إنما هي أيديولوجية السلطة بعد انتصار البلشفية 1917.

تتسم مساهمة برقاوي في الملف، والتي جاءت تحت عنوان: “وعي صادق الفلسفي”، بالسمة التقريرية لا التحليلية النقدية، وهذا حق لا يسلبه أحد منه. وتبين العبارات التي تضمنتها المساهمة ما يؤكد ذلك. إذ يقول برقاوي: إن وعي صادق عمومًا -السياسي والأيديولوجي والفلسفي والديني- يتكون عادة بالخصام مع الآخرين، ولأن الآخرين “مصدر إلهام لأفكاره ومنبع مفيد لآرائه”، بحسب تصريحه (أي العظم)، فإنه “دفاعًا عن المادية والتاريخ” حشد جمهورًا كبيرًا من الفلاسفة الذين زودوه بمادة النقد، وهو على معرفة عميقة بهم وبمؤلفاتهم. فصادق، بعد عرض الفكرة المركزية لكل فيلسوف، ينبري للتعبير عن اختلافه معه، ونقده المنطلق من لا ماركسية المنقول (21).

في صفحات المساهمة التي شارك فيها برقاوي، في هذا المحور عن صادق جلال العظم، صياغة مكثفة لأفكار ينتقد فيها العظم وموقفه من الفلسفة والعدد الأكبر من الفلاسفة غير الماركسيين، وحتى الماركسيين لكن بخصوصية تتعارض مع بعض المقولات المركزية في الفلسفة الماركسية (سارتر لوكاش جماعة فرانكفورت). وهو يُسهم في تحفيز التفكير والعودة إلى دراسة المؤلفات التي انتقدها العظم، وبنى بالاستناد إلى نقدها أفكارَه عن “المادية والتاريخ”. ولا شك أن ما أورده برقاوي بتكثيف شديد في نقده للعظم، كفيلسوف، يحتاج إلى تدقيق وإلى العودة إلى المؤلفات الكبرى لأولئك المفكرين والفلاسفة.

المحور الثالث: الفوات والحداثة والعولمة

تضمّن الملف ثلاث مساهمات هي: “صادق العظم واستبطان الفوات” لعزيز العظمة، و”الحداثة وتجلياتها في المنهج النقدي لدى صادق”، لماهر مسعود. و”مناقشة لصادق حول العولمة”، لخضر زكريا.

يُقدّم عزيز العظمة لفكرته، في مساهمته عن صادق العظم، عرضًا سريعًا ومختصرًا لحالة المجتمع العربي والمثقفين العرب بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، وهي المرحلة الزمنية والسياسية ذاتها التي ذاع فيها صيت العظم، قبل خمسين عامًا. وكان من لب ذلك الزمن والوعي حينئذ، إدراك شأن محوري دار في فلكه الفكرُ التقدمي العربي مدة فاقت قرنًا من الزمن، وهو ضرورة الانتقال من حال التخلف إلى حال الرقي والتقدم والتمدن، عنوانها الحداثة، وإن هذه الحداثة تشتمل على الترقي بالمجتمع وبالعلاقات الاجتماعية من التقليد للماضي -الصحيح والمتخيل على حد سواء- إلى الولوج في الجديد، مثلما تشتمل على الترقي بالألباب والطبائع من السذاجة والجهل والوهم إلى الانضباط العقلاني للفكر والسلوك والقيم (…)، وكان صادق من أبرز روافع نقد الفوات في مواقع مختلفة، وفي مقدمتها الفوات العقلي والقيمي في شكله الذي ارتبط بالدين. فقد كان صادق ناقدًا ومساجلًا، وبقي إلى النهاية ناقدًا ومساجلًا، وما كان مفكرًا منهجيًا إلا عندما اقترن هذا الأمر بالتحري العلمي في أمور نابعة من ضرورات السجال (23).

يذهب الكاتب إلى توضيح فهمه لما قام به صادق، ورأيه بمؤلفاته وأفكاره. وفي نظره أن صادق العظم وضع يده على الجرح التاريخي الذي تمثل في استدخال إسلام سياسي واجتماعي وقيمي وفكري إلى سورية، في العقود التالية لحرب 1967، إسلام الدراويش السلفيين ومن ثم الوهابيين. ويعطي الكاتب مساحة من مساهمته لنقد موقف المثقفين من صادق، بسبب جرأته وحزمه ووضوحه في تناول قضايا “الفوات” خاصة الفكري والقيمي، أي الثقافي. فعلى سبيل المثال يرى الكاتب أن المقالة الأم للإسلاميين التي استنبطها عامة المثقفين العرب ذوو التوجه العلماني، بالذهاب إلى أن المسلم بالولادة مفطور على أن يكون إسلاميّ الهوى في السياسة والاجتماع والفكر والقيم (24).

كما نرى انتقاده الصريح والحازم للمثقفين والكتّاب الذين اختلفوا مع صادق بسبب موقفه من قضية سلمان رشدي، وما طرحه حولها، فأخذوا عليه نبرته وحماسته، وعزيت إليه نزعة ميكانيكية في التحليل، مثل ما أخذ عليه التعميم وإهمال الفوارق بين الأفراد، والقصد هنا (ذهنية التحريم) التي تناول فيه صادق ما أثير من انتقادات حادة لما جاء في الرواية، وبحجج كثيرة.

في متابعة القارئ لمساهمة عزيز العظمة هذه؛ سيرى بوضوح أنه من المتفقين مع الأفكار الرئيسية لصادق العظم، وكذلك مع منهجه النقدي الذي يبرز في غالبية مؤلفاته. ليس ذلك فحسب، بل قام بإبداء اعتراضه ونقده للكتاب الذين وقفوا مختلفين مع العظم في الفكر وفي المنهج.

في المساهمة الثانية، تناول ماهر مسعود تجليات الحداثة في المنهج النقدي لدى صادق. وثمة صلة بين ما تناوله ماهر مسعود وما عرضناه عن مساهمة عزيز العظمة، فالحداثة هي أهم المرتكزات لتجاوز الفوات الذي أرّق عزيز العظمة، ونحن معه بالطبع.

يرى مسعود أن صادق العظم هو فيلسوف الحداثة الأول في العالم العربي، مشيرًا إلى أن العظم لم يترك “تابو” خلقيًا أو سياسيًا أو دينيًا أو اجتماعيًا في الثقافة العربية إلا وجه له سهام النقد والبحث والسجال والتعرية والمقارنة، في محاولة لتقديم بدائل واضحة، واجتهادات جريئة وجديدة، استنادًا إلى منهج ماركسي مرن، بقدر ما هو صلب ومتماسك (25).

في مطرح آخر، يبدي مسعود رأيه في المنهج النقدي للعظم، ويرفض وصفه باختزال على أنه محض ناقد أو باحث، ويعرض بعض مقولاته عن بعض الفلاسفة مثل هايدغر. ويضمّن مساهمته نصًا للعظم بهذا الخصوص، فالعظم يرى هايدغر واحدًا من أهم وأبرز المنظرين للجناح اليميني في الحداثة الأوروبية ومن أكثرهم رفضًا وعداءً للحداثة عمومًا (…)، ويضيف العظم: قناعتي أن أدونيس ينتمي إلى هذا الجناح ويلتزم به، بخاصة أن هايدغر جعل الشاعر نوعًا من النبي الذي ينكشف، عن طريقه أو عن طريق لغته وإبداعه وعبقريته، قدس الأقداس أو وجود الموجودات (26).

ما قدمه ماهر مسعود في مساهمته، فيه الكثير من الأنساق الفكرية المهمة التي تناولها من مطالعته لمؤلفات العظم، ولا شك أنه صاغها بما يليق بكاتب يعرف هدفه من مادته -سواء اتفقنا معه أم لم نتفق- زد على ذلك أنه يضع مكانة العظم، حيث يليق بقامته ودوره.

نأتي إلى المساهمة الثالثة في هذا المحور لخضر زكريا ومناقشته لصادق حول العولمة، ولا ضير من الإشارة، قبل تناولنا للعولمة ومساهمة خضر زكريا، أن العظم لم يكن يُقدّم نفسه باحثًا أو مفكرًا أو عالمًا اقتصاديًا، فالعولمة يقع الجزء الأهم منها، ولنقل أساسها، في ميدان الاقتصاد بفروعه المتنوعة؛ ولذلك فإن كتابه المشترك مع حسن حنفي (ما العولمة) هو خارج “سرب مؤلفاته” الفكرية والفلسفية والنقدية.

حقًا لقد كان المدخل الثقافي لاهتمام العظم بظاهرة العولمة قد بدأ عند صادق بكتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) في أواخر السبعينيات، ورواية سلمان رشدي (آيات شيطانية) في نهاية الثمانينيات. ثم بتأثير طروحات فوكوياما حول (نهاية التاريخ)، وطروحات هنتنغتون في (صدام الحضارات) في مطلع التسعينيات.

يتحاور زكريا مع ما جاء في كتاب العظم (ما العولمة) المشترك مع حسن حنفي، ويبرز لنا الأفكار التي انطلق منها العظم في تكوين رأيه بالعولمة. ويعرضها في نقاط ثلاثة رئيسية: العولمة هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جميعًا (…)، والوسيلة الرئيسية للشركات الأجنبية العملاقة (الشراكة متعددة الجنسيات أو متعدية الجنسيات). العولمة ليست إفرازًا من إفرازات ثورة المعلوماتية، بل ثورة المعلومات شرط ضروري لها، غير كاف، لتحقيق العولمة وتقدمها وتوسعها وتسارعها. إن لا مركزية الإنتاج في ظل العولمة تتطلب مركزية قوية في نظم الإدارة، وهذا تمامًا ما تنتجه التكنولوجيا العالية التي نحن بصددها (27).

يناقش خضر زكريا طروحات العظم اعتمادًا على مراجعته لكتاب (فخ العولمة) لمؤلفيه هانس بيترمارتين وهارولد شومان. ويشير إلى أنه كان قد ناقش كتاب صادق، في مجلة الطريق اللبنانية في آب/ أغسطس 2000، وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهها زكريا للعظم في الدراسة لكتابه، فإن العظم قد قال بعد أن قرأها: دراسة خضر من أهم ما كتب في هذا السجال بشأن العولمة (28).

وبعد انتهائه من نقاش الأفكار، يطرح زكريا مقترحاته ونظرته لكيفية درء أخطار العولمة عن بلادنا وشعوبنا. وتتميز مساهمة زكريا هذه بالحصافة وامتلاك المعرفة بالموضوع، ومع أنه انتقد جوانب في أفكار العظم، لكنه بقي أمينًا لمنهجه الماركسي في التحليل (29).

المحور الرابع: السياسة والاجتماع

في هذا المحور كتب كارستن فيلاند مساهمة عنوانها “الرائد المحذر والثوري” ص119، وتحت عنوان “النقد السياسي للواقع العربي” كانت مساهمة عبد الله تركماني ص129. وساهمت مية الرحبي بموضوع “المرأة في فكر صادق”. وكتب شادي كسحو عن “الحب والحب العذري” ص171. وقدّم يوسف بريك مساهمة عنوانها “صادق العظم مثقفًا عضويًا” ص229.

أستهل مراجعتي لمواد هذا المحور بإشارة أعتقد أنها ضرورية، وهي غياب أي مساهمة في الملف عن صادق، تتناول أفكاره من الصهيونية وفلسطين. ولا سيّما أنه قدم كتابين مهمّين في هذا المجال. (الصهيونية والصراع الطبقي) و(نقد فكر المقاومة الفلسطينية). هذا فضلًا عن انخراطه في مؤسسات العمل الفكري والثقافي لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ مطلع السبعينيات. ولقد أشارت بعض المساهمات، مرورًا، إلى ذلك.

تلتقي مساهمات هذا المحور، كما مساهمات في محاور أخرى، على أصالة انتماء العظم، وصلابته، لقضية الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، كذلك في موقفه من قضايا الحرية والتقدم في مجتمعات البلدان العربية كافة. إلى جانب تحذيره من تمدد الأصولية الإسلامية، وانقضاضها على حركة التغيير التي شهدتها عدة بلدان وهو ما أُطلق عليه (الربيع العربي).

من وجهة نظر صادق، أظهرت حركات الربيع العربي نضجًا مفاجئًا، من حيث المبدأ –ولسوء الحظ ليس في الممارسة- وتعالت على معضلة الشرق الأوسط ثلاثية الأوجه التي واجهت بها الأنظمة السكان، وتتألف من ثلاثة خيارات سيئة:

السماح باستمرار الأنظمة الاستبدادية.

قبول حكم الأصولية الإسلامية الظلامية.

قبول التفكك العمودي للمجتمعات العربية، على أسس طائفية أو عرقية وإقليمية و/ أو قبلية (30).

وكان، منذ هزيمة حزيران/ يونيو، مواكبًا على نقد الأوضاع العربية باستمرار، ومواظبًا على مساهماته الفكرية بنقد الواقع وتطوراته. محتفيًا بكل الظواهر الإيجابية الجديدة، حتى وإن لم تكن واردة في الحسبان. وهنا نجد المغزى في احتفائه بربيع الثورات العربية، فكريًا ووجدانيًا وسياسيًا، ورأى فيه عودة الروح إلى المنطقة، أي عودة السياسة إلى الناس وعودة الناس إلى السياسة، بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد، ورفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر به الاستبداد وأسماه (استقرار القبور) (31).

لكن ذروة ارتباطه بالشأن العام كانت بانطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، عندما أعلن بوضوح تام وقوفه إلى جانبها (…)، وقبل ذلك كان العظم من الموقعين على بيان الـ (99) الذي طالب بإنهاء حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين السياسيين. كما كان فاعلًا في عمل (لجان إحياء المجتمع المدني) (32).

في خضم تطورات الثورة وبروز دور كبير للتيار الإسلامي، الأمر الذي أحدث ارتدادًا في مواقف عدد من المثقفين، بخاصة مع نمو ظاهرة السلفية الجهادية؛ استمر العظم على موقفه من الثورة، علمًا أنه كان من أشد المحذرين من خطر السلفية والأصولية. واختصر عدد من المساهمين موقف العظم بعبارة: (أنا مع الثورة سواء تأسلمت أو تعلمنت) هي ثورة، وهي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكل البديهيات القديمة. هي ثورة ضد التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسخًا وعنفًا (…). الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم (…) سأبقى منحازًا لها مادمت قادرًا على التنفس (33). وقد أصر العظم على قوله: إن ما يجري في سورية ثورة وليس حربًا أهلية مستعرة، لأن النظام بقي فاعلًا رئيسيًا وليست الجماعات الدينية بمثل ما هو الحال في العراق (…)، وكان قد تنبأ قبل أسابيع فقط من الانتفاضة السورية بأنه إذا وصلت الثورات إلى سورية؛ فسوف تصبح أكثر دموية مما في تونس أو مصر، وذلك بسبب الطبيعة الطائفية للسياسة السورية(34)، وهو ما حاول مقاربته، بعد الثورة، والقمع الوحشي لها، وتماسك أجهزة السلطة الأمنية والعسكرية والسياسية والإدارية حول المافيا الحاكمة، في مقولة (العلوية السياسية)، وعندما ساند بشكل جذري شعار إسقاط النظام الطائفي، لم يكن يقصد إسقاط الطائفة العلوية.

في المساهمات السياسية، خاصة (النقد السياسي للواقع العربي) لعبد الله تركماني، إشارات إلى ما تصدى له العظم من ظواهر سياسية بعد حزيران/ يونيو 1967، من الخليج إلى مصر، كما في الوضع المتعلق بالقضية الفلسطينية والصهيونية و”إسرائيل”.

اجتماعيًا وإنسانيًا، كتبت مية الرحبي (النقد الجندري – المرأة في فكر صادق العظم)، واعتمدت في موضوعها، بشكل رئيس، على كتاب العظم ذائع الصيت (الحب والحب العذري)، وأيضًا على ممارسته العملية، في دعم نضال النساء السوريات في الفترة ما بعد العام 2000، مستندة في ذلك إلى ما يشبه شهادتها من تجربتها الشخصية. وكتب شادي كسحو قراءته في دلالات الحب والحب العذري، تحت عنوان: (العظم دون جوانًا).

المساواة الإنسانية والوجودية والعاطفية، بين المرأة والرجل، هي الفكرة الرئيسية التي اهتمت بها مية الرحبي في فهمها لمضمون كتاب الحب والحب العذري. بل أضافت أن العظم في كتبه الأخرى أيضًا عالج هذا الموضوع، خاصة (ما بعد ذهنية التحريم) كما في (النقد الذاتي بعد الهزيمة).

وتشير إلى انتقاده للكتّاب المعاصرين الذين يحاولون أن يردّوا ضبط المرأة لمشاعر الحب إلى طبيعتها الأنثوية (35)، وتجري جردة سريعة لما قدمه العظم من مفاهيم حول الحب والحب العذري، وحول مؤسسة الزواج. وفي قراءتها ترى أن العظم لا يدعو إلى الإباحية، وهو ينتقد مؤسسة الزواج. فالحياة الدونجوانية محاولة مستمرة للبقاء بالحب على مستوى من العشق العنيف والانفعال الحاد، والبحث عن شتى الوسائل والطرق التي تبعد عنه خطر الاستقرار (36). خلاصة النظرة إلى موقف صادق من الحب، كما قاربها شادي كسحو، أنه سعى لبناء تصور مختلف عن الحب، فقدم تحليلًا فلسفيًا للمفهوم تعارض مع المدونة الكلاسيكية التي اعتاد الذهن العربي التعامل معها، وابتعد عن النظرية التجارية، فوضع نفسه في مواجهة سلطات، رسخت مفهومًا عن الحب عُدّ مقدسًا مرة واحدة وإلى الأبد (37).

لقد أشارت مية الرحبي إلى انتقاد العظم في كتابه النقدي لهزيمة حزيران/ يونيو، لظاهرة اقتصار ثورة الشباب العربي على المستوى السياسي، في حين أن عليها أن تتجلى في مجالات أوسع، كالأسرة والأبوة في المجتمعات التقليدية، مع المرأة في المجتمع وفي حياته الخاصة (38). وفي تقويمها للعظم تؤكد أنه من المفكرين القلائل الذين صادقتهم في حياتها والذين جسّدوا رأيهم النظري في قضية المرأة بالممارسة اليومية. وكذلك مساهمته في طرح ضرورة وجود النساء في لجان إحياء المجتمع المدني في سورية في العام 2000.

في ختام مطالعتي هذه، لا أخفي رغبتي في قراءة شهادات شخصية عن صادق، خاصة بعد رحيله. وأتمنى أن يكون قد ترك لنا سيرة ذاتية، أو رواية مذكرات عن تجربته في مختلف المجالات.

من الآن فصاعدًا، علينا مراقبة الأحداث المتحدية وذات الصلة كلها، من دون صوت صادق الشجاع والمحذّر، ومن دون إيمانه الصلب بالعقل البشري والتقدم، من دون هذا الأساس من الراحة في دوامة من الغضب والتوجهات المعادية لليبرالية، ومن دون قدرته الفريدة في بناء جسر فكري بين الفروقات البسيطة للشرق المتفكِك والغرب المفكِك، سنفتقد صوته في اللحظة الأكثر خطورة من تاريخ البشرية (39).

الهوامش:

1 – مجلة قلمون، العدد الأول، الملف. أيار2017.

2 – قلمون، العدد الأول، الملف. أيار 2017. (لاحقًا الملف ورقم الصفحة)

3 – الملف ص103.

4 – الملف ص، ص 70، 71.

5 – الملف ص77

6 – الملف ص 80

7 – الملف ص 95

8 – الملف ص 94

9 – الملف ص81

10 – الملف 82

11 – الملف ص 82

12 – الملف ص28

13 – الملف ص 29

14 – الملف ص 32

15 – الملف ص 246

16 – الملف ص 142

17 – الملف ص 247

18 – الملف ص200

19 – الملف ص 41

20 – الملف ص255

21 – الملف ص60

22 – الملف ص60

23 – الملف ص 141، 142

24 – الملف ص 144

25 – الملف ص 197

26 – الملف ص 211

27 – الملف ص214

28 – الملف ص 211

29 – الملف ص 212

30 – الملف ص 122

31 – الملف ص 137

32 – الملف ص 138

33 – الملف ص 239

34 – الملف ص 123

35 – الملف ص 153

36 – الملف ص 156

37 – الملف ص 172

38 – الملف ص 163

39 – الملف ص 125




المصدر