في المعايير الأخلاقية للسياسة في سورية


جبر الشوفي

عرت رياح الثورة السورية القعر الثقافي والأخلاقي (الوجداني) للمجتمع السوري؛ فانكشفت مصفوفاته القيمية والثقافية المعبرة عن هويات دينية وإثنية، تعايشت تعايش الضرورة، لا تعايش القناعة والوعي بالمواطنة، باعتبارها إدراكًا للذات واعترافًا بالآخر المختلف، والإقرار بالحقوق الوطنية والواجبات المتساوية للجميع، بعيدًا عن التطلع إلى حقّ السيادة المطلقة لجماعة محددة عليه، لا باعتباره ذميًا أو مرتدًا أو كافرًا، ولا باعتباره أقلية دينية، حيث يتوجب إخضاعه للحدود الشرعية وتطبيق أحكام، يجري استجرارها من بطون كتب الفقه وأقوال الفقهاء المتباينة بتفاسيرها وتعدد مرجعياتها، لتلتقي في النهج ذاته مع أيديولوجيات سياسية متباينة، تبرر العنف تجاه الآخر المختلف، بحجة خروجه عن الصف الوطني، وهذا طبعًا لا يلغي مسؤولية السلطات المتعاقبة، في تجاوزها وقفزها من فوق واجباتها التي تقتضي نقض ركائز هذه الأخلاقيات والثقافات الغابرة، وتنمية ثقافة وأخلاقيات وطنية بديلة، تقوم على العقلانية والالتفاف حول مشاريع التنمية الوطنية المتكاملة، باعتبارها الجامع الأهم للتخلص من مرجعية مجتمع ما قبل الدولة، وبناء دولة الحق والقانون (دولة المواطنة)!

وإذا كانت أولى مهام السلطة السياسية المسيرة لدفة الحكم، هي تحقيق الخير العام لمجتمعها وحماية أمنه واستقراره وتوفير وسائل عيشه الكريم، وتنمية ثقافة وطنية وأخلاقية جامعة، توطد أسس التشارك في مواطنة النابذة للتفرقة، والمجمعة على التفاعل الخلاق في بناء أسس الحداثة والتطور، فإن مقتضيات ذلك، هي أن تكون مسؤوليات السلطات الحاكمة مضاعفة في المجتمعات المستقلة حديثًا أو الخارجة من حروب طويلة ومدمرة، أو من ثورات عميقة وعامة شاملة، كالثورة السورية التي جمعت بين الثورة كفعل انقلابي لم ينته بعد، وترافقت بحرب النظام الكارثية المدمرة، وذلك لأنّ هذه الحالات جميعًا لا يتوقف تأثيرها عند قلب الواجهة السياسية، بل يتعداها إلى تغيير كامل المنظومة الفكرية والأيديولوجية والأخلاقية المهيمنة التي استحكمت بالنخبة التي استولت عنوة على الحكم، وفرضت أسلوب تعاطيها المخالف للمصلحة العامة ومجمل القيم المرعية الواجبة، في التعامل مع واقع الصراع وتداعياته المتعددة والمتباينة أشدّ التباين!

لقد أسسست تلك السلطات الانقلابية، منذ 1963، سياستها على ازدواجية أخلاقية صارخة، ما لبثت أن تصاعدت حنى بلغت الذروة، بعد انقلاب الأسد 1970 متزاوجة مع كاريزما رئيس بطموحات إمبراطورية، فالأهداف النبيلة التحررية والقومية والمقاومة، قامت على طهرانية عقائدية مدعاة، وبنيت على أيديولوجيا جهادية بتغطية إعلامية لفظية، لم تؤسس لها في واقع الأمر أي مقومات أو دعائم تقوم عليها، بل كانت أقرب إلى التواكل على الحماية المصرية والاتحاد السوفييتي، على الرغم من إحيائها أيديولوجيًا لقيم الفتح والنزعة العسكرية وبطولة الفرد القائد والفارس المخلص، من دون طرح مشروع تحرري تنموي متكامل، حتى التقشف الذي فرضته على مجتمعاتها، تحت عنوان ضرورات المقاومة، أثبت الواقع أنه لم يكن إلا وسيلة للتهرب من ضرورات التنمية، ومن أجل الاستثمار في مواقع الفساد، عبر الاستهلاك المباشر والأسرع دورانًا، مع تحميل المواطنين مهانات الوقوف المتطاول أمام المؤسسات الاستهلاكية للحصول على المواد غذائية ضرورية، ومواد أولية كالأخشاب والحديد التي احتكرتها خزائن مسؤولي الأمن والسلطة بشكل عام، حيث تكونت عبر هذه الأوضاع الشاذة فئة من البرجوازية البيروقراطية الفاسدة، شمل تأثيرها التدميري مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية معًا.

كان يمكن لمجتمع سوري، تهتكت بنيته وأفرغت طبقته الوسطى وخدعته سلطاته المستبدة الفاسدة، بشعاراتها الزائفة، ردحًا من الزمن؛ ومن ثمّ سامته أشكال العنف والإرهاب، حتى قبل أن يتنبّه إلى تلك المفارقة الصارخة، بين أخلاقيات السلطة المدعاة وبين ممارستها العابثة، سواء في القضية الوطنية أو في قضايا التنمية والأخلاق العامة، أن يبني أسس حياته العصرية، مشيدًا أسس التغيير المطلوبة، في المجالات الاقتصادية والسياسية والفكرية والأخلاقية المتينة، بما يؤهله إلى الانتقال نحو الحداثة والتقدم، وأن يسعى إلى الانسجام والتطابق، بين الوعي بمتطلبات هذا الانتقال وبين المستوى الأخلاقي والأداء السياسي، باعتبار أن الوطينة الحقة، ما هي إلا التعبير الحيّ عن القيم الوطنية، وعن صدق النوايا، وتوفر إرادة العمل التشاركي الجماعي، وباعتبار أن السلوك السياسي ومسألة الحرية والعدالة، هما وجهان متكاملان للتعبير عن المستوى الأخلاقي للسلطة الحاكمة.

وحين يذهب بعضنا -وإن كان مغاليًا- إلى المطابقة بين المستوى الأخلاقي للسلطة المستبدة التي هيأت، باستبدادها وبتدني أخلاقها المهنية والسياسية، ظروفَ التدني الخلقي العام، وبين المعارضة الناتجة عنها؛ فهو يعني -أول ما يعنيه- المستوى الأخلاقي المتشابه بينهما، كما تجلّى في بعض الوجوه التي مثلت المشهد السوري المعارض، ووظفت الثورة لمصالحها، بدلًا من توظيف إمكاناتها لخدمة الثورة، حيث يستوي، في هذا التدني الخلقي والسلوك المشوب بكل أنواع الفجور السياسي والتشوه، كثيرٌ من الفصائل المدنية والعسكرية، التي منّت على الثورة، بأنها هي صاحبتها، وطالبت المجتمع المنهك بأن يخضع لسلطتها وجبروتها، وأن يتحول إلى تغطية تحركاتها وسياساتها التي تعتبر كل فرد أو جماعة، ليس من تابعيتها عدوًا مفترضًا أو محتملًا، ويجب تصفيته أو لجمه وشلّ حركته مسبقًا!

والآن، بعد فشل المسارات السياسية، من جنيف إلى آستانا والذهاب إلى التوافق، بين القوتين العظميين الروسية والأميركية، ورمي كل الأطراف الأخرى خارجًا والاكتفاء بمنحهم توكيلات فرعية؛ تسكت كل من إيران وتركيا على مضض، وتمنح الأردن و(إسرائيل) ضمانات أمنية، ومهمات لا تتعدى غالبًا المراقبة وتأمين بعض المصالح لهم، مقابل خروج البندقية المعارضة من سوق الرهان، لا يبقى بيد الشعب السوري، سوى مناقبيته العالية وأخلاقيته العريقة، ليستردّ دوره السياسي ويحيي حياته المدنية التي جرّده منها نظام فاقد للصدقية وللأخلاق الوطنية، عبر القمع والتغييب والجريمة، وعبر التهجير الممنهج وإفراغ المناطق من سكانها، ليقابله في مناطق سيطرته القوى المتطرفة الإسلامية ونظيرتها (العلمانية) العصبوية المأزومة من جماعات PYD ومن لف لفهم، من مكونات الخلطة العرقية والمذهبية الرقيقة والمنكّهة، حيث يبدو أنّ هذه الخلطة غير المنسجمة والفاقدة للأهلية الأخلاقية، غير مؤهلة لوقفة مسؤولة مع الذات، على معيار الشفافية والمسؤولية الوطنية التي يفترض أنهم يتمتعون بها، بعيدًا عما عقدوه من صفقات ومبايعات، كان آخرها في الحضن المصري الحريص على انتصار الدمية الأسدية الروسية، ليحركها وفقًا لمصالحه، كما حركها حتى الآن، فنال منها المزيد من صفقات بيع الثروات المعدنية والقواعد العسكرية، ويترك النظام ورئيسه وأمثال هذه المعارضات عارين تمامًا، حتى من ادعاء القيم الوطنية الجامعة التي يدعونها!




المصدر