الملك المملوك


حمدي المصطفى

لم ترُق للثعلب القراراتُ التي أصدرها الأسدُ الملك؛ فطلب من الأسد أن يعدل عنها، فأبى الأسد ونهَرَ الثعلبَ وهدده بالحبس وبالطرد؛ فزاد حَنَق الثعلب على الأسد، وقرر أن يكيد له كيدًا، ينال به من هيبته، ويرغمه على العودة عن تلك القرارات، وزيادة؛ فرسمَ خطته بإحكام كعادته، ودقت ساعة العمل.

دلف الثعلب من أجمة الأسد، حيث كان يستوي على عرينه قربَ لبوته الشرسة، وأخذ يمكو ويصفّر، ويتمتم بكلمات ويتراقص طربًا يريد أن يستفز الأسدَ، فزأر الأسد منبّهًا، ولكن الثعلب بدا كأنه لم يسمع، وظل يغني ويتمايل ويتراقص، والأسد لا يكاد يصدق ما يرى، واللبوة تتلفت مذهولة، والثعلب لا يبالي بالاثنين. همّ الأسد بالهجوم على الثعلب، لكنه آثر التريث، إذ إنه يعلم أن التورط مع الثعلب لن يكون عابرًا، ولكن الثعلب بالغ في الحركات والكلمات وتجاوز كل حد؛ فأيقن الأسد أنه قريب من بلوى كبيرة، فأخذ يُعِدّ لأمرٍ ويستعدّ لآخر؛ وبدا له أن يخاطب الثعلب وأن يؤتيه سؤله، ولكن اللبوة لم تتركه يفعل، وهاجت واتهمته بالعجز، وقالت له: ما لي أراك ساكنًا! ألا ترى.. ألا تسمع! أتريد أن تهادن الثعلب! وهو يهينك ويسلبك هيبتك.. إنه لا يخافك.. بل إنه لا يراك، وإن رأى هذا المشهدَ أي حيوان فعلى مُلكك السلام.. قم افعل شيئًا.. ثب عليه.. مزّقه، واجعله عبرة لمن فوقه ومن دونه. قال الأسد: دعيه إنه سفيه، ولا تنفع مجاراته ولا تجدي مداراته.. دعيه للأيام، لا تنظري إليه.. أهمليه فعمّا قريب يملّ ويذهب، وسيأتيك خبره فلا تستعجلي. صاحت اللبوة: ماذا؟ أدعه للأيام! ما أنا بلبوةٍ إن ودَعته.. هيا تدبرْ أمرَه قبل أن أفعل أنا. قال الأسد: أعدك أني سأفعل، ولكن أنظريني أدبّرْ له أمرًا أمحو أثره وأثر من يقتفيه، فإن في تركي الأجمة، وذهابي إلى الأكمة تحقيقًا لرغبة هذا السفيه وانقيادًا إلى غايته، ولعلك تعلمين أن “وراء الأكمة ما وراءها”. قالت اللبوة: ماذا؟ إلى متى أنتظر؟ إلى أن يركب عليك أو عليّ؟! ماذا لو مرّ الأشبال ورأوه يفعل بين يدينا ما يفعل؟ الموت أشرف لنا مما يمكن أن يحصل.. هيّا انهض والعن أبا الذي نفضَه الآن.. الآن، افتك به، ولا تدنُ مني إلا وخبر هذا السفيه معك، وتحفزتْ للوثوب على الثعلب، فلم يجد الأسد بدًّا من التحرك، وانقضّ على الثعلب الذي كان ينتظر هذي اللحظة، ليفرّ من أمامه، وظلّ الأسد يجري خلف الثعلب، والثعلب يعدو أمامه ويراوغ ويناور بخفة عجيبة، ويقود فريستَه الأسدَ الملكَ إلى الأكمة.. إلى حيث خطط؛ دخل الثعلب مرتاحًا في جذع شجرة أجوف يتسع له، وتبعه الأسد الغاضب فأدخل رأسه حيث دخل الثعلب، ولكن رأسه علق في الجذع وبقي جسده خارجًا، خرج الثعلب من الطرف الآخر للجذع، وامتطى صهوة الأسد، وجعل يصيح: “حا.. حا”، وبدأ يغني، ثم أخذ يضرب الأسدَ بعصا، أعدّها، من جانبيه ومن وراء، والأسد يحاول الخروج ولا يقدر، وحين همّ الثعلب بأن يفعل ما لم يحسب حسابَه الأسد، هاج الأسد، وبكل ما أوتي من قوة أخرج رأسه من الجذع، وأخذ يتلفت حوله فلم يرَ إلا ثلاثة جواميس تراقب المشهد؛ فانقض على الجواميس، وقضى على اثنين منها، وهرب الثالث، وعاد يبحث عن الثعلب؛ ولكن الثعلب اختفى، ولم يبق له من أثر. عاد الأسد إلى عرينه والسخام في وجهه، وقد بدا عليه أنه نال حظه من العار، فسألته اللبوة: ها.. أقتلته؟ قال: أفلتَ مني السفيه ابن السفيه، ولكني قتلت جاموسين اثنين حالا دون لحاقي به، ولكن إلى أين سيهرب، وإلى متى! ستسمعين خبرَه غدًا، وليس بعد غد، لا تتعجلي. قالت: كأنك تخفي أمرًا، أو أصاب السفيه منك شيئًا؟ قال: لا.. لا شيء.. لا شيء؛ هيا نادي الأشبال نأكل الجواميس، قالت: نأكل! أولك نفس تشتهي الطعام! لا ذقتُ طعامًا ولا منامًا قبل أن يأتيني خبر السفيه ابن السفيهة. في صباح اليوم التالي، بعد ليلة لم يعرف فيها الأسد ولبوته طعمَ النوم، جلس الأسد ولبوته في العرين كعادتهما كل يوم، ولكن توجسًا كبيرًا يحيط بالأسد الملك ويثخن حركته، وفجأة ظهر الثعلب السفيه، بين يدي الأسد ولبوته، وجعل يفعل فعلَ أمس، ويزيد عليه بأن أخذ يرطن بأغنيات عجيبة، في كل منها يضع كلمات لا أحد يفهم مغزاها سوى الأسد، ويمط صوته حينًا ويرخيه أحيانًا، والأسد الملك يتقطع غيظًا وحيرة؛ قالت اللبوة: إنّ هذا قد بلغ الغاية في السفاهة، ويبدو لي أنك لست أهلًا لحسابه، سأريك وأريه من أكون، وقسمًا بعزة أجدادي؛ لأجعلنّه عبرةً أيّما عبرة، ولأؤدبن به بني ثعلب كلّهم حتى الذين في أرحام أمّاتهم، صرخ الأسد: إياك أن تلحقيه.. دعيه.. إني آمرك.. إنه سفيه، يبدو أنك لا تعرفين ما معنى سفيه! ومن الجهل مجاراتُه، دعيه للأيام.. دعيه أرجوك، لا أحد يفعل بالسفيه كالأيام، هذا ما عرفته، وهذا ما تأكدت منه أمسِ بنفسي. غضبت اللبوة من كلام زوجها واتهمته بالجبن، وتفلت في وجهه، وأصرّت على تأديب الثعلب، همّ الأسد بأن يمنعها بالقوة ولكنه لم يُحِط بها؛ وثبَتْ اللبوة بكل ما أوتيت من شراسة، وتركت زوجها وراءها يفكر في عواقب ما أيقن أنه واقع، وبدأتْ تلاحق الثعلب حتى وصل بها، وقد دوَّخها، إلى وكره في الأكمة، عند جذع الشجرة الأجوف، فدخلَ ودخلتْ وراءه، فعلِق رأسها حيث أُعِدّ له أن يعلَق، وخرج الثعلب السفيه يفعل فعلته التي فعل أمسِ، وزاد عليها قليلًا؛ فهاجت وهاجت وأفلتت رأسها حين لا ينفع إفلات، ونظرت فلم ترَ الثعلب، ولكنها رأت الأرانب تتهامس وتخفي ضحكتها؛ فهاجمتها وفتكت بمن أمسكت منهن، وعادت من حيث أتت، فتلقاها زوجها الأسد، وقد رأى ما تنبأ به أمامه، وقال لها متجاهلًا: ها.. أخبريني، ماذا فعلت به، أقتلته؟ خفضت رأسها، وقالت: لقد أفلت مني ابن السفيهة، ولكني فتكت بعشرة أرانب ثَمَّ في الأكمة، ولكن إلى أين سيهرب، وإلى متى! ستسمع خبره غدًا وليس بعد غد. عرف الأسد واللبوة كلاهما ما حدث لصاحبه، ولكنهما لم يعترفا بما عرفا. في اليوم الثالث، جلس الأسد واللبوة على عرينهما غير مستويين لأول مرة منذ حكما الغابة، كلاهما مطرق يراقب خشاشَ الأرض، فطلعَ أمامهما الثعلب من جديد؛ وجعل يشدو ويمكو ويزيد، فقال الأسد للبوته: ها هو ذا بين يديك، ألم تقولي إنك ستؤدبينه غدًا، هو ذا أمامك، هيا افتكي به. قالت اللبوة: لقد فكّرت مليًّا في ما قلتَه لي أمس، وتبين لي أنك أسد حكيم، وأن كلامك حق، يومَ قلت إنه سفيه. نعم، أيها الملك.. إنه لسفيهٌ حقًا، كما وصفته أنت، وسأفعل ما قلته لي.. سأدعه للأيام.. فعلًا لا أحد يفعل بالسفيه كالأيام، أليس هذا رأيَك! قال: لم يعد هذا كافيًا، شريكتي، فقد أصاب الثعلب هدفَه، وإنه لن يكفّ بلاءه عنا حتى يبلغ غاية لست أعلمها، والرأي عندي أن نؤتيه سؤله، بانتظار مكر الأيام به.

دنا الأسد من الثعلب، وخاطبَه: انسَ ما حدث بيننا، أيها الثعلب، ولك ما تشاء. قال الثعلب: إنْ أريد إلا أمرًا واحدًا.. أريدك أن تلزم العرين، ونحن -معشرَ الثعالب- نحكم الغابة، ونسوق إليكم الطرائد، ولا أعدك أني سأنسى ما حدث، ولكني أعدك بأني لن أذكرَه ما لم تخالفْ أمري. ومنذ ذلك اليوم، والأسود لا تغادر العرين.




المصدر