محدِّدات العلاقات الإيرانية- التركية


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أولًا: أهم محطات تاريخ العلاقات الإيرانية- التركية

ثانيًا: الفرص المتاحة لتحسين العلاقات الإيرانية- التركية

ثالثًا: التحديات التي تواجه العلاقات

التحديات في سورية التحديات في العراق التحديات في الخليج العربي

خاتمة

مقدمة

تهدف هذه المقاربة إلى متابعة مشهدين متضادّين في العلاقات الإيرانية– التركية، يستند أحدهما على الصراع والتنافس، بينما يستند الآخر على التعاون والحوار، ومن ثمّ، لا يمكننا الحديث عن صداقةٍ أو عداوةٍ دائمتين بين إيران وتركيا، وهذه الحقيقة ثابتة في العلاقات بين الطرفين؛ ضاربة في تاريخ يعود إلى أكثر من ثلاثة قرون، منذ توقيع اتفاقية قصر شيرين بينهما في العام 1639 بعد حروب مُتقطعة وقاسية، وكلما كانت المنطقة تشهد اضطرابات كانت الأنظار تتجه إلى طهران وأنقرة لمعرفة حجم انعكاس هذه الحوادث على العلاقات الثنائية.

الاحتكاك السياسي والأمني بين هذين البلدين سيبقى حالة مزمنة، لأن مناطق نفوذهما متداخلة بشكل كبير، ما يجعل مصالحهما وأهدافهما المرحلية والمستقبلية تسير في خطين متوازيين، وهذا مؤشر على وجود حالة تعاون بينهما؛ لكنها ليست مفتوحة الأفق، بل هي قصيرة العمر، موقّتة وتكتيكية، خدمة لأهداف بعيدة المدى، كما سيعطي مؤشّرًا على وجود حالة عداء؛ لكنها ليست مُغلقة إلى الحد الذي يقود إلى حالة الحرب.

أولًا: أهم محطات تاريخ العلاقات الإيرانية- التركية

لم تتأثر إرادة التواصل المجدي بتفكك السلطنة العثمانية ونشوء دولة تركيا الحديثة في عشرينيات القرن الماضي، ولا بالثورة الإسلامية في إيران عام 1979. بل أصبحت العلاقات الثنائية واضحة جدًا خلال العقد الماضي، حيث حققتا فترة من التحسن في علاقاتهما الاقتصادية والسياسية بين عامي 2001 و2011. ولكن حتى ذلك الحين، لم تتطور العلاقات إلى شراكة استراتيجية، بسبب الاختلافات الجوهرية بين البلدين في تحالفاتهما واستراتيجياتهما السياسية ومنظورهما الإقليمي.

إن عددًا من التطورات الإقليمية، خاصة في سورية والعراق ومنطقة الخليج العربي، أثارت التوتر بين البلدين، لكنها لم توقف التعاون والحوار بينهما، بل أسستا مجلس تعاون رفيع المستوى، ووقعتا اتفاقية التجارة التفضيلية في كانون الثاني/ يناير 2014.

إن الأمثلة متعددة على التعاون والصراع المتزامنين، ففي أثناء الحرب العراقية – الإيرانية لعبت تركيا دورًا متوازنًا بين بغداد وطهران، ونجح الرئيس التركي في ذلك الوقت، طورغوت أوزال، في أن يحافظ على حيادية بلاده في هذا الصراع. وفي الصراع المفتوح بين إيران والغرب حول البرنامج النووي كانت تركيا في عهد “حزب العدالة والتنمية” تُقدّم نفسها على أنها وسيط بين الطرفين.

أما في الصراع بين البلدين فإنهما يختلفان في الموقف من النزاع الأرمني- الأذربيجاني وقضية ناغورني قره باخ، ويختلفان حول العراق وسورية، لكن لا يدخل البلدان في حروب مواجهة مباشرة، بل يتصارعان عبر أدوات ثالثة في كل النزاعات بينهما.

ولأنهما محكومان بالهوس الإمبراطوري؛ والحنين إلى الماضي؛ فإن العلاقة بينهما ستبقى محكومة بمنطق الفعل وردّة الفعل المحسوبين، فكلما نجحت تركيا في مجال ما أو كسبت نقاط قوة في موضع ما، كلما شعرت إيران بالضعف، وكلما تقدمت إيران في حقل ما ومدّت أذرعها في اتجاه معين، كلما شعرت تركيا بالضعف.

لكنّ تركيا اتخذت موقفًا متحفظًا إزاء الاتفاق النووي الذي حصل بين إيران ومجموعة 5+1 في شهر تموز/ يوليو 2015. وقد ساءت العلاقات بينهما بشكل جديّ بعد فترةٍ قصيرة من إبرام الاتفاق، ويُحتمل أن يكون ذلك قد جرى بسبب مخاوف جيوسياسية، مع صعود قوة إيران الإقليمية، وفي الآن نفسه أعلن الساسة الأتراك أن الاتفاق يوفّر فرصًا اقتصادية لتركيا. كذلك، فإن زيارة بوتين لطهران في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، وتعزيز الشراكة بين إيران وروسيا، وانخراط الروس في المسألة السورية في أيلول/ سبتمبر 2015، والتعاون الروسي- الإيراني لدعم الأسد، غيَّرت الموازين على الأرض ضدّ حلفاء تركيا، والذي تبعه تزايد في حدّة العداوة بين تركيا وروسيا. وهكذا، أصبحت تركيا قلقة جدًا من تنامي التعاون الروسي- الإيراني في سورية. في غضون ذلك، عززّت تركيا علاقاتها مع المملكة العربية السعودية، لتربك طهران.

من ثمّ، فإن المخاوف الجيوسياسية المتزايدة في أنقرة، في ما يتعلق بالسياسات الإقليمية الإيرانية، والحروب الإعلامية بين البلدين، أدت إلى تراجع في العلاقات التركية- الإيرانية.

ثانيًا: الفرص المتاحة لتحسين العلاقات الإيرانية- التركية

تحكم الواقعية السياسية علاقة طهران وأنقرة، إلى حدِّ أن غلبة شبكة المصالح بينهما لها الأولوية على ما عداها من اعتبارات مذهبية وأيديولوجية، ولا يدلل على ذلك فقط حجم المبادلات الاقتصادية (تُقدّر بنحو 12 مليار دولار في 2016 مع طموح تركي لجعل الرقم مستقبلًا بحدود 30 مليار دولار)، بل احترام الطرفين لموازين القوى والموقف الموحد ضد قيام دولة كردية، على الرغم من الصلات المتينة بين أنقرة ومسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان في شمال العراق، والاختراق الإيراني الكبير لقيادة جبل قنديل التابعة لحزب العمال الكردستاني التركي.

لعلَّ ما يرجّح بقاء العلاقة بين البلدين في الحدود التقليدية للصراع هو الاتفاق الضمني بينهما على عدم السماح بإقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، خصوصًا بعد تحوّل الأكراد إلى لاعب إقليمي مهم، حيث طموحاتهم القومية بإقامة دولة كردية مستقلة تُغيّر الحدود الجغرافية للمنطقة، هذه التصورات المشتركة للبلدين تُقرِّب تركيا من إيران لمعالجة قضية الأكراد بشكل مشترك.

في جميع الأحوال، لم تكن الخلافات السياسية بين البلدين ذات طبيعة خطرة، وعلى المستوى الاستراتيجي، يبدو أن هناك إعادة لفكرة القوة الناعمة في التعامل مع إيران لناحية ربطها بتركيا بوصفها المنفذ الوحيد لإيران على أوروبا. وإذا كان الأمر كذلك فما الذي طرأ- في الفترة الحالية- لتتصاعد نبرة التصريحات بين البلدين، وهل المصالح الاقتصادية ستعود من جديد لاحتواء سباق التنافس الإقليمي؟

ثالثًا: التحديات التي تواجه العلاقات

على الرغم من التحولات التي ظهرت في مستوى العلاقات، على قاعدة مساندة طهران للرئيس التركي خلال محاولة الانقلاب العسكري في تموز/ يوليو 2016 وما أعقبه، عادت عوامل مؤثرة أخرى لتلعب دورًا بارزًا في تباعد الطرفين، أبرزها وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأميركية، وإعادة ترتيب مواقفه وسياساته مع تركيا.

كما أظهرت لقاءات أستانة تضارب وجهتي النظر تجاه آليات حل المسألة السورية، وطبيعة التحالفات القائمة حاليًا، وما يمكن أن يجرى عليها من تعديلات جذرية، وهذا ما ظهر عمليًا في عدم ثبات وقف إطلاق النار في الميدان السوري في الحدود الدنيا المتفق عليها.

إن إصرار تركيا على إقامة المنطقة الآمنة على حدودها مع شمال سورية، وما أحيته من آمال عبر المواقف الأميركية، شكّل نقطة تحوّل في توتير الأجواء بين أنقرة وطهران، وهو أمر يُعدُّ استراتيجيًا في أجندة كل من البلدين، ومن ثمّ يُعدُّ من القضايا التي تصعب التسوية فيها؛ وستظل موضع شد وجذب كبيرين بين الطرفين.

لن يكون ترميم العلاقات الإيرانية- التركية بالأمر السهل، إذ إن ربيع الثورات العربية أدى إلى اشتباك إيراني- تركي غير معهود في المنطقة على عدة جبهات، لذلك لم يعد بالإمكان الاستناد إلى معادلات ما قبل الربيع العربي لفهم العلاقة بين الطرفين، كما أن التمدّد الإيراني في المنطقة دفع أنقرة والرياض إلى تجاوز كل خلافاتهما، والتحالف سويًا، حيث قدمت تركيا دعمًا أكبر لدول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بالوقوف ضد سياسات طهران في المنطقة، وأرادت إظهار ذلك إعلاميًا، مقابل تعزيز العلاقات معها ورفع مستوى التعاون على جميع المستويات، كما أن الموقف التركي جاء في ظل المواقف المتصلبة التي يُظهرها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ضدّ إيران، ومن ثمّ، تسعى أنقرة لاستغلال هذه القضية في محاولة لتعزيز فرصها في فتح صفحة جديدة وتشبيك علاقات أقوى مع إدارة ترامب، التي أعطت بعض الإشارات الإيجابية تجاه تركيا.

بغضّ النظر عن مآلات ما ستفرزه التصريحات المتبادلة بين كل من إيران وتركيا، فإن ما جاء به وزير الخارجية التركي في توصيفه للسلوك الإيراني في المنطقة، وما قاله أردوغان عند زيارته للبحرين، بأن إيران تسعى لتقسيم العراق وسورية وتتصرف من منطلقات قومية، هي حقائق واقعية تدفع باتجاه مزيد من التوتر في المنطقة.

إن الخط الرابط بين حلب والموصل هو خط الدفاع لتركيا، وثمة من يحاول رسم خريطته الخاصة لإزعاج تركيا في كركوك والموصل وحلب، ولكن لا يملك الأتراك حرية حركة، لا في سورية ولا في العراق، بينما حرية الإيرانيين في الحركة في البلدين أكبر كثيرًا، بيد أن المصائر النهائية لحكومتي البلدين ووحدة أراضيهما أو تقسيمها متعلقة بكلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا.

التحديات في سورية

وقفت تركيا وإيران على النقيض إزاء ما جرى في سورية طوال أكثر من ست سنوات، ولكل طرف أسبابه ودوافعه واستراتيجيته، فقد أعلنت طهران دعمها الكامل لسلطة آل الأسد، وهذا طبيعي ومفهوم في ظل التحالف القائم بينهما منذ أكثر من ثلاثة عقود، فيما على العكس تمامًا، تحركت أنقرة في جميع الاتجاهات لإجراء التغيير السياسي في سورية.

إن وجهة نظر طهران وحلفائها، في المسألة السورية، تميل إلى تغليب بيئة التغيّرات الحاسمة في الميدان السوري عسكريًا لإعادة إطلاق العمل بالحل السياسي، فيما تُعاكس أنقرة وحلفاؤها من المعارضة ذلك، وترى أن الحل السياسي له الأولوية، ومن ضمنه تقرير مصير النظام في سورية عبر قرار مجلس الأمن 2254، مترافقًا مع ما يُساند ذلك في الميدان، الأمر الذي يُعدُّ عاملًا إضافيًا موتِّرا لطبيعة التحالفات الظرفية القائمة، وبخاصة الجانبين التركي والإيراني.

نجحت تركيا في إدخال ملف الميليشيات التابعة لإيران في سورية إلى برنامج الحل السياسي، بعد حصر الحديث عن الأجانب بأولئك الذين يقاتلون إلى جانب “داعش”، ولم يتوقف الإنجاز التركي عند هذا الحد، بل ذهب إلى طرح مسألة التغييرات الديمغرافية التي تسعى إيران لتكريسها أمرًا واقعًا في الشمال السوري.

إن الصراع بين الإيرانيين والأتراك على البترول والمياه والحدود في الشمال السوري هو صراع كبير، وإيران مرتاحة فيه أكثر من تركيا، فلإيران ميليشيات في شرقي حلب، وهي تتقدم الآن من البادية باتجاه دير الزور، وسيكون على تركيا الآن، مع المعارضة السورية المقرّبة منها، أن تُصارع على الجبهة الرئيسة مع الأكراد على مقربة من حدودها، في حين لعب الإيرانيون في العامين الماضيين مع أكراد العراق (طالباني) وسورية (قوات الحماية، وقوات سورية الديمقراطية) ضد تركيا.

على الرغم من ذلك، في موازنة بين ما يُوافق وما يُباين استراتيجية الطرفين في تحولات المسألة السورية، خصوصًا بعد الحضور العسكري والسياسي الروسي، والاتفاقات الروسية- الأميركية على سياق الحل في سورية، يظهر أن حجم ما يدفع الطرفين لرسم استراتيجية توافق بينهما في المسألة السورية، ما زال دون ما يفرق بينهما؛ فما يجمعهما هو مداخل سياسية، لكن ما يفرقهما هو مسائل تمسّ جوهر الأمن القومي في كلا البلدين. إذ ترى تركيا عدّة قضايا سورية باتت تمسّها بصورة خطرة، وأنها يجب أن ترى حلولًا لها خارج المعادلات الصفرية، أي من خلال بعض التوافقات الممكنة مع دول المنطقة، وبالذات منها إيران.

يشكل نمو النفوذ والتطلعات الكردية في الشمال السوري أهم تلك القضايا، وقد اكتشفت تركيا استحالة حل هذه المعضلة عبر الانخراط المباشر لها في الشمال السوري، وأن نفوذها على الجماعات السورية المعارضة لن يستطيع أن يوفر لها كبح نمو هذا المشروع الكردي، لذلك تسعى لأن تكون إيران سندها، عبر تشكيل محور إقليمي لمواجهة الطموحات الكردية، خصوصًا أن لإيران نفوذًا معقولًا على حزب العمال الكردستاني التركي، الراعي المباشر لحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي السوري.

على الضفة الإيرانية ثمة قضايا موازية لذلك، إذ ترى إيران في النفوذ الروسي إخلالًا بموقعها المركزي في سورية؛ فهي إذ عملت لسنوات على الحفاظ على سلطة آل الأسد، ودفعت من جراء ذلك الكثير من الأثمان، ترى في نفوذها وهيمنتها على المجال السوري قاعدة وتعبيرًا عن نفوذها وسيطرتها الإقليمية، بالذات في جغرافيا شرق البحر المتوسط. لكنّ النفوذ الروسي الجديد يحرمها من ذلك “الامتياز”، وبقبول أميركي.

تتشارك تركيا وإيران المصلحة نفسها في تحجيم النفوذ الروسي، لأن هذا النفوذ المتعاظم في سورية يعني تسعير القضايا العالقة بين الطرفين التركي والروسي، ليس في سورية فحسب، بل أيضًا في منطقة القوقاز وجزيرة القرم وصراع مستقبل الغاز ومسألة الإسلام السياسي والنفوذ التركي في آسيا الوسطى، حيث الجمهوريات المقلقة لروسيا.

أخيرًا، ترى إيران أن تركيا في لحظة ضعف مكينة، وتعتقد أنها تستطيع أن تستغل ذلك تمامًا وتحصل منها على تنازلات جوهرية، تُغيّر من طبيعة موقفها الرئيس من عموم المسألة السورية، وحتى في شكل اصطفافاتها الإقليمية، وأن تقرّ بحقيقة النفوذ الإيراني في المنطقة.

يبدو كل ذلك دافعًا لأن يتوافق الطرفان على رؤية سياسية مشتركة في المسألة السورية. لكنّ هذا التوافق يبدو صعبًا جدًا، لأنه يتطلب المسير في خطين متوازيين: أن تُعيد تركيا ترتيب علاقاتها الإقليمية، وبالذات مع دول الخليج العربي وباقي “القوى السُنيّة”، وإعادة ترتيب ذلك قد يغدو اندراجًا غير مأمون الجانب، وقد يشكل مسًّا بالأمن القومي والاستراتيجية التركية في المنطقة. مقابل هذا الشيء، ليس مطلوبًا من إيران أيّ تحويل في علاقتها وتحالفاتها الاستراتيجية.

وهكذا، من المرجّح أن التوتر بين إيران وتركيا لن يستقرَّ، أو تُعرف وجهته، قبل أن ينجلي مسار التسوية السياسية في سورية، ومعرفة طبيعة النظام المقبل في دمشق؛ وقبل معرفة التداعيات التي سترافق استعادة الموصل من أيدي “داعش”.

التحديات في العراق

تقوم المعادلة التي تسير عليها مصالح تركيا وإيران في عراق ما بعد 2003 على أساس التنافس المنضبط بقواعد محدّدة، وهي تمنع الهيمنة الكاملة من قبل أي من الدولتين. فتركيا، حتى وإن كانت حذرة في تعاملها مع النفوذ الإيراني في العراق، لن تقبل بنمو ذلك النفوذ إلى حد السيطرة الكاملة عليه. لأن مثل هذه السيطرة قد تغيّر ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إيران وحدها، الأمر الذي قد يوصل العلاقات التركية- الإيرانية إلى طريق مسدود، أي قد تسير الدولتان باتجاه قطع الاتصال بينهما، ومن ثمّ الدخول في منعطف خطر قد يصل إلى حدّ المواجهة.

تبدو إيران أقرب إلى سرعة الحركة، لأنها أخذت تنتهج سياسة واضحة في دعم بعض الميليشيات (الشيعية)، بل وصل بها الحال، خاصة بعد حوادث الموصل، إلى أن تتدخل بعناصر من “فيلق القدس” لمقاتلة “داعش”؛ وربما يتزايد هذا التدخل مستقبلًا وهو ما قد يثير حفيظة تركيا التي هي أيضـــًا ستتحرك، ولكن بصورة مختلفة عن التحرك الإيراني، إذ إنها ستتدخل بشكل غير مباشر عن طريق الدعم المالي، أو تقديم الدعم اللوجستي، أو تدريب الجهات والأطراف التي تخدم، أو تعتقد تركيا أنها تخدم مصالحها القومية، وأن هنالك ضرورة ملحّة في تقديم الدعم لها من أجل منع اختلال معادلة التوازن داخل العراق.

مهما يكن، فإن اندلاع حرب بين تركيا وإيران في العراق له أبعاد وتأثيرات خطرة تشمل أغلب دول المنطقة، إذ إن موقع العراق يجعل من غير الممكن الإبقاء على نار الحرب مشتعلة داخله فحسب من دون أن يكون لها امتداد إلى دول الجوار الإقليمي، إذ ستدخل هنا اعتبارات الحفاظ على المصالح القومية وعلى إثبات الوجود في ميدان الصراع بالنسبة إلى الدول المجاورة، التي ستدعم بعض الأطراف التي تتقارب معها من ناحية المذهب، أو القومية، ومن ثمّ، تتوسع حلقات الصراع وتنتقل من العراق إلى المنطقة.

لا تبدو مهمة إيران صعبة في محاصرة الطموحات التركية، فالفارق بين البلدين كبير في الامتداد وقوة الأذرع الأمنية والاجتماعية داخل العراق، وسيكون من الصعب على تركيا، التي فشلت في إيجاد موطئ قدم لها في حلب، أن تضطلع بدور حقيقي ذي شأن بالموصل، إلا من خلال ما فعلته في جرابلس، كتحرك وفق الخطوط الحمراء الأميركية، لا يقودها إلى أبعد من محاربة “الإرهاب السني” في حدود معسكر بعشيقة، لتستبدل خارطة الطموح من حلب إلى جرابلس، ومن الموصل إلى بعشيقة.

في الواقع، ينتاب تركيا مجموعة كبيرة من المخاوف إزاء عملية الموصل، حيث تخشى أن يؤدي دخول الميليشيات الشيعية (الحشد الشعبي) إلى ارتكاب انتهاكات واسعة ضد السكان المدنيين، قد تؤدي إلى تغيير في التركيبة الديموغرافية للمدينة، التي تقطنها أغلبية من السنّة وجزء من التركمان، ما يعني فقدانها عمقها الاستراتيجي في العراق، المتمثل في مدينة الموصل أبرز محافظات شمال العراق.

إن ما يثير تركيا، ليس فحسب (الحشد الشعبي) الذي تراه سيفًا إيرانيًا لتقطيع العراق وتغيير هويته، بل محاولة لعب ورقة هذا التنظيم ضد تركيا وسياساتها ومصالحها في المنطقة برمّتها، واحتمال حدوث تفاهمات إقليمية جديدة، برعاية إيرانية، على حساب أنقرة تظهر إلى العلن عبر محاولة إيرانية لجمع ثلاث قوى محلية، (الحشد الشعبي) و(قوات سورية الديمقراطية) و(حزب العمال الكردستاني)، تحت علمها، للإمساك بخيوط اللعبة في سورية والعراق، سيناريو لا يمكن استبعاده تركيًّا.

في جميع هذه الحالات كان سيد الخلاف هو مواقف البلدين المتضاربة من الملفّين السوري والعراقي وتداعياتهما، حيث سُجّل عن الرئيس أردوغان، في أكثر من مناسبة، وصفه سياسات طهران بأنها تضرّ بالاستقرار الإقليمي، وتسعى للتمدّد ونشر التشيّع وتغذية الطائفية.

التحديات في الخليج العربي

يتألف الطوق الجغرافي الواقع شمالي منطقة الخليج من الهلال التركي- الإيراني، وهو هلال يُمثّل قوتين عسكريتين كبيرتين في المنطقة، إضافة إلى خزّان بشري يتعدّى المئة وستين مليون نسمة، وقد تجاوزت أزمة الخليج حدود الأطراف المتنازعة لتطال بتأثيراتها معظم المنطقة، ومن الأمثلة الأبرز على تخطّي الأزمة حدود الدول المعنية مباشرة فيها، الموقفان التركي والإيراني منها منذ بدايتها وحتى اليوم.

إن استمرار الأزمة وطول عمرها قد يخدم إيران التي تسعى لتغذية أي خلاف عربي- عربي، لينشغل الجميع عنها وعن مخططاتها. كما أن بقاء الأزمة على حالها، وتوجّه أي دولة خليجية للتعاون أكثر مع إيران لا يصبُّ في مصلحة تركيا، لأن الاستقرار هو المفتاح لعودة تركيا إلى دورها القوي في المنطقة وحماية مصالحها.

كما أن تفكك مجلس التعاون الخليجي سيكون موضع استفادة إيران بامتياز، ولا سيّما من ناحية تسويق فكرة إنشاء نظام أمني جديد، يضم إيران ودول مجلس التعاون والعراق، وهذا يتطلب بالضرورة تحطيم النظام الأمني لدول مجلس التعاون، ويُنصِّب طهران قوةً كبرى على بقية الأعضاء في النظام الأمني الذي تريده.

إن تصعيد اللهجة التركية تجاه طهران بدأ على لسان الرئيس التركي الذي قال على هامش زيارته إلى الخليج في شباط/ فبراير الماضي “تتحرك منظمة (حزب الله) الإرهابية في سورية أيضًا، وإذا كانت إيران تقول إنها ضد المجازر وليست وراءها، لا بدّ أن نتعاون ونتكاتف لنوقف معًا إراقة الدماء في سورية”. وخلال مؤتمر ميونيخ الأمني في شباط/ فبراير الماضي تحدث وزير الخارجية التركي عن موقفه من إيران، حيث عبّر بوضوح عن الموقف الخليجي العام الذي يرى في جمهورية الولي الفقيه تهديدًا لأمن واستقرار المنطقة، وشدّد على أن الطموحات الإيرانية مستندة إلى سياسة طائفية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك موضحًا أن “سياسة إيران الطائفية تُقوّض- للأسف- السلام في عدد من الدول الإقليمية؛ مثل البحرين والسعودية، وعدد آخر من بلدان الخليج، وكذلك تسعى إيران أيضًا لتحويل سورية والعراق إلى دولتين شيعيتين، وهذا أمر خطر جدًّا، ولذلك نحن في حاجة إلى أن نحثّ إيران على التوقّف عن هذا الطموح الذي يمسّ بالاستقرار والأمن”.

الاشتباك التركي– الإيراني، بعد التأييد التركي لـ “عاصفة الحزم”، لن يغيّر من قواعد لعبة التنافس التقليدية بين البلدين، فالصراع على القضية السورية، التي دخلت عامها السابع، لم يفجِّر العلاقات بينهما حتى الآن، بل ظلّ البلدان يعملان على تطوير علاقاتهما الاقتصادية وكأن لا علاقة للمصالح الاقتصادية هذه بالصراع الجاري، فالمشاريع الضخمة في مجال النفط والغاز والتجارة تُسيل لعاب الجانبين وتجعل من كل طرف ينظر إلى الآخر بأهمية استراتيجية كبيرة.

إن الصراع المفتوح بين تركيا وإيران سيظل محكومًا بمسار التسوية السياسية في سورية، ومآل المواجهة القادمة بين واشنطن وطهران، ومستقبل العلاقات بين إدارة الرئيس ترامب وروسيا. وسيظل محكومًا بالقدرة المحدودة للطرفين على تغيير المعادلات ورسم خريطة جديدة للمصالح المتشابكة في الإقليم.

من السيناريوات المحتملة في هذا السياق، اتفاق تركيا وإيران على تقاسم المنطقة، من خلال تحديد مناطق نفوذ لكل منهما، إذ تصاعدت الأطماع الإقليمية للدولتين خلال السنوات الماضية، وأصبح لكل منهما وجود سياسي وعسكري قوي من خلال تدخلات عسكرية مباشرة وقوى وجماعات سياسية وعرقية تدين لإحداهما أو للأخرى بالولاء، وتتحرك داخل دولها وفق ما تُمليه المصالح التركية أو الإيرانية، وليس وفق المصلحة الوطنية، ويجري ذلك تحت عناوين طائفية غالبًا، إذ يُستغل التمذهب الشيعي والسني السياسي من جانب إيران وتركيا، لتحقيق مصالح قومية لكل منهما، ويبدو الاتفاق على تقاسم النفوذ أقرب إلى سلوك الدولتين، بعدما توصّلتا إلى أن إنهاك بعضهما بعضًا في حروب وخلافات مفتوحة، ويبدو أنه لن يكون مجديًا في نهاية المطاف.

خاتمة

تُظهر دراسة تاريخ العلاقات التركية- الإيرانية، وتحليل العلاقات المعاصرة بين البلدين، أنه من الصعب الحديث عن صراع أو تعاون بنيوي على المدى الطويل بينهما. بدلًا من ذلك، هناك اتجاهان متنافسان يقودان في الوقت نفسه إلى كل من المنافسة والحوار؛ فالدولتان تتقاسمان حدودًا مشتركة، لم تتغير منذ ما يقرب من أربعة قرون، وليس هناك خلاف تاريخي وإقليمي يمنعهما من تطوير علاقات حسن الجوار، ومع ذلك، يمكن أن تتحوّل المخاوف السياسية والتنافس الإقليمي بينهما في بعض الأحيان إلى أزمات، وقد يصل الاختلاف العميق بين مصالحهما في العراق وسورية إلى مسار تصادمي.

تدرك تركيا جيدًا أنها قوة إقليمية، لها وزنها في الشرق الأوسط، وتريد أن تلعب دورًا يليق بها في ظروفٍ إقليمية دولية ملائمة. وبقدر ما تشتدّ الفوضى في المنطقة تشتدّ الضغوط على أنقرة لتملأ الفراغ، ولكنّ الحواجز والقيود التي تحيط بالدور الإقليمي لكل من تركيا وإيران، تُعيد التذكير بالسياسة الأميركية، التي هي المراقب الأول في ملعب السياسات الدولية، مثلما تُجدّد الدعوة إلى فهم كوابح الدور الروسي، المراقب المساعد في الملعب السياسي ذاته.

لقد أعاد اتفاق بوتين– ترامب في هامبورغ ترسيخ قواعد اللعبة التي كانت سارية أيام الحـــرب البـــاردة، حيث كان على القوى الإقليمية أن تـــرضخ لشروط التسويات التي كانت الدولتان العظميان تعقـــدانها؛ ولم يكن يُسمح لأي دولة بأن تُجـــازف في التمرّد، فهل بات بوسع واشنطن وموسكو استعادة ذلك النموذج، أم أن المتضرّرين يملكون ما يمكّنهم من الخروج على القواعد الجديدة القديمة؟




المصدر