من حقائق الثورة “المُرّة”

1 آب (أغسطس - أوت)، 2017
12 minutes

muhammed bitar

لم يكن أحد من الثوار السوريين يعلم أن الجهات الداعمة للثورة بما فيها “الجمعيات الخيرية واللجان الإغاثية” تعمل لصالح جهات مخابراتية دولية، وليس بهدف إنساني يتمثّل في انحيازها للثورة كما كان يتصوّر بعضهم.

وبعد فوات الأوان فهمَ الناس أن تلك الجهات التي تسمّى “داعمة” كانت تجمع البيانات عن الشعب السوري وتجمعاته وأحواله وانتماءاته وتطلعاته، لتستغلّ هذه المعلومات في تنفيذ مصالح الدول التي تتبع لها، وتجمع المعلومات عن الفصائل العسكرية من حيث تعدادها وتبعيتها وتسليحها والأهداف التي تعمل لأجلها، لتضعها بين أيدي أجهزة أمنية دولية متخصصة، لدراستها وتحديد أساليب السيطرة على تلك الفصائل، لإخضاعها لتنفيذ أهداف تلك الجهات.

ولم يكن أحد ليعلم أيضاً عدد تلك الجهات التي تبيّن أنها أكثر من أن يتم إحصاؤها، فهي تمثّل أطماع العالم على الأراضي لسورية.

بين سوريا والغرب

فُرض على المواطن السوري أن يكتشف حجم تعقيد مصالح الدول، وترابطها وتداخلها، غير أن الغريب في الموضوع هو أنَّ السوريين كانوا خارج هذه الشبكة من حيث الفاعلية، لكنهم كانوا في مركزها من حيث الأهمية، وذلك بسبب موقع سوريا المهم استراتيجياً، ما يجعل المواطن السوري هدفاً دولياً للتخلّص منه من قبل راسمي السياسة والحكومات وأجهزة المخابرات العالمية.

ومن هذا المُنطلق، فإن الكثير من العرب هُجّروا إلى الولايات المتحدة وأوروبا (سوريين منهم وعراقيين) لكنهم بعد وصولهم إلى هناك عاشوا بكل رخاءٍ ونعيم ولم يتعرّضوا لأية إساءة، الأمر الذي يطرح سؤالاً عن سبب رضا المجتمع الدولي بسحق هؤلاء المواطنين على أرضهم، فيما يرحّب بهم في مجتمعاته.

وكانت دول الغرب داراً آمناً للسوريين والعرب الفارين من الحروب في أراضيهم، ودار علمٍ لمن أرد أن يتعلّم ودار عدلٍ لمن ذاق الظلم، وهنا يجب معرفة سبب الرضا الدولي بقتل هؤلاء والتنكيل بهم على أرضهم من قبل الأنظمة الاستبدادية الحاكمة التي أفسدت أخلاق المجتمع على مدى نصف قرن من الزمن، ونشرت الجهل والخوف والظلم والفساد والانحلال، وحمَت اللصوص، وحوّلت المجتمع إلى مافيات، وجعلته يعيش الرعب، إذ أنّ كل مواطن كان عليه رقيب وعلى كل رقيب حسيب، حتى انتزعت ثقة المواطن بمحيطه من عقله وقلبه، فاهتز كيان المجتمع أفراداً وجماعات، ونمت روح التفرد نتيجة عدم الثقة بالآخر، وانتفى الفكر والعمل الجماعي نتيجة الخوف من الآخر، فكان لزاماً على كل مواطن أن يفكّر وحيداً حذِراً من كل من حوله، كما اضطره الحال أن يعيش بعدة شخصيات، تنقسم إلى أنواعٍ عديدة.

ومن أبرز هذه الشخصيات تلك المتسلّقة التي تتناسب مع العمل الوظيفي، وتتميّز بأنّها شخصية مزاودة للاجتماعات العامة كي تضمن عودتها إلى بيتها بعد الاجتماع، وشخصية أخرى تناسبه في بيته كربِّ أسرةٍ او ربّةِ أسرة، وشخصية يتعبد بها ربه، وشخصيات أخرى كان المواطن السوري مضطراً أن يُلبس نفسه زِيها كي يستطيع الاستمرار في هذا المجتمع متعدد الاحتياجات، إلى درجة يناسبه كل شيء إلا أن يكون هو، وهي أقنعة كان المواطن السوري مضطراً أن يُبدِّلها مرات خلال يومه، كي يستطيع العيش في مجتمعه.

تلك الشخصيات المتعددة فُرض على المواطنين السوريين تقمصها زمناً طويلاً، حتى الموالين منهم، إضافة للخوف وانعدام الثقة بالآخر، وخلّفت عند السوريين النزعة الفردية وانعدام الروح الجماعية، وهذا ما كان له بالغ الأثر السيء على الثورة فيما بعد.

درس

علّمت الثورة المواطن السوري، أنه لو كانت حكومات دول العالم المتخلف حكومات وطنية لكانت أفقرت دول العالم المتقدم، ولو سمحت الدول المتقدمة لنظيرتها في العالم المتخلف أن تنتخب حكومات وطنية بطريقة ديمقراطية لما بقيت دولاً متخلفة، وفي هذا خسارة لدول العالم المتقدم، ولو أزاحت دول العالم المتحضر حكومات الدول المتخلفة لتعطلت سياستها واقتصادها.

لكن لا يمكن إغفال دور نظام الأسد كمنفّذ أساسي لتطلعات دول العالم ورغباتها في إبقاء شعوب العالم الثالث متخلفة ومن بينها الشعب السوري.

وعليه يمكن أن نفهم الخطوة المدروسة مخابراتياً التي قام بها النظام والتي قدمت خدمة لأعداء سوريا حين أفرج النظام عن عدد ليس بقليل من قيادات الحركات الإسلامية من سجونه بعد بداية الثورة بقليل، فقد أطلق النظام سراح 1500 معتقل من قيادات الحركات الدينية من سجن عدرا،  كما أفرجت أمريكا في العراق عن عدد مماثل أو يزيد من سجن أبو غريب.

ولا يستطيع أحد إنكار معرفة أنظمة القمع في سوريا والعراق بأفكار المفرج عنهم وطموحاتهم، لتنصّتهم وتجسسهم عليهم لفترات طويلة، ولتوظيف بعضهم ضد بعض، ولقد قام النظام بذلك في فترات عنفوان الثورة وانتصارها، وارتباك النظام.

وأدّت هذه الوصفة السحرية التي لجأ إليها النظام بتوجيه من دوائر مخابراتية دولية، إلى تغيير الثورة من شعبية ضد الفساد والطائفية إلى حركة دينية راديكالية محارَبة عالميًا، كان ذلك بعد أن كان النظام قد وصف الثورة منذ الساعات الأولى بأنها إخونجية ووهابية ورجعية، كل هذا ليقلب النظام حقيقة الثورة ويضفي عليها صبغة إسلامية متطرفة يستطيع من خلالها القضاء على الثورة بأعنف الطرق دون أي اعتراض يوجه له، لا بل بمساعدة دولية، وبنجاح هذه الخطة يكون القضاء على الثورة، وتثبيت السلطة، وتأييد العالم له.

وفعلاً، سارت الأمور وفق المخطط المرسوم للنظام، من قبل أسياده في إيران وروسيا، إذ أنَّ مجموعات الإسلاميين المفرج عنهم لم يغيبوا طويلاً في المجتمع، فكثيراً منهم له تواصلاته الخارجية خصوصاً من اشتركوا في حرب العراق وأفغانستان، لذلك ظهرت أسماءهم بشكلٍ سريع كقيادات لفصائل إسلامية، وتعددت أسماء الفصائل، وسارع الشباب للالتحاق بتلك الفصائل مثلما سارعوا لإطلاق اللحى وتقصير الثوب، وكل منهم يدعي تحكيم شرع الله وإعلاء كلمته، حتى زاد بعضهم ليصل إلى مرحلة إقامة “دولة الخلافة” دون المرور بمرحلة الدعوة، وزاد من انتشار تلك الفصائل والتفاف الكثيرين حولها بعض الانتصارات التي حققتها، وطبيعة الشعب المسلم الذي لا يحتاج الى دفع باتجاه الدين، بل تكفيه الإشارة.

وبعد أن أصبح قائد الفصيل قائداً للمدينة أو القرية برضا من الناس وتشجيعهم متوسّمين الخير بشباب الفصائل الإسلامية لا سيما أنهم ممن قضوا في سجون النظام فترة من ربيع أعمارهم، أصبح مطلوباً من قادة الفصائل الحديث والعمل في السياسة والتنظيم والإدارة وقيادة المعارك الحربية، علماً أنهم لا يملكون خبرة سابقة بهكذا تخصصات، ولكن كان الأمل أن تكون فترة الثورة قصيرة والانتصار قريب لذلك يجب عليه أن يتحمل فالحصاد يوشك أن يقع، والكل ينتظر السلطة.

تحرير المُحرّر

في هذه الفترة أيضاً ظهر شرعي الفصيل الذي اتبع دورة شرعية قد تزيد عن الشهر، في علم يُمضي بعض الدارسين عمره بتعلمه، لكن الغريب أنه كان يمارس قضاءه الشرعي على السكان المدنيين، لا على الفصيل الذي من المفترض أن يكون ساحة عمله، وهذا ما أسهم في ظهور الفتاوى الارتجالية، وأظهر الجهل بالدين ممن يدّعونه، مما كان له مردود عكسي أثّر على شعبية الفصائل الإسلامية.

لكنّ ما زعزع الثقة ونفّر الناس من الفصائل الإسلامية، أن بعضها اعتبر أن أولوياته تبدأ بقتال الجيش الحر، إذ اعتبروه مرتداً، وبالتالي أُعطيت الأولوية لقتال “المرتدين” الذين يدخل في تصنيفهم فصائل الجيش الحر وباقي أفراد الشعب السوري الثائر، وفعلاً بدأت معاركهم ضد هذا الجيش الذي حرّر ما يقرب من ثمانين بالمئة من الأراضي السورية، حيث قاموا بالهجوم عليه وفرضوا سيطرتهم على ما كان تحت يده من أراض ومدن، واغتنموا أسلحته وعتاده، وهذا ما سمي “تحرير المحرّر”، بينما كانت تهاجم قوات النظام والميليشيات التابعة لها أجزاءً أخرى من مواقع ومناطق الجيش الحر، وكأن الطرفين يتعاونان عليه لإنهائه، حتى لم يبقَ تحت سيطرة الجيش الحر إلا القليل مما كان.

بعد ذلك، بدأت تلك الفصائل تأكل بعضها بحجة وبغير حجة، بحيث يسيطر فصيل على منطقة آخر “ويغتنم” أسلحته ويرميه بالتهم، وفي نهاية كل سطوٍ تقوم به إحداهم على الأخرى، يجتمع الشرعيون ويبررون فعل المنتصر!

من يمثّل الدين؟

وباعتبارنا موقنين بأن أجهزة الاستخبارات العالمية حوّلت الثورة إلى فصائل مسلحة متناحرة، وأعراق متصارعة، وإثنيات متربصة، يجدرُ بكلٍّ منّا عدم التأثّر عندما يكون التوصيف يخص فصيله، أو إثنيته، فالموضوعية تقتضي التجرد عن الخصوصيّات والبعد عن العصبية من أي شكل أو نوع، وإلا كيف نفسر تلاعب أجهزة المخابرات والقوى الدولية الأخرى؟ أليس عن طريق تخريب المعتقدات الفكرية والعقدية لمكونات الشعب السوري، لحرف بوصلته عن اتجاهها الصحيح؟

ومما يجب ذكره أيضاً ظهور فئة تتهم كل من ليس معها بعدم فهم الدين، بل ويكفرون الآخر أحياناً، وهؤلاء يرون أنه لا يجوز الخروج على الحاكم حتى ولو كان جائراً أو فاسقاً أو..، لكنهم لم يذكروا العمالة، إما لعدم فهمهم، أو لعدم جرأتهم، وقد سهّل النظام لهؤلاء الظهور والحديث على وسائل الإعلام والانتشار، وكانت حركتهم في المجتمع سهلة ميسرة فأغلبهم شيخ أو “متمشيخ”.

وبالتوازي شهد المواطن السوري أوجهاً متعددة ومختلفة للدين، فوقع في حيرة ولم يعد يعرف مَنْ مِن هؤلاء يمثّل الدين الصحيح، على الرغم من أن السوريين كانوا يفهمون الدين ببساطة ودون أي تعقيد.

وما زاد في ألَق الفصائل الإسلامية في مراحلها الأولى، قدراتها المادية واللوجستية التي ظهرت عليها، فيما بدأت بعض الفصائل الأخرى تشتكي من القلة التي تعاني منها، لتوقف الدعم عنها إما لاتهامها بالعلمانية، أو لفتنٍ وقعت بين الفصائل ووشاية بعضها ببعض أدى إلى قطع الدعم عنها.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه ليس غريباً على الجهات الداعمة (خصوصاً الجمعيات الخيرية التي تدور في فلك المخابرات الأمريكية أو التي تعمل دولها بأجهزة “التحكم عن بعد”) ألّا تقدم الدعم إلا للفصائل الإسلامية وهذا كان حافزاً ودافعا لإطلاق الأسماء الإسلامية على فصائل حتى ولو كان منتسبوها ضد الدين، أو من الجهلة في علوم الدين، وبهذا يتميز المتأسلمون عن الإسلاميين.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]