وحدة القضية من ناجي العلي إلى ناجي الجرف


محمد الشوا

في مثل هذه الأيام تمر الذكرى الثلاثين لاستشهاد رسام الكاريكايتر وأيقونة الثورة الفلسطينية المبدع الكبير ناجي العلي الذي اشتُهر برسم (حنظلة). هذه الشخصية التي سُئل عنها ناجي العلي ذات يوم فقال: (هي رمزٌ لذاتي ومعاناتي كابن مخيم حافٍ، ورمز لمرارة قضيتي كفلسطيني، وقضيتي كعربي، ثم تحول إلى رمز لكل معذب ومظلوم؛ فأصبحت هويته إنسانية، بقدر ما فيها من المرارة، تختزن من التحدي والإصرار وعدم الاستسلام). بتصرف.

في 22 تموز/ يوليو عام 1987، أطلق شاب مجهول رصاصة مسدس كاتم للصوت على ناجي العلي في لندن؛ فأصابه تحت عينه اليمنى، ومكث ناجي في غيبوبة ٍحتى وفاته في آب/ أغسطس عام 1987. وُجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى الموساد الإسرائيلي، وثانيًا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لأنه رسم بعض اللوحات التي تمس قياداتها، وإلى بعض الأنظمة العربية للسبب ذاته.

لقد تواطأت كل قوى الشر والظلام والإجرام في المنطقة، على إسكات صوته وكسر قلمه وإيقاف إبداعه الذي يخشونه ويخافونه أكثر من أي شيء آخر، لقد أنتج ناجي العلي أربعين ألف رسم كاريكاتيري، خلال مسيرته الفنية التي استمرت نحو 30 سنة، ويعود الفضل في نشر أعماله ودخوله عالم الكاريكاتير إلى الأديب الفلسطيني “غسان كنفاني”.

وصفت مجلة (التايم) ناجي العلي بـ “الرجل الذي يرسم بعظام البشر”، وقالت فيه صحيفة (أساهي) اليابانية: إن “ناجي العلي يرسم بحامض الفسفور” تعبيرًا عن صراحته الشديدة والمباشرة في رسوماته.

ومن أشهر المقولات التي حفظها الناس عن ناجي العلي قوله: (اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو ميت) وَ (أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب)، و(الطريق الى فلسطين، ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة). رحل ناجي العلي تاركًا “حنظلة ” وحيدًا وشاهدًا على العديد من الانتهاكاتِ بحق فلسطين ووطنهِ العربي.

رغم ما بينهما من الزمن، وأقصد ناجي العلي وسميّه ناجي الجرف إلا أن هناك تماهيًا كبيرًا على مستوى المبادئ والمواقف، كلاهما انحاز إلى الثورة واستحقاقاتها الأخلاقية والإنسانية، فوظفوا كل طاقتهم وإبداعهم لدعم الثورة وقضاياها العادلة من حرية وحقوق وكرامة إنسانية، وعلى حقه كشعب ثائر من مقاومة العدوان والظلم بكل أشكاله ومسمياته، إن كان استعمارًا استيطانيًا أو استبدادًا داخليًا، فهما وجهان لعملة واحدة.

لقد خرج الفنان والمبدع السوري ناجي الجرف ابن مدينة السلمية مع كل الثائرين الذين انتفضوا على النظام، مطالبين بحقهم بالحرية والعدالة والمساواة وانخرط بنشاطات كثيرة أهمها المجال الإعلامي والصحفي والعمل على توثيق انتهاكات النظام وجرائمه، وفضح كل ممارساته القمعية واللاإنسانية من خلال خبرته في هذا المجال، وبعد خروجه إلى تركيا بدأ يوسع نطاق عمله؛ ليشمل كل الجهات والفصائل العسكرية التي يثبت عليها انتهاكات بحق الشعب السوري وثورته وعلى رأس هذه الجماعات التي بدأ يعمل على فضح ممارساتها الوحشية، تنظيم الدولة (داعش) الذي مارس كل أنواع الترهيب والتقتيل بطريقة غرائزية دموية سادية؛ أدخلت الثورة السورية بدوامة من العنف على مدى أربع سنوات.

أخرج الشهيد ناجي الجرف عدة أفلام وثائقية عن الثورة السورية، وكان يشغل منصب رئيس تحرير مجلة (حنطة) السورية التي ترصد وفق موقعها الإلكتروني “المشاهد اليومية في حياة المواطن السوري”، فبقدر ما تحمل شخصية “حنظلة” من الرمزية، تحمل كلمة “حنطة” من دلالات تعبر عن الخير والعطاء والنماء والسلام، أدرك ناجي الجرف أن هناك قوى ظلامية هي للعصابات أقرب منها إلى الجماعات الإسلامية والوطنية، بل هي الوجه الثاني لعصابات النظام وميليشيات القتل التابعة له.

من هنا بدأ العمل والإعداد لإخراج الفيلم الوثائقي عن تنظيم الدولة (داعش) وممارساته في مدينة حلب قبل طرده منها، ونشره على اليوتيوب بعنوان “داعش في حلب”، كشف فيه عن حجم الانتهاكات التي يقوم بها التنظيم بحق كل قوى الثورة، من عسكريين ومدنيين وناشطين وإعلاميين وصحفيين.

لقد كان هذا الفيلم قاصمة الظهر، بالنسبة لناجي الذي لم ينس أبدًا أن ثمن أعماله ولا سيّما فيلمه الأخير هو حياته، ولكنه قرر السير في هذا الطريق، لأنه كان يؤمن أيضًا بمقولة الشهيد ناجي العلي: “اللي بدو يكتب عن فلسطين/ سورية، واللي بدو يرسم عن فلسطين/ سورية، بدو يعرف حالو ميت”.

وكما تشابهت البدايات، بين ناجي العلي وناجي الجرف، اتفقت النهايات بينهما أيضًا، فبالطريقة نفسها وبالأسلوب ذاته وبالأداة “مسدس كاتم للصوت”، اغتيل ناجي الجرف في مدينة غازي عينتاب التركية في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2015، على يد تنظيم الدولة (داعش).

فسلام على روحيهما في العالمين، وسلام عليهما في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، وجعلهما الله في زمرة الناجين عنده، وأنزل لعناته على القتلة والمجرمين الآثمين.




المصدر