الأسدية: أخطر نزعة بربرية في التاريخ


منصور حسنو

في الزنزانة رقم 14، كان النزيل مواطنًا من جبل العرب، وقلّما كان يتحدث معي في زنزانتي رقم 1 المقابلة لزنزانته، إلا أني، بعد أن بادرته هامسًا، عرفت من خلال تلك الهمسات تهمته، وهي أن له أخًا طيارًا هرب بمفرده دون طيارته إلى (إسرائيل)؛ فقامت المخابرات الجوية بأخذ يوسف (اسم الشاب) رهينة إلى أن يُسلّم أخوه نفسه، ويرجع إلى حضن الوطن، ومع تتابع الهمسات، عرفت أنّ يوسف لم يكن الرهينة الوحيدة من العائلة، فقد أتوا بكل إخوة الطيار الهارب رهائنَ ووضعوهم في زنازين منفصلة، لكيلا يروا بعضهم بعضًا.

كنت أسأل نفسي في الزنزانة، بالنهاية يوجد تهمة لي والدولة محقة في وضعي في السجن، كوني خرقت قواعد المؤسسة العسكرية التي أنتمي إليها، ولكن ما ذنب يوسف وإخوته أن يوضعوا في الزنازين دون أي تهمة من قريب أو بعيد؟! شكّلت هذه الحادثة صدمة لي لفهم هذا النظام. بعد تحوّلي إلى سجن المزة العسكري الذي استبشرت خيرًا لحظة قدومي إليه، عندما رفعت “الطماشة” بحواجبي، لأرى هل أنا في تدمر أم في مكان آخر، وما إن رفعت رأسي حتى رأيت باب السجن، وقد كُتب عليه عبارة بالخط الفارسي الجميل: “وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون”. كانت هذه الآية آية في الطرافة، ووضعها قمة في الوقاحة، في دولة استثنائية استطاعت الجمع بين الفكاهة والجنون.

بقيت همسات يوسف وتنهيداته في ذاكرتي، لتضاف إلى هذه الذاكرة اللعينة المشؤومة بمعرفة مواطن سوري آخر، لا يألف الاختلاط مع أحد، ولا يثق بأحد، وعلى الرغم من عدم وجود جدران الزنازين، فقد همس بأذني عندما سألته ما تهمتك عمي أ. خالد؟ كان الجواب صاعقًا ومؤلمًا، أنا الذي كنت طالبًا في الكلية الجوية، عندما كنا نلعن الطيار الخائن (بسّام العدل) الذي هرب بطيارته ميغ 23 إلى (إسرائيل)، لقد كان خالد وإخوته رهائن إلى حين عودة أخيهم إلى حضن الوطن، وطالما طالت العودة إلى حضن الوطن، فليجلس خالد وإخوته الثلاثة أكثر من ستة عشر عامًا، بعد تكرّم “الرئيس” والإفراج عن والده ووالدته فقط بعد بضع سنين!

مقدمة لا بدّ منها لنعرف أنّ الشعب السوري قام بثورة على نظام ليس كمثله شيء، وهو الجبّار العنيد، ولأنه كذلك؛ انقسم الشعب السوري بين أغلبية صامتة وأغلبية ثائرة، وانقسم الثوريون بين مؤيد لحمل السلاح ورافض له؛ وكلا الفريقين ينطلق من الذهنية ذاتها الفاهمة للنظام وتكوينه ومتخيلة كل السيناريوهات المتوقعة من هذا النظام، وشعار “الأسد أو نحرق البلد” آية في الوضوح والتحدي ولا يحتاج إلى تأويل.

شكّلت الحالة الإسلامية المتطرفة في سورية فرصة للقول: “الأسد هو الخيار الأفضل”، ليس عند مثقفي السلطة من يمينها الباطني أو يسارها الظاهري فحسب، بل الغرب أيضًا، إنهم يقولون لنا، صباح مساء، بعد مرور ست سنوات من العنف الممنهج تجاه الشعب: انظروا انظروا! هل تريدون أن تحكمنا (النصرة) و(داعش)؟ هل تريدون أن تحكمنا الرايات السود؟

إن محاولة خلط الأوراق وتلبيس وتدليس المواقف، وتزييف وعي الجماهير، من أخطر ما يمكن أن تمارسه النخب اللا متحيزة لقضية تحرر شعوبها من أنظمة القهر والاستبداد، فلا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق، وأنتم ثائرون وسائرون في طريق التحرر والحرية.

لهؤلاء نقول، بباطنيتهم الطائفية وظاهريتهم الثقافوية العلمانية وعمائمهم السنية البوطية تدينّا وعسكرة: ليست الأسدية خيارًا وقدرًا للشعب السوري بداية، وليست الداعشية والإسلاموية خيارًا للشعب السوري نهاية، ومطلب التحرر من الديكتاتورية البعثية التقدمية يُساوي بالقوة والفعل مطلبَ الشعب السوري بالتحرر من الرجعية الماضوية، فلا أيديولوجيا حاقدة ستحكم هذا الشعب ولا أيديولوجيا جامدة ستحلم بتقرير مصير هذا الشعب، ولكن على الرغم من ذلك، فمن العلمية والموضوعية أن نقول: إن نظام الأسد لا يشبهه شيء، ولا يُقارن بأي منظمة إجرامية في الكون.

قام الدواعش بالدخول إلى بعض بيوت الرقة وريف دير الزور، بطلب بعض المطلوبين من بيوتهم، لكونهم “مرتدين أو ملحدين أو مخبرين وجواسيس”، وقامت (النصرة) في جبل الأكراد في اللاذقية باستدعاء بعض من كتب بحقهم تقارير إسلامية، كونهم “يخالفون الشريعة”، فلم نسمع عن (داعش) ولا (النصرة) أنهم قاموا بأخذ رهائن عن الشخص المطلوب من أسرته وعائلته، صحيح أن (داعش) و(النصرة) قوى متطرفة، ولكن لها منطق إسلامي يحكمها، يقول لها: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”. هذا المنطق الذي لا يعرفه منطق السلطة التقدمية الأسدية، فما ذنب عائلة طيار هارب حتى يقضي إخوته وأهله سنوات في الزنازين، تحت التعذيب؟

عندما سألني البعض في المحكمة الألمانية، كونك معارضًا للنظام وكنت ضابطًا ومجردًا من كل الحقوق، لماذا لم تفكر بالهرب من قبل؟ هم لا يتخيلون ولا يُصدّقون أنّني تخلفت مرة عن مراجعة قسرية لأحد الفروع الأمنية؛ فقام المساعد بتوقيع أخي الصغير أن يراجع الفرع عوضًا عني، فكيف إذا سافرت إلى بلاد الغرب “الإمبريالي”؟

في شوارع اللاذقية عام 2012، خرجت تظاهرة حاشدة في جنازة ثلاثة أطفال ماتوا في ظروف غامضة (حرقًا في منزلهم)، تعاطف الناس وخرجوا وهم يهتفون بالحرية لوالد الأطفال المعتقل في صيدنايا، ولكن لا أحد يُصدّق، ونحن ندفن الأطفال أن عناصر الأمن العسكري شاركوا معنا مراسم الدفن، وهم يحملون كاميرات خاصة وحديثة، لتصوير كل من شارك في هذه التظاهرة التاريخية، أيُّ تنظيم إرهابي في العالم يملك هذه الوقاحة؟ بل أي تنظيم إرهابي في العالم يعتقل بشرًا، ثم يشترط لتسليم جثثهم المحروقة والمكتوية تحت التعذيب، أخذ مبالغ نقدية من أهالي المعتقل؟

أبدًا، ليست الأسدية خيارًا، كما أنّ الداعشية ليست خيارًا، ولكن الأسدية ليس كمثلها شيء، إنها أخطر نزعة بربرية في التاريخ. وهذا ما يجب أن نُضحي من أجله، التحرر من الأسدية، والصراخ من أجل التحرر منها حتى النهاية.




المصدر