المثقف والزاوية المعتمة


نزار السهلي

الثورة ليست وليدة رغبة تنزل حسب مقاسات النخبة المثقفة في المجتمع، ولا هي تهبط من وحي أفكار متخيلة لبعض المتململين من واقع يستريحون فيه دهرًا. الثورة هي محتوى الروح التي ترشدنا إلى مفهومها البعيد عن التفلسف، والتي تساعد المثقف والسياسي والأديب في أن يستخرجوا كلمات “الحق والعدالة، الظلم والشر، والجريمة والعقاب”، من مسقطها وإعادتها إلى حيث يجب أن تكون دالة ومؤثرة وفاعلة، وكثير من محطاتها يكون صانعًا للمثقف الحقيقي ومبينًا للتزييف والتزوير.

الثورة السورية نموذج يقبل الإطالة والاستدلال على تلك المحطات وصناعتها. قبل الثورة السورية، كان الخوف متلبسًا الإنسان العادي، ثم انتقل الخوف بعدها ليكون ملازمًا شعارًا وسلوكًا وموقفًا، للمثقف المرتعد من عاديات الإنسان زمن الثورة. ارتبط المجهول مع فعل الإنسان بالثورة لأنه ركن جانبًا خوفَه المنتقل للمثقف الذي بدا محشورًا في زوايا متعددة، عندما قفزت النقاشات حول “هوية الثورة”، وهوية النظام دون تمحيص لخلفيات سلوكه، حتى بدت حركة اندفاع المثقفين للالتفاف حول النظام، للحفاظ على موقع وشأن اختل وتزعزع، مع نظام يواجه ثورة ويقود أخرى مضادة.

مؤسف جدًا ومحزن حال المثقف العربي، في زمن الثورة السورية التي ستبقى كاشفًا تخضع لها المفاهيم السابقة، كاختبار إجباري لمعنى الثقافة والسياسة والأخلاق والاجتماع والفلسفة والفن بصنوفه كلها أيضًا، ينعكس ذلك على من كان يعتنق “مفاهيم التحرر” والكفاح والنضال، وما إن يقفز إلى الذهن اسمٌ يرتبط بتلك المعاني، حتى يتم السؤال عن الموقف تجاه سورية، لتتحدد -فيما بعد- الذائقة وصدقها، بعد أن شهد العربي -والسوري تحديدًا- انحدارَ الثقافة و”لحسها” كلها، والارتداد لإشارات تومئ ببوادر غفران للقبول بالسفاح. هنا تحديدًا يكمن فعلُ الخيانة الذي تحدث عنه إدوارد سعيد في (خيانة المثقفين) ليس بالتخلي عن دورهم فقط، بل بممارسة دور لا يقل تأثيرًا عن دور القتلة والطغاة.

التخفيف من الآثار المترتبة على بقاء الطاغية، هي مهمة المثقفين المطبعين معه، بجهدهم المنصبّ على عقل الإنسان، للقبول بهذا القدر الذي لا بدّ منه، وتحصيل حاصل تلك النتائج “المرعبة” التي يخلفها وجوده. لكن مَن قال إن تأثير النخبة المثقفة المطبعة، مع عقل وسلوك الطاغية، يتجاوز دوائر الفعل المباشر المكشوف! حين نقول إن سورية هي الكشاف الباقي لكل المعاني والمفاهيم، وحين يكون رهط الثقافة متحررًا من قيد الجغرافيا، ويأتيك “فنان تشكيلي” في باريس أو عمان، أو شاعر مرهف، انتهى للتو من طباعة ديوانه الشعري، أو روائي أو باحث فلسفي في “الأنثروبولوجيا” وجلّهم يسبح على شاطئ الطاغية، وتكتشف أن مسار هذه الحياة تتسرب منه الصور والأحاسيس والأفكار كلها، وتتموضع في هراوة الطاغية أو حذاء القاتل.

أحدهم يهتم بعلم الإنسان الحيوي وعلم الإنسان الاجتماعي وعلوم الإنسان الثقافي، وآخر يغطس بلوحاته متأملًا الإنسان المصلوب على ألوان أربع! يجتهد الروائي بتقديم شخصيات الرواية وتأنقها ومعاناتها، لكن جلّهم –أيضًا- لا يحبون سيرة الإنسان المعتقل في مسالخ الأسد، ولا حديث ملايين اللاجئين والدمار الواسع والمجازر، هذا حديث السياسة والأزمة، وهم في مجال “ثقافة” أسمى وأرفع لا تقترب منها، لأن لهم “ملاحظاتهم”! حين سألت باحثًا، قبل ستة أعوام، عن رأيه في اعتقال الصديق “سلامة كيلة”؛ أجابني: (يُبا شو النا بلي يصير بسورية). قلت ولما تذيل تحت اسمك كاتب عربي، وتكتب “القدس ليست أورشليم”؟ قال لي: إني أهتم بالتاريخ.

الذي تراكم وجدانيًا وذهنيًا، داخل أرواحنا ودهاليزها ومستنقعاتها، في ستة أعوام، يكفي لكنس هراء الثقافة المبتعد عن الإنسان والملتصق بالطاغية والقاتل، لم يبق لجدال الأرواح ومواجهة هذه البرودة القاتلة، غير دفء الانتماء وصدق إحساسه. الثقافة تضيع عندها الحدود التي يتمترس خلفها بعض المهترئين، وتغيب فيها المسافات النسبية التي تميز هذا الحقل من ذاك المثقف غير المتردد وغير القادر على تحمل نتائج بوحه بالحقيقة، لكنه لم يختر الصمت، بل الزاوية المعتمة من التاريخ ليقضي فيها ما تبقى.




المصدر