يمّا مويل الهوى


قصي زهر الدين

كنتِ هنا، تربتين على كتفِ الحزن وتمسحين ثقلَ أصابعه عن الكتب التي تخثّر دمها في شرايين الوحدة. كنتِ هنا، قبلَ أن يصطادك الشمال كفريسةٍ سهلةٍ للأغاني الوطنية، قبلَ أن يختطفكِ البردُ، وجوعُ الغربانِ للجسد البشري.

ثم خرجتِ تقصدينَ أحياءَ حلب القديمة، ومذ ذاك؛ أي منذ خمسة وعشرينَ شهرًا كاملًا وهو يحصي غيابك شمعةً شمعة وأرضًا أرضًا.

***

الثانية والنصف صباحًا. لستُ ممن يجيدونَ مراقبة الوقت أو حتى استدراجه كذئبٍ بريّ لمخادعهم، فالوقت لدودٌ يقيم في الجسد كالحمّى، لذا تفشل جميع محاولاتي في كنسه بعيدًا كغبارٍ لا يحتمل.

إنها الثانية والنصف، لا ليلَ هنا أو نهار، حتى أصوات الحرب التي اعتدتُها توقفت عن الصراخ، وكأنّما للحربِ أمٌ تلقي لها بحلمةِ ثديها الخشنة، كلما تمادت في جوعها للرصاص والجثث.

تصمت الحرب، بكامل خرسِها الموحش، والصمتُ وشاحٌ ثقيل يشبه روحًا تُلقي بملاءتها على الهواءِ والبحرِ والجنود والخنادق والحجارة، فيخرسُ الكون دفعةً واحدة غير مبالٍ بصخبنا الإنسي.

أفكر في ذلك الرجل الوحيد -صديقي- الذي لا ينضب حديثه عنكِ، بين جدرانٍ صلبة لا يجتازها حتى النمل، بينما ينسلُّ شعركِ من نافذةِ كلامه كلص، كمعجزةٍ سوداء يوشّحها نُثار الذهب، شعرك الذي أيضًا لم ينجُ من مكائد الحرب، فصارَ إلى حريرٍ تسرحُ خيوطه في ذاكرةِ الريح، شعركِ الذي يتباطأ في نزوحهِ الأخير إلى الغرف المهجورة، لتصعدَ رائحته عاليًا مثل ذاكرةِ الورد، أو مثل كلامٍ سهلٍ يعيده عاشقان كصدًى نحيلٍ على مسامع البر.

لو أستطيعُ لعانقتُ غيابها، يقولُ صديقي:

فيسقط من عينيه قتلى، ومن على شفتيه تنزاحُ مدنٌ منذورةٌ للخراب.

ها هو الآن يبعثر أوراق أمسه، ويلملم شظايا صوتك من ذاكرته، أو ما بقيَ منه، كلما كنتِ ـ بلسانٍ مقطوعٍ ـ تعيدينَ الكلماتِ ذاتها:

“كيف مات هذا الهائلُ هكذا.. في سيارةٍ مفخخة”!

***

كان كلما زرته -أقصد الرجلَ الوحيد- حدثني عن غسان كنفاني، وكأنه يستعير صوتَ حبيبته المغدورة:

“لا أعلم، لمَ يزورني شبح هذا الرجل غسان الذي يركض الغبار أعرج على صفحاتِ كتبه كعدّاءٍ بُترت ساقه. أجل غسان كنفاني كان في غرفتي، يشربُ من قهوتي وسعالي، غسان الذي لا يمتلك حدودًا أو جواز سفر، هو فقط يمتلك مفتاحًا ثقيلًا في عنقه الطري، كشأن أيّ فلسطيني، أو سوريٍّ فقد صوته”.

يشرب شايه الباردة ويتابع:

“وهو لا يمتلكُ نهارًا شاسعًا، ففي عينيهِ أبدٌ يحترق، عينيهِ المطفأتين، كنافذتين تطلّانِ على حيفا أو على دمشق، إذ لا فرقَ بينَ وحيديْن!”

ثم يشير إلى صورتها المعلقة في صدر الجدار:

“حبيبتي تناثرت مثل حبّات غبار الطلع في الهواء الساخن”.

بعمقٍ، يتنهد وكأنما صحراءٌ تحترق في رئتيه، ثم يردف:

“كنت أسكب لغسان القهوة وأشعل له لفافاتٍ كثيرةً من التبغ، ثم أقرأ له آخرَ قصيدةٍ كتبتها، فهو أيضًا يحب ما يكتبُ الذين يتقاسمون الخبزَ وظلالَ الزيتون. فمنذ عامٍ تقريبًا قرأت له قصيدةً كنت كتبتها لامرأةٍ قبضَ المخبرون على نهديها اللذين يخفيان في عتمتيهما رسائلَ سرية تشتمُ فيها البلاد، وتشكرُ باعةَ التبغِ والنبيذِ الجوّالين. أجل قرأت على أذنيهِ الصخريتين رسائلَ وقصائدَ وقصصًا كنتُ برعتُ في قتلِ أبطالها وجنودها وأطفالها ونسائها، فأنا أيضًا قاتلٌ محترف يحملُ سكينًا في ذاكرته”.

***

إنها الثالثة الآن، ليلًا أو صباحًا أو عَتمةً، لا أدري؛ فأنا لا أعرف شيئًا عن تصانيفِ الليل والنهار وتصريفات الزمن المعبّأ في زفراتِ الهواء.

صديقي ممددٌ قبالتي كجثةٍ زرقاء، يدخن لفافاتِ التبغ، ينظر إليّ من زاويةٍ بيضاء في عينيه ويردد بلسانٍ مبحوح:

“أتذكّر الآن أني نجوت من أربع سياراتٍ مفخخة، آخرها انفجرت بعد أن عبرتها بقليل، إلا أنني لم أنجُ من حروقٍ كثيرةٍ في أصابعي، بعد أن انتشلتُ جثث أصدقائي وأشلاءهم عن الإسفلت وأفواه علب القمامة”.

أيّ نهايةٍ تلك؟ أن ينتهي السوريّ بكاملِ صخبه شلوًا في كيسٍ أسودَ خيطَ فمه جيدًا، أو طعامًا نيئًا لسمكِ البحر ومهربي لحومنا الباردة.

أنظرُ إلى صديقي أو الرجل الوحيد، كما يدعوه أغلب سكان مدينتي الصغيرة، أنظر في صدره المثقوب برصاصِ الحزن والفقد، فتجتاحني رغبة ملحة إلى البكاء، لتسقط مدينةٌ مدمرةٌ من عينيَ اليسرى، عيني التي يقول عنها صديقي ذاته إنها واسعةٌ ومطفأة.

يضحك الرجل الوحيد بشفتيهِ المتشققتين، أضحك بدوري، فنحن فقط جزآن صغيران من مسرحيةٍ لا نعي شيئًا من سردها.

ذلكَ هو اليقينُ بعينه، ألا نعي يقينًا بعينه؟

نضحكُ، وتضحك الأرضُ لاهيةً بعبثها الصواب، عبثها المنذور لحكمةِ أننا أحجارٌ صغيرةٌ تقودها أصابعٌ لا تقوى أجسادنا على اختزالها أو حتى مواربة خشونتها. تضحك الأرض هازئةً، وتضحك السيارةُ التي أقلّت ماءَ جسدِ غسان كنفاني باكرًا إلى الضفةِ الأخرى من الحياة. تلك السيارة نفسها التي نجونا منها مرارًا.

صديقي -الرجل الوحيد- لا يريد أن ينسى أنّ حبيبته قُتلت عندما مرت محاذاةَ سيارة مفخخة في شوارع حلب القديمة، وأنّ جسدها تناثر بلحمه الحي، وأنّ ثيابها تعلّقت كنُتفٍ من الأرواح القصيرة على جدران السوقِ القديمة.

لذلكَ، كان يُكثرُ الحديثَ عن غسان كنفاني، وكأنه يبرر غيابها المُر أو أنّه يريد التخفيف من وطء الفاجعة، باستدراجِ فاجعة أبعد لسرير قلبه.

غسان كنفاني مات في سيارةٍ مفخخة، وحبيبتي كذلك، إلا أن الفرقَ بينهما أنها لم تصعد السيارة التي كانت تحملُ الموتَ في جلدها المعدني، هي فقط مرّت جوارها، يعيد الجملة الممزقةَ ذاتها، وكأنما قلبه يُعتصر بين شفتيهِ ثم يردف:

“غسان ـ بأيادٍ سوداء ـ قتله اكتراثه بالأرض، أمّا حبيبتي فمَن؟”

يراوغُ دمعتين هائلتينِ في جوفه ويكرر:

“موتٌ آخرٌ ألا ننجو من أصواتِ الذينَ رحلوا”.

ألتفتُ برأسي جهة الشرق، الشرق البعيد، وأغني:

“يمّا مويل الهوى.. يما مويليا

ضرب الخناجر ولا.. حكم العدو فيّا”..




المصدر