الحياة حين تكون بكل هذا القبح


بشرى البشوات

لماذا الفن بهذا الجمال؟ لأن لا غاية من ورائه، ولماذا الحياة بهذا القبح؟ لأنها مليئة بالغايات والأغراض والأهداف.

فرناندوا بيسوا

ما الذي يُحدث ذلك الفصل بين الفن والأخلاق والجمال والقبح.

حين يتمرغ الفن في وحل الحاجة أو يسقط في فخ الضرورة المتعددة المستويات؛ يصير كأنه سقوط في بئر عميقة، هكذا أسقطت الحضارة من كيسها المثقوب، بعدها الأخلاقي.

يقول الفيلسوف الفرنسي برغسون، في معرض نقده للحضارة: “كيف حدث أن نسينا أنّ الأخلاق هي جوهر الحضارة”.

صرنا أمام خفض للقيمة الأخلاقية في حقل الفن، وحدث ذلك التصعيد للقيم المستعارة والزائفة، فانحسرت القيم وزحف التسويق، وتراجع الطرح القيمي وتقدم المشهد، وأخذ المعنى يترنح في المناخ المشهدي، وانتقل بعد ذلك متدحرجًا، ليدخل في إطار الصورة الخائفة التي أحلّت النجومية كقائدة لهذا النسق، وبوصفها مولّدة للمال والشهرة والسلطة، محل الحقيقة الأخلاقية، فتراخت شهادة الفن عن العالم وتقلصت فرص الاشتغال عليه، ولم يعد الفن يتمكن من حشد فيض جمالي إضافي.

صار العالم يمتلك الكثير من النجوم والقليل من الفنانين، وإذا كان الفنان شاهدًا على العالم، فإن النجم هو جندي المتاهة الذي يعمل على توطيد أنظمة السلطة والسوق والمال والشهرة، والذي أصبح مندرجًا في استراتيجية الهيمنة والسيطرة المرئية واللامرئية، على الحياة والإنسان.

الفنّ الذي يُنظر إليه، بوصفه لحظة في الروح وأحد رهاناتها لبلوغ ذاتها عبر التاريخ، صار متعة منقوصة من الأخلاق. وأكثر ما يتجلى ذلك على صعيد الفن المشهدي (السينما- الفيديو كليب– الدراما التلفزيونية) حيث نجد أنفسنا أمام حشد من النجوم المحليين والعرب والعالمين، وكأن العالم يُعيد إنتاج حاجته إلى البطل الملحمي أو التاريخي، عبر خلق أسطورة البطل النجم في عالم الفن المشهدي، وصار النجم يمتلك الملايين والقصور والسيارات الفارهة.

يمتلك النجوم كل شيء من دون موقف أخلاقي إنساني، هناك طبعًا بعض الاستثناءات تجاه المهمشين والفقراء والضحايا والنازحين، وكأن النجم يعتقد أنه لا واجب عليه تجاه العالم المحيط.

هل يرى النجم أن النجوميّة تجبّ ما قبلها وما بعدها، بما في ذلك الموقف والمسؤولية تجاه أبناء الوطن أو الإنسانية، هل يعتقد أنه يمتلك مطلق المشروعية والحق في أي سلوك يسلك أو موقف أو لا موقف، وكأنه ينتمي إلى عالم الأباطرة الذين يعتقدون بأنهم مؤيَّدون بحق إلهي؟

هل يفسر الخوف من السلطة أو عليها وعلى المال والامتيازات والظهور هذا اللا موقف، هذه اللامبالاة عند الأكثرية، دع عنك ما يتخذه البعض من مواقف لا تمت إلى الإنسانية والأخلاق بصلة، بحكم قاعها المذهبي والطائفي المقيت.

نمتلك في العالم العربي أكبر رصيد من مآسي العصر (حروب- نزاعات)، ونمتلك كذلك جيشًا من النجوم يمتلكون بدورهم المليارات، هل سمع أحدٌ أن نجمًا من هؤلاء قد تبرع بشيء من مداخيله لمساعدة ضحايا حربٍ أو نزاع، علمًا أننا أمام جيوش جرارة من القتلى والمعوقين والنازحين واللاجئين و…

كثيرًا ما سألتُ نفسي: ألا يخجل النجوم العرب من أنجلينا جولي التي تنفق ثلث عائداتها على ضحايا النزاعات والكوارث حول العالم، أعتقد أن أنجلينا، بين قلة غيرها، قد أعادت بعض الاعتبار لمحتوى أخلاقي أخذ يضمر في سلوك النجوم.

عند هذه الإنسانة تجسّرت هوة عميقة بين سلوك الفنان وإنسانيته ومواقفه الأخلاقية تجاه العالم. لم تكتف أنجلينا بما تبرعت به من أموال، وبما بذلته من جهود في إطار عمل المفوضية العليا للاجئين، بل صامت تضامنًا مع جوع الجوعى وفجيعة المفجوعين، إذ تقول: “كيف آكل وهم لم يأكلوا“!

أعتقد أنها علامة فارقة على صعيد علاقة النجم بالعالم، وإحياء بعد أخلاقي أخذ يضمر في تجلياته السلوكية، إن في عالمنا العربي أو حول العالم، وإنها لعلامة فارقة في ذاكرتنا نحن السوريين. ليس هذا موقفًا دعائيًا لنجمة، ثمة آلاف من النياشين على صدرها وكتفيها، بينما تطالعنا وسائل التواصل الاجتماعي بعشرات بل مئات من التصريحات العنصرية واللاإنسانية التي تصدر وصدرت عن فنانين عرب، هم أولى بأن يقال عنهم إنهم لم يشكلوا أي علامة فارقة تذكر، سوى تمظهرهم بالشكل، فما الذي منع مثلًا السيدة فيروز أو الفنان الملتزم مارسيل خليفة، وكبار المثقفين والفنانين اللبنانيين من التوقيع على عريضة تدين التعرض لأناس عزل ولاجئين سوريين، لم تكن لهم يومًا علاقة بدائرة الاقتتال والمحاصصة ونهش الأرض السورية!

وما الذي يمنع كبار المخرجين والممثلين العرب من زيارة مخيمات اللجوء، والتحدث بصوت من لا صوت لهم؟

ما الذي يمنع من مساهمة كبرى دور النشر العربية من تخصيص جزء من مردود هذه الكتب لمساعدة هؤلاء الفقراء؟

لماذا يخصص الروائي البرازيلي باولو كويلو منحة سنوية تقدم لخمسين طالب جامعي من أبناء الفقراء، للدراسة في أهم الجامعات على مستوى العالم مستوفية كل المصاريف.

أنا أنحاز تمامًا إلى صف أنجلينا، أنحاز إلى اصطفافها الإنساني، إلى احتشادها بكلها بجمالها ونحولها، بحضورها وغيابها إلى جانب هؤلاء المكلومين، هؤلاء المساكين، وأرفع قلبي قبل قبعتي أمامها.




المصدر