الملتقى الأدبي لجامعة حلب.. نموذجًا


نجم الدين سمان

في مطلع ثمانينيات قرنٍ مضى، تبلورت تجربةٌ في العمل الثقافيّ السوريّ لم تنل دراسة وافية، سوى أن الأسماء التي أفرزتها ما تزال حاضرةً حتى الآن.

كان المشهد الثقافيّ السوريّ آنذاك، شِبهَ مُغلَقٍ على ما تبقّى من جيل الخمسينيات، ومن الأسماء السائدة في الستينيات التي ترسخت بعد نكسة حزيران 1967، ثم أفرزت السبعينيات طيفًا واسعًا من الأسماء: شعراء وقاصين وروائيين وكتابًا مسرحيين ونقادًا؛ مع ارتفاع عدد الكتب التي تنشرها وزارة الثقافة سنويًا. وكان لأنطون مقدسي دورٌ محوريٌّ في إطلاق أسماءٍ جديدة بحساسيات جديدة. تبلور كلُّ هذا في “الملحق الثقافي” لجريدة الثورة 1976 وحتى منتصف 1979 الذي ترأس تحريره الشاعر محمد عمران، وفي هيئة تحريره نخبةٌ من كتاب وشعراء ونُقّاد سورية آنذاك، ولم تستطع صحيفة (الأسبوع الأدبي) الصادرة عن اتحاد كتاب النظام أن تملأ الفراغ بعده؛ وبخاصةٍ بعد أن ترك عبد النبي حجازي تحريرها، بسبب سياسات الاتحاد الإقصائيّة التي جَسَّدها علي عقلة عرسان أفضل تجسيد؛ مُحوّلًا الاتحاد إلى جمعيةٍ استهلاكيةٍ بعد قُبُولِه أنصافَ كُتّاب السلطة وأرباع كتبةِ التقارير، أعضاءً فيه؛ حيث يمرُّ رفضُ المُبدعين من البوابة الأمنيّة التي رسَّخها حافظ الأسد.

وصلتُ في هذا التمهيد الزمنيّ، إلى تجربة (ملحق الثورة الثقافي) لأشيرَ إلى تخصيص صفحتين فيه للأقلام الجديدة؛ بإشراف: شوقي بغدادي؛ تلك كانت الفسحة الوحيدة المُتَاحَة لنا آنذاك؛ إرهاصًا بجيل الثمانينيات.

وعبرها، ظهرَ اسم: رياض الصلح حسين؛ جميل حتمل؛ إبراهيم صموئيل؛ فيصل خرتش، وآخرين؛ كما نُشرَت لي فيهما قصة قصيرة.

منبرٌ آخر للأدباء الشباب، أُتِيحَت لي المشاركة فيه: المهرجان الأدبي الأول للأدباء الشباب 1977 بدعوةٍ من وزارة الثقافة، وما لبث بدءًا من دورته الثانية في حلب 1978 بمشاركة اتحاد شبيبة الثورة، أن تحوَّلَ من منبرٍ للحساسية الإبداعية الجديدة، إلى منبرٍ لتطويعها واحتوائها!

وهكذا -أيضًا- كانَ نشرُ كتابٍ واحدٍ لكاتبٍ شاب، يُعَدُّ إنجازًا؛ بل إنّه بالإضافة إلى جائزةٍ أدبيةٍ ما؛ كان بمثابة جواز مرورٍ له إلى الوسط الثقافي.

بالتزامن مع أحداث الإخوان المسلمين 1980، وبعد مجزرة حماة تحديدًا، دخل الوسط الثقافي السوري في سُبَاتٍ سلبيّ، صَمَتَ فيه مثقفون عمَّا جرى، برَّر مثقفون آخرون ما جرى، طبَّل آخرون لِمَا جرى باعتباره انتصارًا للسلطة “التقدمية!” على الرجعية الدينية! وأغمض أغلبُهُم عينيه –إلّا نادرًا- عن مجزرة حماة وعن مجزرة سجن تدمر بعدها، مُركّزين فقط على تجاوزات الطليعة الإخوانيّة المسلحة، مُتغَاضِين عن تغوُّلِ الدولة الأمنيّة الأسديّة.

في ذاك المفصل التاريخي، حيث تختلط معايير الأشياء؛ لم يَكُن مُتاحًا، سوى أن يقول جيلنا ما يستطيعه، وما يهجس به ضمن الحقل الثقافيّ، في انعدام السياسيّ تمامًا؛ وسط لزوجةِ أحزاب جبهة حافظ الأسد “التقدمية”!

ثم سيأتي براغماتيّ بعثيّ مثل محمد جمال باروت؛ ليُقنع أجهزة الأمر الواقع، بإمكانية مُواجهة التطرُّف بالثقافة أيضًا؛ بعد أن ظهرت أسماؤنا في أمسيات كُليَّاتنا. ثمّ التقينا معه، لنُصدِر بيانَ تأسيس الملتقى الأدبيّ لجامعة حلب، مُبشِّرين بحساسياتٍ جديدةٍ في المشهد الثقافي السوري، إلى درجةٍ لم يقتنع فيها باروت بإغفالِ تسميتنا بـ “الأنبياء الصغار”!؛ وبمُحاكاةِ بيانات تياراتٍ مثل “الوجوديّة والدادائيّة والسرياليّة”، في بيان مُلتقانا.

لكنّ حساسيةَ أيَّ جيلٍ جديدٍ، ستتجاوز بالتأكيد كلَّ التوقعات الثقافية والسياسيّة والأمنيّة؛ هكذا، ستفعل قصيدة الشاعر الراحل عبد اللطيف خطاب (أفول نجم الديكتاتور) بدءًا من اسمها إلى آخرِ حرفٍ فيها. وستكون أولُ قصةٍ أُلقيها في أولِ ملتقى أدبيّ لجامعة حلب هي (30 قطعة لجسد الرغيف) التي تَمَّ استبعادُها في مهرجان الأدباء الشباب قبل عام؛ لأنها تُشير مِن غيرِ تسميةٍ إلى مجزرة “تل الزعتر” في لبنان! وسيُلقي آخرونَ من جيلنا قصائدَ وقصصًا لا تخلو من الإحالة إلى المسكوت عنه؛ حتى لو أنها تدور في فلك شعريّة الأشياء والأماكن، أو مُتلبِسةً، بالترميز القصصيّ، أو بالإحالة إلى تاريخٍ مضى، بينما يتعيَّن الحاضر فيه بكثافة، وحتى بالسوريالية على الطريقة السورية، أو بتراجيديا “الكائن الصغير” الذي قد لا ينتبه إليه كثيرون! وعبر القصة الساخرة بالطبع.

في الملتقى الأدبيّ لجامعة حلب -الذي يُقام مرّتين كلّ عام دراسيّ- شارك ثمانون شاعرًا وشاعرة وقاصًا وقاصّة –تقريبًا- حتى غدا علامةً ثقافيةً فارِقَةً في الثمانينيات -وبخاصةٍ جلسات النقاش المفتوحة فيه بعد كلِّ أمسية- من حيثُ لا جوائزَ فيه ولا ترتيبَ ولا مُناصَفاتٍ اشتُهِرَت بها تلك المرحلة!

للدلالة على أهمية الملتقى الأدبيّ لجامعة حلب؛ سأذكر بعض الأسماء التي خرجت من منبره، لتأخذ مكانها في المشهد الإبداعيّ السوريّ، وبعضُها في المشهد الإبداعيّ العربيّ والعالميّ أيضًا:

فيصل خرتش، عبد اللطيف خطاب، فؤاد محمد فؤاد، خالد خليفة، عمر قدور، حسين بن حمزة، أليس إلياس مسّوح، عبد السلام حلّوم، ندى الدانا، يوسف إسماعيل، مسلم الزيبق، صالح الرزّوق، بشار خليلي، بسام سرميني، فريد ناظاريان، أحمد عمر، عبد الرحمن حلاق، مها بكر، حسين درويش، لقمان ديركي، عارف حمزة، محمد علاء الدين، عبد الحليم يوسف، بسام حسين، صلاح داوود، أمان أبو دان، صالح دياب.. وغيرهم.

شكّل الملتقى منبرًا مفتوحًا للأدباء الشباب الأكراد السوريين -الذين يكتبون بالعربية- ومُتنَفسًا لهم للتعبيرِ عن خصوصيتهم القوميّة والثقافيّة.

كما أنّ إبداعات المُشاركين فيه فازت بأغلب جوائز مهرجانات الجامعات السورية، وفي مسابقات سوريةٍ وعربيةٍ، كـ (مسابقة سعاد الصباح للإبداع الشبابي العربي) وغيرها.

حَفِلَ الملتقى بتجاذباتٍ فكريةٍ/ ثقافيّة، وبسِجَالاتٍ حول قصيدة النثر أو حول التكثيف في القصة القصيرة، وشهد صراعِ أجيالٍ بين جيل المُلتقى في الثمانينيات وجيل الكتاب والنُقَّاد المُكرَّسين والأساتذة الجامعيين الذين شاركوا في تقويم الأعمال وفي النقاش حولها: عمر الدقاق، فؤاد المرعي، وليد إخلاصي، فايز الداية، نبيل سليمان، محمد جمال باروت، نيروز مالك.. إلخ. كما شهد لعبة شَدِّ حِبَالٍ ما بين اتحاد الطلبة وفرع حزب البعث الحاكم في الجامعة، وحتى مع مُفتي حلب آنذاك، بشأن جُملَةٍ في قصيدة، ومع أجهزة الأمنِ الأسديَّة بالطبع؛ حتى عام 1986، حين اتخذت السلطة قرارًا نهائيًا بتحويل الملتقى إلى منبرٍ لها ولِكَتَبَتِها فقط؛ فلم يَدُم ذلك إلا ملتقىً واحدًا فقط، تمّ بَعدَهُ إلغاءُ اسمِه واستبدالُه بالمهرجان الأدبيّ لجامعة حلب.

أشير ها هنا -أيضًا- إلى تجربة مجلة (ألِف، للكتابة الجديدة) التي ساهم في تأسيسها عام 1990 اثنانِ من خَرِّيجي ملتقى جامعة حلب: خالد خليفة ولقمان ديركي، إضافةً إلى مُؤسِسها سحبان سواح والشاعر محمود السيد وأحمد إسكندر سليمان.

كما أشير إلى تجربة صحيفة (شرفات الشام) 2006 – 2012 التي نشرت 35 ملفًا للإبداعات السورية الشابة، وكان 60 بالمئة من كُتّابها على الأقلّ من الشبان والشابات. كما أطلقت مسابقةً خاصةً للإبداع الشاب، ثمَّ مَدَّدت فترة الإعلان عن الجوائز، بسبب عدد النصوص المُتقدمة الذي تجاوز ثلاثة آلاف قصة وقصيدة.

مُتمنيًا على المنابر السورية الحرّة -وبخاصةٍ بعد الثورة- أن تهتمّ بالإبداعات الجديدة؛ فلطالما كانت سورية رحمًا لكلِّ جديدٍ ومُدهِش.




المصدر