قالوا إنَّ الثورة قد هُزمت!


سميرة مبيض

شكَّل سقوط حلب، في نهاية عام 2016، تاريخًا مهمًا في مسار الثورة السورية؛ إذ تتالت بعده خسائر عسكرية وسياسية، وظهر بشكل واضح فشلُ الكيانات التي تصدرت المشهد المعارض في مهمتها بالسير بثورة الشعب السوري إلى النصر؛ مما قاد الكثيرين إلى الإعلان أن الثورة هُزمت، بموازاة مقولة (خلصت وفشلت) التي أطلقها النظام في بداية الحراك السوري ساعيًا لاستباق استمراريته، لكنه فشل في ذلك واستمر الحراك قُدمًا.

كان سلاح النظام هو اختصار الثورة بالإسلاميين، وإنكار كونها حراكًا شعبيًا محقًا ونهضةً فكريةً شاملةً، وهو المطبّ الذي يقع فيه اليوم كلّ من يُعلن أن الثورة هُزِمت، رابطًا إياها بالتيار الإسلامي، ومتجاهلًا كافة فئات الثورة الأخرى من أحزاب وكيانات وسياسيين مستقلّين وناشطين في الحراك المدني السلمي وإعلاميين وكتّاب وشعراء وفنانين وذوي المعتقلين والمغيبين والشهداء والكثيرين غيرهم ممن ينتمون إلى الثورة السورية ولا ينتمون إلى التيار الإسلامي.

يعتقد البعض إذًا أن الثورة هُزمت، في حين أن يقظة سياسية مهمة قد برزت بعد هذا التاريخ أيضًا؛ فقد أدرك الحراكُ الثوري -معظمُه- أنّ التشكيلات السياسية التي تصدرت المشهد واحتلته تمامًا فشلت فشلًا ذريعًا، وأنها اتّبعت استراتيجيات خاطئة، أساسها مصالح فردية أو حزبية أو شللية، وبمجملها مصالح الدول الداعمة ماليًا، على حساب مصلحة السوريين وثورتهم، وكانت هذه اليقظة كافية لانطلاق عدد لافت من المبادرات الوطنية، ذاتية المنشأ، غير مدفوع بها من أي جهة خارجية، وغير خاضعة للمال السياسي، وبعيدة عن أي أجندة دولية، وقائمة على حوامل سورية نزيهة -قولًا وفعلًا وعملًا- ومعتدلة بمنظورها الشامل لسورية خالية من الأسد، وخالية من كل تطرف مذهبي أو قومي، وجامعة لأبنائها محققة طموحهم وحقهم في دولة القانون الرافعة للعدالة والكرامة الإنسانية.

جاءت حوامل هذه المبادرات من شخصيات ذات بعد اجتماعي، سياسي من بين صفوف السوريين، ولم تهبط عليهم بمظلات، ولم تنطلق بمفرقعات إعلامية دولية، بل عبّرت عن تطلعات حقيقة، ورأبت الشرخ الذي سببه متصدّرو المشهد بين الداخل والخارج، وكأنها خطوات تأسيسية متأخرة خمسة أعوام على الأقل، ممن وضعوا ثقتهم في غير مكانها، وتخلّوا عن أدوارهم في المراحل الأولى. خطوات تسير بتأنٍ وثبات، وتستجمع الآراء والتوافقات، فتزداد قوة.

كذلك رافق سنوات الثورة السبعة نهوضٌ لافت في تحرك الوعي بين مختلف شرائح السوريين، تناول كافة المواضيع الإشكالية التي بقيت دفينة طيلة عقود ومنها حرية التعبير، حقوق التديّن واللا تديّن، مفهوم العلمانية، التوعية الدستورية، التنوير الديني، التطرف وقبول الآخر، وعشرات الجوانب الثقافية والفكرية التي كانت قد دفنت تمامًا في مرحلة سلطة الأسد، بدأت تأخذ مكانها الطبيعي في وعي السوريين. الثورة الفكرية الناهضة بمفاهيم حقوق الإنسان تسير إذًا بخطى ثابتة ضمن المجتمع، وهي ثورة لا تُهزم.

طفت على السطح -بفضل الثورة أيضًا- معالمُ الاحتلال الإيراني الذي كان يتغلغل في مفاصل الحياة في سورية بصمت، منذ استلام الأسد السلطة منذ خمسة عقود، وقامت الثورة بكشفه وبإظهار الوجه المتطرف لميليشياته للعلن، ولن يكون ذلك دون أثر مستقبلي، كما تبلورت معالم الأطماع الاقتصادية في سورية، وتكشّفت عقود استثمار الثروات الطبيعية، وهي اتفاقات كان النظام يعقدها عادة بالسر كثمن يُقابل بقاءه في السلطة، وباتت اليوم مكشوفة لمواليه قبل معارضيه، وتفتح المجال للتفكير بحلول استراتيجية تضمن مصالح السوريين بديلًا عن مصالح عائلة الأسد في هذه الثروات المنهوبة، وجميعها أمور كان للثورة السورية الفضل في إظهارها للعلن، ولولاها لبقي السوريون شعبًا تُستباح أرضه ورزقه ويُقمع ويُهان ويُخدع بحجج واهية.

في كل ما سبق هزيمة للأسد، وليس ذلك فحسب، فلم يقتصر تأثير الثورة على الجهات الرافضة لحكمه، بل نرصد أيضًا إشهار أحزاب تحمل بوضوح أفكار المواطنة والكرامة، ووجود أصوات تنتقد وتواجه وتُطالب بمطالب المواطن السوري، وتتطور بشكل لافت لتبني أفكار من صلب الثورة السورية ثورة حقوق الإنسان.

شهدنا في هذا العام أيضًا تصريحات تتهم نظام الأسد بوضوح بارتكاب مجازر إنسانية ضد شعب أعزل صادرة من رؤساء دول عظمى، وتقليلًا من شأنه إلى مرتبة اللا وجود، إشارات لم نكن نعتقد بإمكانية إطلاقها قبل الثورة السورية، على الرغم من أن نظام الأسد لم يتوقف عن انتهاك حقوق الإنسان منذ استلامه السلطة.

الثورة لم تُهزم إذًا، ولم يَحِن وقت الحكم على نتائجها بعد، فما هُزم مؤخرًا هو محاولة سيطرة الجولاني والبغدادي والمهاجرين الزاحفين إلى أرض سورية، على حراك السوريين، ونجت منهم الثورة. أما من يعتقد أنها قد تُهزم بعد ذلك فهو أبعد ما يكون عن إدراك دماء البشر التي سُفكت، وعذابات المعتقلين، وعن إدراك مستقبل أطفال افترشوا الخيم والطرقات، وعن فهم الانتهاكات الإنسانية التي حصلت بكل صورها. لا انهزام في الأفق، بل مطلب ثابت بمحاكمة كل مجرم، وأولهم الأسد وعصبته، فالثورة لن تنتهي إلا بإحقاق العدل الذي من أجله قامت.




المصدر