لو كان يقرأ.. لبكى!


إبراهيم صموئيل

يكتب الدكتور سامي الدروبي -المترجم الفذّ لأعمال دوستويفسكي- في مقدّمته لرواية (ذكريات من منزل الأموات)، أن القيصر الروسي قرأها -حينذاك- وبكى من شدَّة تأثُّره بها، ثمَّ أصدر قراره الشهير.

والرواية -كما هو معروف- إحدى روائع دوستويفسكي التي ولدت من وحي تجربة السجن التي خاضها كاتبنا بعد نفيه إلى سيبيريا، وعايش من خلالها الآلام الروحية والجسديّة التي يعاني منها السجناء، ومن تلك العذابات شدّ أقدامهم إلى كُرات حديديّة ثقيلة، يجدون أنفسهم مجبرين على جرّها جرًا كيفما تحرَّكوا ومشوا.

وسواء، بكى القيصرُ فعلًا، أم لم يبكِ؛ فالمصادر الروسيَّة تُؤكّد أن قرار إلغاء شدّ أرجل السجناء بأثقال حديديّة -وفق المعمول به في ذلك الوقت- جاء بتأثير مباشر من رواية دوستويفسكي المذكورة، وبتعبير أدقّ بسبب تأثّر القيصر شخصيًّا بما كتبه مؤلفها؛ هذا فضلًا عمَا يرويه التاريخ من أنّ ثمَّة طغاة بكوا، أو حزنوا، أو تأثَّروا، أو تنبَّهوا، أو لنقلْ: إنهم صدَّقوا وانطلت عليهم -في أسوأ الاحتمالات- أكاذيب وألاعيب وتهيّؤات الكتَّاب والأدباء؛ فأمروا بإفراغ السجون، وسمحوا للمنفيين والمهاجرين قسرًا بالعودة إلى بلدانهم، وعملوا على الحدّ من إرهاب عسسهم المنفلت.. وما إلى ذلك. حدث هذا -ولو على ندرة- بتأثّر، أو عطف، أو رحمة، أو حتى جرَّاء “زلَّة سلوك” من الطغاة الحاكمين.

طغاتنا العرب الأشاوس -من أمثال حافظ وصدّام والقذافي- ظلّوا على عهدهم إلى أن قضوا أو قُضي عليهم، فلم يلينوا ولا حنُّوا ولا تأثَّروا قطّ -على افتراض أنهم يقرؤون- ليس في ما يتعلَّق بجورٍ هنا وغلوّ هناك، بل بكلّ ما اقترفه رجال سلطاتهم من كوارث بحق السجناء، وتغييب وجودهم عن أُسرِهم لسنوات، ورميهم أحياء من أسطح البنايات، ورفع وتيرة تعذيبهم حتى الموت… وغير ذلك من أفانين محرقة حقوق الإنسان الواردة في ملفَّات أدبيات وشهادات مَنْ نجا من السجناء العرب.

وعليه، يخطر للمرء أن يتساءل: إذا كانت حال التأثُّر ليست بعيدة عن الطغاة -بعامَّة- ولا مشاعر مفارقة للكائن البشري أيًّا كان موقعه؛ أفيُعقل أن كلَّ هذا التراكم الهائل من أعمال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف، وغيرهما من مئات الكتَّاب العرب، على امتداد مساحة الأرض العربيّة، لم يقع كتابٌ منها، يتحدّث عن السجناء وعذاباتهم، بين يدي أيّ طاغية، فيجرّب قراءته -ولو من باب الفضول- ويُصدّق ما جاء فيه؛ فتتحرَّك شجونه، ويلين قلبه، مما يدفعه إلى معاودة النظر في طغيان نظامه واستبداد سلطته، أو التخفيف من العتوّ والظلم والإبادة الحاصل في السجون والمعتقلات العربيّة؟!

أيُعقل أن كل تلك الأعمال الأدبية والكتابات الهائلة لم تتجاوز محيط الذين تحكي عنهم، ممن تبدو لهم كـ “بضاعتهم التي رُدت إليهم”، أو محيط المناصرين لهم، المدافعين عن حقوقهم، الأكثر دراية بكارثيّة أوضاع السجناء والمعتقَلين من غيرهم؟!

أيُعقل أن طاغية واحدًا لم يُخطئ طوال حكمه -مرةً- فيقرأ، ويتأثَّر، ويُصدر ما يلجم دراكولا السجون.. أم السرّ يكمن في أن تكوينهم تكوين شهوات القروش القاتلة وغرائزها، تلك التي ما رأت فريسة، أو اشتمَّت رائحة دمٍ، إلا وفارت دوافعها وهاجت مزيدًا، في متوالية عدوانٍ وافتراسٍ، يختصُّ زمننا العربيّ -تحت لعنة طغاته- في التمثيل لتلك المُتوالية بامتياز فريد؟




المصدر