اليسار العربي في سيرك النظام السوري


جيرون

لم تكن علاقة معظم أحزاب اليسار العربي واضحة مع الطغاة، كما هي اليوم، وضوح تجاوز التعبير عن التضامن معهم عبر البيانات المكتوبة، إلى الاصطفاف الآخذ شكل الزيارة الرسمية لقصور الطغاة، وتنظيم زيارات مكوكية ووفود “برلمانية” من نواب الشعب “اليساريين”، والاستعداد للقتال والموت من أجلهم، باعتبارهم الأمل المنشود. جوقة اليسار العازفة لحن الدفاع عن الطغاة والمستبدين تجلت في اللحن المقدم على مسرح الطاغية في دمشق، عندما رفعت بعض الأحزاب الستار عن سيرك أيديولوجيتها، وطوت كل أدبياتها تحت معطف النظام الرسمي العربي، بخطاب جديد.

هنا ثمة أسئلة مُثارة عمّا آلت إليه خطابات بعض اليساريين “مثقفين وشعراء ونخب سياسية”، أسئلة مرتعبة ومرتجفة من هواجس “مذهبة وتطييف” الثورة السورية، نخب وأحزاب يسارية على امتداد الساحة العربية من شمال أفريقيا إلى المشرق العربي، لم يختلف تقويمها للواقع السوري، تقويم لم يخضع بالطبع لمعايير طبقية أو أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية وفلسفية، كما طفحت أيديولوجيا اليسار تشريحًا وتقديمًا، بل اعتناق غيبي لسلوك الطاغية ولسلوك أحزاب طائفية ومذهبية تسانده في الجريمة، بلورت ذاتها من خلال جملة مواقف مبنية على لفظ كل “الأحلام” والأمنيات التي رفعها يسار عربي.

في زحمة توافد وفود اليسار العربي والأحزاب “القومية” والثورية، لتقديم طقوس الولاء للأسد، والشد من أزره، ولتذكير طليعة “الجماهير” بأن فراغًا قاتلًا سيصيب الأمة إن غابت شمس الطاغية، وأن جولات القتل والقهر والدمار ستكون أقل بدونه؛ لذا يُفهم من الاصطفاف اليساري خلف السفاح ليس فقط تغطية العجز ومحاولة النجاة من الاضمحلال، بل مساندة القاتل في كل الجبهات، ولم يُفهم من موقف كل هؤلاء سوى محاولة النجاة مع القاتل.

هؤلاء هم رفاق “اليسار” العربي والفلسطيني وحتى الدولي، وبعض ممن يناصرون القضية الفلسطينية “الحملة الدولية لمقاطعة بضائع المستوطنات”، ومنهم من هو محسوب أيضًا على الأحزاب الاشتراكية، في فرنسا مثلًا الحزب الاشتراكي والشيوعي. في الموضوع السوري الموقف محسوم، بالنسبة إلى معظم منتسبي محفل اليسار؛ إذ نجد التلطّي ذاته خلف الشعارات الكبيرة (الإمبريالية والإسلاموفوفيا)، وتختفي الشعارات المرتبطة بفاشية الطغاة.

قدّمت أحزاب اليسار العربي، منذ ستة أعوام، العلاقة المنصهرة مع شعارات تناقض تمامًا ما استفاضت به أدبياتها، عند محك الثورات، وتحديدًا في سورية أصيبت بحالة الإغماء والدهشة والرعب، وسرعان ما يكون موقف اليساري “منرفزًا وموتورًا” خاصة إذا ما كان منتميًا إلى أحزاب وحركات تحرر وطني، فتكتشف أنه “مناضل سابق أو يساري سابق” إلى أن جعلته الثورة السورية أيضًا مثقفًا سابقًا ونخبويًا سابقًا في حالة تعبيره عن العشق والحنين للطغاة والاستبداد، ليستعيد ماضيًا يعيده إلى شرنقة النضال بعيدًا عن “غوغائية” الشارع.

لذلك، نجد حالة مذهلة في صمت أحزاب اليسار العربي عمّا يجري من مقتلة للشعب السوري، وانقلابًا على الثورات العربية، وحتى إطلالة البعض على منابر “الردح” الإعلامي العربي شامتة وشاتمة بمآلات المجتمع العربي، وبنظرة ازدراء وتهكم على “بروليتاريا وطليعية جماهيرية” متحولة إلى رجعية ومتآمرة على مجتمعاتها، تغيب التحليلات المتعلقة بعلاقة الطاغية مع الإمبريالية والبحث الحثيث عن الشرعية منها، يحضر الصمت المذهل لتحليل الصراع في حالة الأسد والموقف من ملايين الضحايا والعلاقة “المتأرنبة” مع “الصهيونية والإمبريالية”، والدعم غير المنقطع من “الرجعية” ورفضهم لتدخل الإمبريالية وتصفيقهم للقاتل الروسي وللتدخل المذهبي والطائفي.

رفاق الأمس الموسكوفيين العرب، يُمارسون كل قبح الشعبوية المتجلي في ارتدادات دينية ومذهبية وطائفية، بتقديم الولاء عند عتبات السفاح، يُجسّدون “النضال الأممي والروح الرفاقية” بالتلطي خلف فاشية متعددة العباءات، يُنصّبها البعض كوصيّ على اليسارية والعلمانية والقومية العربية، وعلى نحو فجّ وسافر تُقدم الولاءَ للقتلة وتعمق الفجوة مع الشارع، ولا تظهر في مواقعها الأساسية إلا ديكورًا لنيشان الديمقراطية، تتهافت نصرة للطغاة في سورية ومصر وتونس، وهي المتحولة من عجز وترهل مفضوح، قبل الثورة السورية إلى ماسحة دم السفاح في سورية وقائدة للثورات المضادة في أماكن “نضالية أخرى”.




المصدر