تجاذبات المقدس والسياسة قراءة في كتاب علم الدين عبد اللطيف- المقدس والدولة

7 آب (أغسطس - أوت)، 2017
9 minutes

دعد ديب

في حمى ارتفاع أصوات التهييج الطائفي واشتداد موجات الشقاقات المذهبية، كإحدى تجليات المشهد الإقليمي وتغول التصورات العدائية عن الآخر -الشريك في المكان- واستحضارًا لزمن بعيد بمشكلاته وإشكالاته، يبرز كتاب علم الدين عبد اللطيف (المقدس والدولة) الصادر عن دار الحوار 2016، ليعيد تفكيك تلك المنظومة الملتبسة للمقدس، وعلاقته بالظهورات المتعاقبة لأشكال السلطة السياسية، ويخترق أبواب المحرمات المسكوت عنها، من خلال بانوراما تاريخية عن العلاقة المتواشجة بين الدين والسياسة، بين السلطة والمقدس، باستدعائه تاريخية سيطرة الكنيسة على السلطة الزمنية، وتناقضاتها -منذ الإمبراطورية الرومانية بزعامة قسطنطين- حيث اتجهت إلى احتكار القداسة والسيطرة على الحكم معًا، ومن بعده الجرمان الذين أسقطوا حكم الرومان واعتنقوا الكاثوليكية وصاروا حماة المسيحية الجدد.

معرفة المقدس وعلاقته بالسلطة السياسية تتضمن احتواء الدين على المبادئ التالية:

1) الخارجية: حيث يستمد سلطته من خارجه.

2) المغايرة: البشر مدينون لوجودهم لغيرهم.

3) الانفصال: أي وجود فارق بين المجتمع والمبدأ المؤسس له.

فالكنيسة -كجهاز كهنوتي- كانت ذات تحالف تاريخي مع الإقطاع، وكان من الطبيعي إزاحتها من قبل البورجوازية الصاعدة وتمركز رأس المال، بخاصة بعد انتهاء الحروب الصليبية ونهب ثروات البلاد التي مرت فيها، وحرمانها من أي إمكانية للنمو والتطور.

ومع صعود مفهوم الدولة القومية وفكرة الأمة؛ حيث شكلت معاهدة (وستفاليا) نقطة تحول استثنائية للتوافق على الانتماء القومي، مقصيًا الديني منها، حيث شكلت اتفاقات الصلح والحرب نقاط تحول تاريخية، نظمت علاقة الفرد بالكنيسة، يحكمها الإقناع لا القوة، ومن ثَمّ تمّ فصل الدين عن الدولة، مرسخًا المداميك الأولى  للعلمانية؛ مما يؤدّي إلى منع اندلاع الحروب مجددًا، وفي الوقت ذاته هو اعتراف بدور النزاعات الدينية في الحروب، كستار للمصالح الاقتصادية من جهة، ولحشد القوة للحملات الاستعمارية، مثالها الحركة الصليبية التي اتجهت لاحتلال الموانئ الشامية والمصرية لأهميتها الاقتصادية بالدرجة الأولى، معتمدة على السيطرة المركّبة للسلطان والدين، وهما جناحا الحكم منذ فجر التاريخ.

نظرية الأمة كانت استجابة للنزعة القومية انطلقت في بدايتها عند الألمان، واعتمدت اللغة الألمانية كجامع قومي، ومقدس أول لحشد مريديها، كان هدفها الهيمنة على أوروبا قبل ألمانيا. ثم يعرج عبد اللطيف للحديث عن أشكال السلطة ما قبل الدولة في المشرق، حيث النشاط الاقتصادي هو المحرك الرئيس في التحولات التي أنتجت المدينة مرورًا بالأقوام، والممالك (ثمود، طسم، جديث، دلمون، ثمود، مدين) والتشكيلات السياسية التي سبقت ظهور الإسلام، وما المرحلة التي سميت بالعصر الجاهلي إلا إرهاصات للدولة الجديدة الناشئة، مثلتها حكومة الملأ التي جسدت شكل الزعامة الارستقراطية في مكة، منذ الجد الأول قصي ابن كلاب الذي انتبه مبكرًا إلى قضية المقدس وأهميته في مشروعه للدولة –ودار الندوة كانت البداية– كذلك الاهتمام بشعيرة الحج، لما فيها من التقاء القبائل وتسيير لأمور التجارة ولقاء منتسبي الأديان المختلفة. وكانت المصاهرة أسلوبًا بارزًا لتثبيت أركان الدولة والتحالفات السياسية، حيث هيّأت محيطًا يتنبأ بالدعوة (العرافة الكاهنة، سيف بن ذي يزن- أحد أحبار اليهود القارئين بالزبور، ناهيك عن الحلم الذي أتاه وهو يتحنث في الكعبة، كتوظيف للتأسيس للدولة الموعودة).

كما أفرد للحنيفية، بصفتها ظاهرة دينية تشابه الدعوة المحمدية في كثير من التفاصيل، ما شكل أرضية مهيئة لقبول الدين الجديد، لتخصيب المشروع السلطوي الجديد، أما لماذا لم ينضووا تحت راية المسيحية أو اليهودية -بالنسبة لقضية التوحيد كفكرة- فلأن ذلك يعني أن يسلموا الراية لغيرهم، وهذا غير منسجم مع فكرتهم في الدولة والسلطة.

والدعوة بحد ذاتها تحمل تفكيكًا للعلاقات القبلية السابقة، وتجاوزُ النبي للقبلية الدينية واحتواؤها هو إحدى نقاط تفوق رسالته عن الطروحات السابقة، ووقوفُ القبيلة ضده في البداية نوعٌ من قصور القبيلة عن رؤية القبيلة المدعمة بالعقيدة. والجديد الذي أتى به محمد، ولم يسبقه إليه أحد من أجداده، هو مفهوم الأمة وبناء دولة للعرب وأهمية اللغة العربية كجامعة للأمة؛ الأمر الذي أفضى إلى نشوء علوم اللغة وأنشأ جدالًا شديدًا -بعد حين من الزمن- حول خلق القرآن والمعتزلة وعلم الكلام مؤخرًا.

كما استعرض الكاتب في بعض الجوانب تنويعات لفكر ابن خلدون وآرائه في مقدمته عن الثالوث (عصبية- دين– ملك) المعبرة عن واقع لحقيقة قائمة، أكثر منها فرضية مؤسسة جديدة، وأفكاره بالنسبة لمفهوم الدولة، كتداول للسلطات يفيد القهر والاستئثار، لا كقيمة من قيم الحكم. ومن هنا جاء قوله (ما كان لامرئ أن ينافس قريشًا على الزعامة في جاهلية أو إسلام).

الدولة الإسلامية نشأت في المدينة، وقد ميزتها مركزية مكة على حساب الأطراف، وكل حالات الحراك تبدأ من الأطراف لتنتهي عند الفوز بالمركز؛ وذاك يفسر الانتقال اللاحق إلى دمشق في الدولة الأموية، ومن بعدها إلى بغداد في الدولة العباسية التي أكدت كلتاهما على ارتباطهما بالمقدس وفكرة الخلافة وتسمية أمير المؤمنين، على الرغم من بعدها عن الالتزام بالدين كقيم وتعاليم.

تمظهرات المقدس في الدولة القومية:

القومية العنصرية في ألمانيا، والجبهة الفاشية في إيطاليا، والتجربة الستالينية في روسيا، أرخت ظلالها على غالبية الأحزاب الوليدة في العالم الثالث، بصفتها الشمولية، لجهة إقصاء وتهميش شرائح وفئات كثيرة، مما أدى إلى موت السياسة كمفهوم مجتمعي وحلول نمط الأحزاب بديلًا عن دولة الشريعة، وقد لعبت الدور الإقصائي ذاته، وجاءت الحكومات الناشئة نتيجة لحالة سلفية امتصت الشريعة والدين في مضامينها، لأن الدولة المدنية مفهوم خاص بعلم الاجتماع والسياسة، وليس العلوم الفقهية، فطرح الأسئلة العلمانية وفصل الدين عن الدولة محاربٌ، باعتباره ثقافة مستوردة وبعيدة عن تقاليدنا وإرثنا، فالقومية -عند البعض- ليست سوى عباءة روحية تلتقي مع الدين وتتكئ عليه، في ازدواجية إحياء روح الأمة والجوهر التاريخي لها، في استحضار المقدس من حقل الدين والشريعة إلى حقل السياسة، كوسيلة  لدعم ومؤازرة الحكم؛ حيث الدول صاحبة الخطاب العلماني تمتلك في الحقيقة تيارين متناقضين، أولهما علني ورسمي، والثاني مستتر، لذلك، يأخذ السجال حول تعريف الأمة: هل هو سؤال متعلق بالحداثة وهل هذه الحداثة شمولية أم ليبرالية منفتحة على احتمالات المنافسة الدائمة في السياسة والاقتصاد والفكر؟ فالعقيدة ذاتها التي استخدمت لتثبيت سلطات الدولة، في أغلب البلدان الناشئة كـ “مصر- الهند” انقلبت على أصحابها انقلاب السحر على الساحر؛ حيث نمت كذلك فئات معارضة لها تستند إلى العقيدة ذاتها باعتمادها لنصوص مرجعية أخرى، وأتت بنتائج كارثية عليهم بإعادة مشروع الحاكمية الدينية، على حساب الفكر العلماني ذي التطبيق المشوه، مثال “مقتل السادات– أنديرا غاندي– بينظير بوتو” على أيدي المتطرفين.

فإعادة تفعيل الخطاب النهضوي من دون عصرنته أبقته أشبه بـ “نوستالجيا” فكرية، تقوم على التغني بأمجاد الماضي ومآثر التاريخ، بسبب تعارض الشريعة مع الدولة، لأن الشريعة تعتمد على سلطة الله مع من يمثله على الأرض، والمدنية تفترض حكمًا أرضيًا وواقعيًا ضمن احتياجات الواقع.

جهد متميز ومهم للباحث علم الدين عبد اللطيف لحساسية تطرقه للمسائل المسكوت عنها وإعادة إحياء دور العقل لا النقل، في قضايانا المعاصرة، لكون موضوعه واسعًا ومتشعبًا وقد يتحمل المزيد من الآراء والإضافات، لمواجهة المزيد من الصدامات الفكرية التي تواجه إنسان المنطقة؛ حيث التحدي القائم هو إقامة الدولة الوطنية التي تتمكن من إنجاز الهوية الوطنية، وإنتاج مفهوم المواطنة لكل أبنائها، كشرط للعقد الاجتماعي بينهم كافة، على اختلاف انتماءاتهم الأخرى.. فهل نكون على مستوى التحدي؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]