دور الأطماع الاقتصادية في تمسك بوتين بـ “نظام” الأسد


محمد محمد

ضرب بوتين عصافير كثيرة بـ “حجر” تدخّله في سورية. الأطماع الاقتصادية هدف من أهداف التدخّل، لكنه لا يحتل رأس هرم تلك الأهداف؛ فهو لا يضاهي هدف تحسين مكانة روسيا على الساحة الدولية لتصبح “دولة عظمى”، ولا يضارع هدف تحقيق حلم روسيا القديم، قيصرية كانت أم سوفييتية، بوضع قدميها في المياه الدافئة. غير أنه أعلى من مستوى جعل سورية مختبرًا لصناعتها العسكرية، ومعرضًا للترويج لعتادها الحربي. تتعاضد الأهداف الروسيّة وتعزز بعضها بعضًا، وتجمعها مصلحة عامة عليا متجسدة بضرورة توطيد ما أُنجز منها وجعلها مستدامة، واستكمال ما لم يتم إنجازه. تُشكّل المصالح والمنافع الاقتصادية التي حصلت عليها روسيا في سورية، حتى الآن، نموذجًا لما يُمكن أن تتعرض له مجمل المصالح الروسية في سورية من تحديات مستقبلية ومخاطر تواجه ديمومتها. يدرك بوتين ذلك جيدًا، لذلك يتمسك بشدة بصياغة “نظام سياسي” سوري، يشكّل ضمانة لحماية تلك المصالح على المدى البعيد. وبغير ذلك، كيف ستبقى القوات الروسية لمدة 49 عامًا قابلة للتمديد 25 عامًا، بموجب اتفاقية قاعدة حميميم، على سبيل المثال لا الحصر. فما أهم المكاسب الاقتصادية التي حصلت عليها روسيا، وما المخاطر التي يُمكن أن تعترض تثبيتها واستقرارها، وما الضمانات التي تجنبها احتمالات خسارة مكاسبها في سورية المستقبل.

أقام الأسد الأب علاقات اقتصادية متينة مع الاتحاد السوفيتي، وتابعها مع روسيا، بعد انهيار النظام السابق، بتوقيع اتفاق للتعاون التجاري والاقتصادي في عام 1993. واستمر الأسد الابن بتوطيد العلاقات التجارية والاقتصادية أكثر بين البلدين؛ فوقّع نحو 43 اتفاقية خلال زيارته إلى موسكو عام 2005، شملت مجالات عدة أهمها الصناعة والتجارة والدفاع والصحة والطاقة والري، وفي هذه الزيارة شطبت روسيا 73 بالمئة من ديونها المستحقة على سورية، أي 9.8 مليارات دولار من إجمالي الديون البالغة 13.4 مليار دولار، مقابل موافقة الأسد على تحويل قاعدة طرطوس إلى قاعدة عسكرية ثابتة للسفن الروسية.

بعد ثورة الحرية والكرامة، قدّم الأسد لروسيا المنافع الاقتصادية بمثابة مُغريات لحضها على زيادة دعمه بمواجهة الشعب الثائر. وقد أشار وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك إلى هذه الحقيقة، بقوله: إن “موسكو تسلمت طلبًا رسميًا من الجانب السوري للمساعدة في مشاريع استخراج النفط وتطوير البنى التحتية”. وتابع الوزير: إن “سورية ناشدت شركات النفط الروسية لمساعدتها في إعادة بناء البنية التحتية للطاقة”. وأكد نوفاك أن روسيا ستتعاون مع سورية من خلال شركات (زاروبيج نفط، ولوك أويل، وغازبروم نفط) وجاء حديث الوزير الروسي، في تصريح لوكالة (تاس) على هامش قمة روسيا – آسيان المنعقدة في سوتشي الروسية، في 20 أيار/ مايو 2017. كما قال عضو مجلس الاتحاد الروسي ديمتري سابلين: “إن النظام السوري أعلن أن الشركات الروسية ستكون لها أولوية الاستثمار في قطاعات النفط والغاز، وإعادة الإعمار في سورية”. ويتقاطع هذا الكلام مع تصريح رئيس حكومة الأسد السابق، وائل الحلقي لوكالة (نوفوستي) الروسية في 26 نيسان/ أبريل 2016، بأن الحكومة تنتظر مساعدة مالية من روسيا لتنفيذ مشاريع في مجالات الزراعة والطاقة، داعيًا الشركات الروسية للمشاركة بالمشاريع في قطاعات الطاقة، ومصافي البترول، والاتصالات والتنقيب عن النفط.

يُعدّ الاتفاق الضخم الشهير بـ (عقد عمريت) الأول من نوعه للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية، ويتضمن العقد إجراء عمليات المسح والتنقيب عن البترول في المنطقة الممتدة، من جنوب شاطئ مدينة طرطوس إلى محاذاة مدينة بانياس، بعمق عن الشاطئ يقدر بـ 70 كيلومترًا طولًا، وبمتوسط عرض 30 كيلومترًا، أي بمساحة إجمالية نحو 2190 كيلومترًا مربعًا، على أن يستمر لـمدة 25 عامًا. بكلفة تبلغ 100 مليون دولار. وعند استخراج النفط والغاز بكميات تجارية، تُسترَد النفقات من الإنتاج؛ وبموجب العقد، تكون الشركة الروسية مسؤولة عن تمويل جميع النفقات اللازمة لتنفيذ فعاليات العقد بمراحلها المتعددة. ويُشار إلى أن المنطقة مأمولة جدًا من الناحية الغازية، حيث يتراوح الاحتياطي فيها ما بين 200 إلى 250 مليار متر مكعب من الغاز، وهو ما يعادل كل الاحتياطي الاستراتيجي في اليابسة على الأرض السورية. وتطالب حكومة الأسد بالإسراع بخطوات التنقيب والاستكشاف، لتأمين قيم إضافية من الغاز والنفط.

كما تم توقيع مذكرة تعاون بين وزارة النفط والثروة المعدنية، مطلع عام 2017 وشركة (يوروبوليس) الروسية؛ تلتزم الشركة بموجبه بـ “تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي. ويدخل الاتفاق حيّز التنفيذ بعد إدخال تعديل قانوني في سورية، ينص بوضوح على أن تكاليف العمليات العسكرية اللازمة لا تندرج ضمن بنوده؛ ما يعني أنها ستُدفع بشكل منفصل. ومن الجدير بالذكر أن شركة (يوروبوليس) مملوكة من قبل رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين. ولم يُسجّل لهذه الشركة أي نشاط تجاري داخل روسيا من قبل غرفة التجارة الروسية، وأُسسَت قبل ستة أشهر فقط من تاريخ توقيع المذكرة مع حكومة الأسد، وهو ما يثير حولها شبهات بأنها أُسّست لأغراض خاصة، بحكم أن مالكها مُقرّب من بوتين، ويحظى بفرص استثمارية مجزية في مناطق الصراعات في كل من أوكرانيا وسورية. وهذا ما يُفسر إمكانية إقدام هذه الشركة على العمل في مناطق صراع ومواجهات عسكرية تحتاج إلى “جيش خاص”، كما هو الحال في ريف حمص ودير الزور، حيث توجد حقول النفط والغاز.

بالإضافة إلى النفط والغاز يأتي الاستثمار في الفوسفات؛ فقد تمت المصادقة في 23 نيسان/ أبريل 2017، رسميًا، على اتفاقية بين المؤسسة السورية للفوسفات والشركة الروسية (ستروي ترانس غاز)، بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ طرطوس للتصدير. وبدأت الشركة أعمال الصيانة لمناجم الفوسفات في “الشرقية وخنيفيس” قرب مدينة تدمر. وهي أكبر مناجم الفوسفات السوريّة، بإجمالي إنتاج يصل إلى 3.5 ملايين طن سنويًا، قبل عام 2011. وكان يُصدّر منها، حينذاك، نحو 3 ملايين طن، والباقي يذهب إلى مصنع الأسمدة في حمص، كما كانت سورية تُعدّ بين أكبر خمس دول مصدرة للفوسفات في العالم.

وكان رئيس حكومة الأسد الأسبق وائل الحلقي قال لوكالة (نوفوسيتي) الروسية، في 26 نيسان/ أبريل 2016، إنه تم التوصل مع الجانب الروسي إلى اتفاقية للحصول على التمويل اللازم لبناء محطة تشرين-3 الكهربائية قرب دمشق، دون الكشف عن قيمة الاتفاقية. إلا أن صحيفة (كوميرسانت) الروسية، ذكرت في تموز/ يوليو 2016، أن النظام السوري طلب من روسيا الاستثمار في مشروع المحطة بتكلفة قدرها مليار دولار. كما تم التوقيع على اتفاقيتين بقيمة 600 و250 مليون يورو، من أجل إصلاح البنى التحتية المُدَّمرة، بالإضافة إلى بناء محطات كهربائية وصوامع للحبوب، وقررت شركة (سوفوكريم) الروسية بناء أربع مطاحن للحبوب، بكلفة 70 مليون يورو، على أن تغطي الحكومة السورية تكاليف البناء.

وأخيرًا وليس آخرًا، وعد الأسد بفتح “الأسواق السورية أمام الشركات الروسية، لكي تأتي وتنضم وتلعب دورًا مهمًا في إعادة بناء سورية والاستثمار فيها”، خلال مقابلة مع وكالة (سبوتينك) الروسية في نيسان 2017. لذلك تُعد تلك العقود بمثابة “عقود إذعان” تُوقّع في ظل هيمنة؛ لأن تلك العقود تتم دون الإعلان عن مناقصات علنية مفتوحة لكل الشركات العالمية، لو صح أن هناك “دولة” ذات “سيادة”! كما يتبجح الأسد والروس والإيرانيون، لا أن يتم تخصيص روسيا بالنفط والغاز، وإيران بالكهرباء ومشاريع استثمارية أخرى ذات دورة رأسمال سريعة كالخليوي والعقارات.

تتوقف الآثار المستقبلية لهذا النهب الاقتصادي الروسي على صيغة “الحل السياسي” الذي سيُفرض على السوريين، وما سينجم عنه من طبيعة “الدولة” العتيدة و”نظامها السياسي”. وهذا ما يدركه بوتين ويعمل بموجبه؛ فهو يعمل على إعادة تأهيل النظام وعلى رأسه الأسد، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وإن لم يستطع الاحتفاظ برأس النظام فسيعمد إلى إعادة تأهيل النظام برأس جديد؛ وفي كلتا الحالتين سيكون النظام القادم نظامًا على شاكلة النظام الروسي، نظامًا أمنيًا تتحكم به سلطة تحالف الأجهزة الأمنية مع المافيات الاقتصادية والمالية. بهذا الحل ستستمر الهيمنة الروسية على سورية؛ وستصبح الحكومات السورية مُلزَمة بالوفاء بالتزامات سورية تجاه روسيا، بما فيها سداد الديون. وهذا يفترض أن الأمم المتحدة تكون قد أضفت شرعيتها على الحل الروسي، بما في ذلك شرعية النظام القديم الذي لم تُنزع شرعيته أصلًا. وبذلك يصبح القانون الدولي يحفظ “الحقوق” الروسية، ويُلزم الحكومات السورية بالالتزام بتعهداتها.

في هذه الحالة ستكون الآثار الاقتصادية والاجتماعية كارثية على المدى البعيد، وسيترحّم السوريون على أيام الانتداب الفرنسي الذي جعل البلاد سوقًا للمنتجات الفرنسية المُصنّعة، ومصدرًا للثروات الطبيعية السورية والمواد الخام الأولية. وسيُستنزَف الاقتصاد السوري باسترداد الديون، ويجعله عاجزًا عن بناء قاعدة إنتاجية سلعية، وسيُعوّق النمو الاقتصادي، وتصبح التنمية مستحيلة. غير أن هذا “الحل” -إن تحقق- سيقود إلى العنف والفوضى، ولن يُكتَب له العمر الطويل لأنه لن يستطيع تحقيق الاستقرار والسلام، وبالتالي الاستمرار والديمومة.

أما إذا لم يستطع بوتين فرض صيغته تلك للحل السياسي، بسبب معارضة الدول التي لا تزال تعلن بأنها صديقة الشعب السوري، وإذا فُرض حل آخر يفتح صيرورة جديدة تفضي إلى دولة ديمقراطية فسيكون هناك مصير ومستقبل آخر مختلف عما يريده النظام وحلفاؤه من روس وإيرانيين. وبعيدًا عن التبسيط والتفاؤل المُضلل والأوهام، فتلك الصيرورة المقصودة لن تكون عملية سهلة، ولن تسير سريعًا بخط مستقيم نحو العدالة في المدى القريب، وعلى الأرجح ستدخل صيرورة ولادة الدولة الديمقراطية بتعرجات معقدة، وستواجه عقبات وصعوبات وتحديات، لكنها قد تعطي بعض النتائج الأولية في المدى المتوسط.

في هذه الحالة الثانية، ومع وصول جرائم النظام للعدالة الدولية فسيتغير الوضع القانوني الدولي بالنسبة إلى ما جرى في سورية، فعلى سبيل المثال، يمكن إبطال الديون الروسية باعتبارها “ديون كريهة” أو “بغيضة”. وقد ظهر مصطلح “الديون الكريهة” لأول مرة في عام 1927 من قبل الوزير الروسي السابق، وأستاذ القانون في باريس ألكسندر ناحوم ساك. وبحسب قانون ساك، فإن “أي نظام استبدادي حصل على قرض، ولم يكن الهدف منه تلبية حاجات ومصالح الدولة، وإنما تقوية هذا النظام الاستبدادي وقمع السكان الذين يحاربون هذا الاستبداد، فإن هذا الدين يعتبر كريهًا، وهو غير ملزم للدولة، إنما هو محسوب على النظام المستبد باعتبارها ديونًا شخصية وبالتالي فهي تسقط بسقوطه”. ويشير القانون إلى أنّه يمكن لحكومة أن تتخلى على التزامات سابقتها؛ لأن هذه الديون لا تستوفي واحدة من الشروط التي تحدد شرعية الديون في كون أن المبالغ المقترضة باسم الدولة يجب أن تستخدم في تلبية حاجات ومصالح الدولة. وكذلك الأمر بالنسبة للاتفاقات والعقود المبرمة بعد سنة 2010، يمكن إعادة التفاوض حولها إذا تعذر إبطالها. والأمر لا يقتصر على الاتفاقات الاقتصادية، بل يشمل كافة الاتفاقات الأخرى العسكرية والأمنية والسياسية.




المصدر