رِسالتكمْ وصلتْ.. نَعِدَكُمْ بمتابعة طَرِيقنا نحو الحرّيةَ


ميشال شماس

لم يكن قرار إعدام باسل الصفدي قرارًا عاديًا أو اعتباطيًا، فمن قرّر اعتقاله وإحالة قضيته إلى محكمة الميدان العسكرية يعرف تمامًا ماذا يفعل، ويعرف أن يكتب الرسالة التي يريدنا أن نستوعبها من إعدام شخص يؤمن بالحرية ويناضل من أجلها مثل باسل الصفدي، وهي الرسالة ذاتها التي اعتاد النظام، منذ أن استولى الأسد الأب على السلطة عام 1970، على توجيهها بأشكال وأساليب مختلفة إلى السوريين، وهي تحمل مضمونًا وهدفًا واحدًا، هو عدم المساس بهيبة السلطة أو الاقتراب منها، واعتبار أنّ كلَّ فعلٍ، يتصل بحرّية الرأي والتعبير، هو فعلٌ ممنوع على السوريات والسوريين ممارسته أو حتى مقاربته بأي شكل من الأشكال، إلا بما يخدم السلطة ويعزز من سطوتها.

لقد اعتمد النظام اعتمادًا كلّيًا على أجهزته الأمنية في صياغة تلك الرسائل، ومنحها حرّية التصرف في طريقة إخراجها وتوجيهها وتنفيذها، حتى أصبح كل شيء في البلاد يخضع لرأي الأجهزة الأمنية وموافقتها أولًا وأخيرًا، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، كان النظام الحاكم يخشى -وما يزال- من وجود ضباط محبوبين في الجيش أو أجهزة الأمن من قبل عناصرهم في الوحدات العسكرية والأمنية؛ فيقرر إبعادهم عن مراكزهم ويجرّدهم من مسؤولياتهم ويضعهم في مراكز هامشية منعًا لنشوء أي قيادة في المستقبل قد تشكل خطرًا على النظام، والأمر نفسه ينطبق على المدرّسين والقضاة، إذ يتم نقل غير المرضيّ عنهم -أمنيًا- إلى أماكن أقل أهمية وأدنى مرتبة، هذا إذا لم يقرر اعتقالهم أو تسريحهم من أعمالهم، مثلما فعل -وما زال- مع العاملين في الدولة الذين يتعرضون للصرف من الخدمة لمجرد أنهم قالوا رأيًا يعارض لسياسة السلطة، وقد ارتفعت وتيرة قرارات الصرف من الخدمة بشكل ملحوظ، منذ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للنظام في آذار/ مارس 2011، بعد أن وجدت فيها السلطة أسلوبًا غير مكلف في إرهاب الناس وإبقائهم تحت ضغط الخوف من فقدان لقمة العيش، ولا يختلف الأمر مع المسؤولين في الدولة سواء أكانوا وزراء أم مديرين.. محافظين أم نوابًا أو حتى على مستوى عضوية النقابات والاتحادات والجمعيات الأهلية، فإن وُجد في أيّ مكانٍ شخصٌ ما، يتمتع بكاريزما قيادية ويحبّه مَن حوله؛ فإن الأجهزة الأمنية تسارع إلى نشر أخبار ملفقة عنه لتشويه سمعته أمام الناس. أمّا منْ ينشط وينتقد سياسة السلطة وسلوكها تجاه المواطنين، ويدعو إلى احترام كرامات الناس وحرياتهم وضمان حرّية العمل السياسي والنقابي والصحفي.. إلخ؛ فإن موقف النظام منه يتخذ أشكالًا وأنواعًا مختلفة من العقاب، تبدأ أولًا بالاستدعاءات الأمنية المتكررة والتهديد المباشر لحياته، وصولًا إلى اعتقاله وسجنه فترات طويلة، والإيعاز للأبواق الإعلامية بشن عملية تشهير واسعة ضده تنال من سمعته وشرفه وتطعن بوطنيته، لمنع أي تعاطف معه، وتحريض أقربائه عليه لمقاطعته ونبذه، هذا إذا لم يقرر إحالته إلى محكمة ميدانية تصدر بحقه حكمًا بالإعدام، في محاكمة هزلية تفتقر إلى الحد الأدنى لمعايير المحاكمات الدولية العادلة، أو قتله تحت التعذيب والادعاء بأنه توفي بسبب تعرضه لأزمة قلبية أو جلطة دماغية.

الرسالة التي وصلتنا، من خلال إعدام المبدع باسل الصفدي، لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة التي يرسلها النظام إلى جميع السوريين، وهي أكثر من أن تُعدّ أو تحصى، والقاسم المشترك بينها جميعًا هو قتل حلم السوريين وطموحهم نحو الحرية، فقد قُتل قبل ذلك غياث مطر ومعن العودات وباسل شحادة. والمحامون: عماد الدروبي وعبد الهادي عوض ومعن الغنيمي وبرهان سقال. والفنانون التشكيليون: أكرم رسلان وفادي مراد ووائل قسطون. والقائمة تطول وتطول حتى باتت تحتاج إلى كتب ومجلدات لتوثيقها.

نعم الرسالة وصلت، وهي مناسبة لنتذكر المعاناة الهائلة التي يعيشها عشرات الآلاف من المعتقلين في زنازين ونظام الأسد وسجونه، يواجهون التعذيب اليومي وسوء المعاملة إلى حد جعلهم يتمنون الموت في كل لحظة، وهي مناسبة لاعتبار تلك الأفعال بمثابة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وللتذكير أيضًا بأن تطبيق العدالة الانتقالية، بعد إصلاح نظام العدالة في سورية، شرط أساس لنجاح أي حل سياسي للمأساة السورية، كإطلاق سراح المعتقلين والتعويض على المتضررين وتكريم الضحايا ومحاسبة جميع الجناة الذين أجرموا بحق الشعب السوري، والنقطة الأكثر أهمية وإلحاحًا -في المرحلة الحالية- هي العمل سريعًا على ضرورة قيام مراقبين دوليين مستقلين، ومنحهم إمكانية الوصول إلى كافة مراكز الاحتجاز في سورية.

نعم الرسالة وصلتْ، لكن السؤال الكبير المطروح أمامنا اليوم هو: هل سيستطيع النظام، بعد كل هذه الرسائل الدموية التي سفكها، إجبارَ السوريين على التقيد بمضمون رسائله الدموية؟

الجواب الطبيعي والمنطقي: لا، لا، لا. لن يستطيع إكراه السوريين مجددًا، وهم الذين لم يستكينوا لحظة واحدة عن المطالبة بحريتهم وكرامتهم، على الرغم من كل رسائله القاتلة حتى في أوج بطشه وسطوته؛ فالدماء التي سفكت على امتداد التراب السوري لن تذهب سدى، وستزهر حريةً، مهما طال الزمن.

في الختام، نقول: بالرغم من حجم الخسارة الهائلة بفقدان هؤلاء الأحبة، وما تركه رحليهم المفجع من أثر مؤلم وعميق في نفوسنا، إلا أن أعمالهم ونضالاتهم وتضحياتهم الجليلة ستبقى على الدوام في ذاكرة السوريين والأحرار في هذا العالم، كمنارة ورمز للشجاعة والنضال السلمي من أجل الحرية حتى النهاية.




المصدر