نيو يورك تايمز: رأي من الكرملين: البقاء على قيد الحياة دارويني


أحمد عيشة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتشمس خلال إجازته الأسبوع الماضي، في منطقة توفا النائية في جنوب سيبيريا. أليكسي نيكولسكي/ وكالة الصحافة الفرنسية – صور جيتي

في خطوةٍ نادرة من الحزبين، صوَّتَ كونغرس الولايات المتحدة على تكثيف العقوبات ضد روسيا، ووقّع الرئيس ترامب عليها لتتحوّل إلى قانون. وحتى قبل أنْ يوقّع الرئيس الأميركي على القانون الأسبوع الماضي، ردَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمطالبة إبعاد مئات الأميركيين، والروس من موظفي البعثات الدبلوماسية الأميركية في روسيا.

وقد اعتبر السيد بوتين تحويلَ الولايات المتحدة قائمة العقوبات المؤلمة بالفعل من مرسومٍ رئاسي يمكن التراجع عنه بسهولةٍ إلى قانونٍ سيكون من المستحيل إلغاؤه في أيّ وقتٍ قريب -نتيجةً مؤسفة لسياسةٍ اعتمدها الكرملين على أمل رفع العقوبات تمامًا.

في الواقع، أجلَّتْ موسكو تهديدًا مبكرًا بردٍّ مماثل، عندما قام الرئيس باراك أوباما، في عام 2016 بتطوير العقوبات ردًّا على الدلائل التي تفيد بأنَّ القراصنة الروس قد تدخلوا في الانتخابات الأميركية لمساعدة السيد ترامب. ومع بدء رئاسة ترامب، كان السيد بوتين، ينتظر تحسنًا محتملًا في العلاقات الروسية الأميركية. ولكن الآن، المصدر الوحيد الذي يمكن تصوره لهذه الآمال، وهو السيد ترامب نفسه، غير سالمٍ من الاتهامات.

لذلك، لم يترك الانهيار المفاجئ للسيد بوتين أيّ خيار سوى الانتقام. في يوم الأربعاء 2 آب/ أغسطس، خفف الكرملين من الصدمة قليلًا بقوله: إنّه لن ينتقم أكثر من الإجراءات التي أعلن عنها للتو. ولكن هذا ما يزال مفارقة: بينما كانت أيدي السيد ترامب في تنفيذ سياسة روسية مقيّدة من الكونغرس، تُرك السيد بوتين حرًا ليُجرب.

من المؤكّد أنَّ أميركا يمكن أن تسببَ ألمًا اقتصاديًّا أكثر مما يمكن أن تسببه روسيا لأميركا، ولكن التجربة الأخيرة تظهر أنّ روسيا لا تدع الكوارث تقلقها. بدلًا من ذلك، فإنها غالبًا ما تطلق العنان لإبداعٍ ناتج من اليأس، وبدلًا من القبول بكونها محاصرةً في السياسة الخارجية عديمة الأفق.

هناك طريقة أخرى للقول إنَّ الكرملين يقوم بخطواتٍ سياسة جذرية عندما يحين الوقت، بتحفيز من اللحظة، غالبًا ما يجد السيد بوتين حركةً بهلوانية جديدة يقوم بها.

كان ضمُّ القرم في آذار/ مارس 2014 خطوةً من هذا القبيل. كانت الكارثة بعدئذ، انهيار الائتلاف السياسي المدعوم من روسيا، والذي كان يحكم أوكرانيا منذ منتصف الألفية، وقبل ذلك، زاد الكرملين من ضغطه على الرئيس الأوكراني في ذلك الوقت، فيكتور يانوكوفيتش، الذي واجه بعد ذلك مقاومةً أكثر -وأخيرًا الإطاحة- من قِبل الأوكرانيين.

وقد يكون أحد أسباب سلوك الكرملين اعتقاده القوي بأنَّ أيّ حركةٍ شعبية لديها إمكانات “تطوير نوعي”، وهي نظرة صوّرت المقاومة الأوكرانية للسيد يانوكوفيتش كإجراء حربٍ سياسية عالمية، حيث يستخدم الغرب أوكرانيين ضدَّ موسكو.

وكان ردّ الكرملين توبيخيًّا؛ إذ إنه لم يحاول بناء جسورٍ مع المجتمع الأوكراني، أو حكومته الجديدة، وبعبارةٍ أخرى، لم يتعامل بوتين مع رده على الأوكرانيين بقدر ما كان يستجيب لتحدٍّ استراتيجي من “الغرب”. وكانت خطوته مصممة لإلحاق الأذى ببنيةٍ أمنية يرعاها الغرب في أوروبا، وبضامنها ذي المعايير المزدوجة: الولايات المتحدة.

في سورية أيضًا، لم تستجب موسكو إلى حدٍّ كبير لتلك الدولة الصغيرة المقسمة كما استجابت للغرب. هذه الخطوة لبطلٍ محكوم بالجغرافيا السياسية، ليست أكثر من مجرد دخول متأخر لفاعلٍ جديد في الحالة الإقليمية. في عام 2015، أصبح من الواضح أنَّ سياسة روسيا في سورية تفشل؛ وأنَّ نظام حليفه بشار الأسد كان على وشك الانهيار. ولأن تفكير الكرملين يتوسع، لم تكن موسكو التي فشلت سياساتها؛ بل الولايات المتحدة، والمقربون منها الذين كانوا يستعدون لخطأ آخر مثل ما حدث في ليبيا، لقتل الحاكم العلماني الذي من شأنه أن يفتح البوابات لجميع أنواع القوى الخطرة الجديدة.

لقد عارض السيد بوتين منذ فترةٍ طويلة سياسات التدخل الغربية، وفسّر العديد من الأزمات السياسية في العالم باعتبارها عمليات تغيير نظامٍ يرعاه الغرب. لذلك فإنَّ زوال حليفه كان يمكن أن يكون هزيمةً شخصية لرؤيته العالمية. هذا هو السبب في أنَّ التدخل العسكري الروسي في سورية، بدءًا من أيلول/ سبتمبر 2015، لم يكن -من وجهة نظر موسكو- حول سورية المناسبة؛ بل كان معارضة روسيا للغرب. وبينما تحاول الولايات المتحدة التعامل مع روسيا بشكلٍ مباشر، فإن روسيا ترى نفسها تتعامل مع مؤامرةٍ عالمية تقودها واشنطن.

العقوبات التي تمت الموافقة عليها، في الأسبوع الماضي، كارثةٌ جديدة تتناسب مع فشل سياسات روسيا الأوكرانية السابقة، أو سياساتها في سورية، وفي كليهما موسكو تتصرف إلى حد ما بردودٍ مفاجأة تهين الغرب.

ولكنْ هذه المرة، المواجهة أكثر مبدئية، وفي نظر الأميركيين، أقرب بكثير إلى بلدهم. موسكو متهمةٌ بمحاولة اختراق أو التأثير ليس فقط على مجموعةٍ من أجهزة الحواسيب، ولكن على منصب رئيس الولايات المتحدة نفسها. ما زلت غير واثقٍ بشأن الكرملين إنْ كان قد حاول حقًا التدخل في خضم العملية الانتخابية الأميركية، ولكن ليس هناك شكٌ في أنَّ موسكو استثمرت بشكلٍ كبير في نتائج انتخابات 2016. كان ينظر إلى هيلاري كلينتون في موسكو كمحرضٍ على محاولة استخدام الانتخابات البرلمانية في روسيا عام ،2011 للإطاحة بنظام السيد بوتين. ومهما عملت موسكو من محاولاتٍ لعرقلة الانتخابات الأميركية، ففي رأي موسكو، هو معاملةٌ بالمثل، إنه الشيء المعتاد الذي ستفعله أيّ قوةٍ عالمية تحترم نفسها تجاه المتآمرين الأجانب.

سلّطت محادثة شاركتُ، فيها في مؤخرًا، الضوءَ على هذه القضايا، وأحضرت، على الأقل في ذهني، منظورًا تاريخيًا لرؤية السيد بوتين، مع المؤرخ تيموثي سنايدر، مؤلف كتاب (حول الطغيان: عشرون درسًا من القرن العشرين)، كنا نناقش الحساسيات السياسية، والاقتصادية التي كان الحكام السوفييت يعانون منها، عند استيلائهم على مجتمعات شرق أوروبا ووسطها، بعد الحرب العالمية الثانية.

قدم السيد سنايدر الأمرَ بهذه الطريقة، مشيرًا إلى الشرطة السياسية السوفيتية: “عندما يصل عناصر مفوضية الشعب للشؤون الداخلية (N.K.V.D) إلى شرق بولونيا، فإنَّ جوهر تقاريرهم إلى موسكو هو شيءٌ من هذا القبيل: “لقد وجدنا بعض البولونيين، ولقد وجدنا بعض الأوكرانيين، وهم جزءٌ من المؤامرة نفسها، تحركهم الرأسمالية الدولية، ويأخذون الأوامر من البريطانيين”. الآن، كلُّ ذلك كان غير صحيح تمامًا. البريطانيون ليسوا مسؤولين، والبولونيون والأوكرانيين يقاتلون ضد بعضهم البعض، والمجموعات المختلفة التي تواجهها مفوضية الشعب للشؤون الداخلية (N.K.V.D.) لها أهداف مختلفة، وغير متوافقة عادة.

“ولكن الشيء المهم” -يتابع السيد سنايدر- “هو أنَّ الأيديولوجية التي تعطي المفوضية المذكورة، اليقين بشأن ما يرونه، والثقة حول ما سوف يفعلونه، هي اختراق، وتدمير تلك الجماعات. لذلك، يمكنك أن تكون خاطئًا تمامًا، ويمكنك أن تكون فعالًا”.

على الرغم من أنَّ الأيديولوجية الرسمية ماتت منذ فترة طويلة، وقد لا نعرف أبدًا بالضبط النظريات التي يلتزم بها الكرملين في هذه الأيام، ولكننا قد نكون على يقين من أنّ لديه الثقة الكاملة في افتراضاته. في الواقع، قد يكون السيد بوتين على حقٍ حول أشياء كثيرة. لا مكانَ في العلاقات الدولية للأخلاقيين. العديد من المشاريع السياسية، والأعمال التجارية والعسكرية لها فهم عالمي، وهي تنافسية بطبيعتها. ولكنَّ المشكلة مع أسلوب مقاربته، في تشكيلة الكرملين، يبدو أنّها تساوي بين المنافسة الدولية، والكفاح الدارويني من أجل البقاء.

إنَّ تهور خطوات موسكو، لا بدّ أنها مدفوعةٌ بشعور تهديدٍ وجودي. وقد يتنافس العديد من بلدان العالم على الهيمنة على أسواقٍ معينة، وعلى نفوذٍ سياسي، ولكن روسيا تتميز بأنها تكافح من أجل البقاء في حالاتٍ وجودية.

هذا، بالنسبة إليّ، بمثابة شرح لماذا موسكو غالبًا ما تبرز باعتبارها واحدة من أكثر الجهات الفاعلة في العالم التي لا يمكن التنبؤ بها. حيث يتحمّل الشعب الروسي معظم هذه التكاليف، وبشكلٍ غير مباشر، معظم الدول الأخرى، ولا سيما البلدان المجاورة لروسيا، لأنَّ ثمن عدم اليقين المستمر هو الإنفاق العسكري الباهظ التكلفة، والتهديدات المتزايدة للسلام والازدهار.

اسم المقالة الأصلي The View from the Kremlin: Survival Is Darwinian الكاتب مكسيم ترودوليوبوف،Maxim Trudolybov مكان النشر وتاريخه نيو يورك تايمز، The New York Times، 6/8 رابط المقالة https://www.nytimes.com/2017/08/06/opinion/contributors/putin-kremlin-trump-sanctions-survival.html ترجمة أحمد عيشة




المصدر