أسمائي بين المشفى والأبدية


مصطفى تاج الدين الموسى

أتذكر أن السيارة التي حطمتْ حياة صديقي، هي ذاتها التي نقلتْ ما تبقى من حياتي إلى هنا.

كأشباحٍ نتمشى نحن -المرضى والمصابين- في هذه الممرات الضيقة، مستندين على الجدران أحيانًا، وأحيانًا على أعمدة السيروم.

يمرُّ بيننا العجوز بعربته المعدنيّة، لا أحد منا يأخذ حصته من الطعام المطبوخ بشكلٍ سيئ فوق عربته، بينما ملاك الموت يغفو قليلًا في تلك الزاوية، لينال قسطًا من الراحة، قبل أن يرجع ليكنسنا كـ بقايا بشر.

على كلّ سريرٍ ثمّة مريضٌ يتأمل في خيالاته مشاهد من فيلم حياته، تأتي اللقطات بشكلٍ عشوائي، وكأنّها لأحد المخرجين الهواة، وحده مريض السرطان، بعد الجرعة الكيماوية الثالثة، يعيد توضيب مشاهد من حياته في خيالاته كـ مخرجٍ سينمائي محترف.

الممرض المناوب الذي لا يحب السينما، يوزع -قبل منتصف الليل- على المرضى الأدوية بلا مبالاة، ثمَّ يمضي إلى غرفته ليداعب خلف بابها نهديّ الممرضة المناوبة.

يومًا ما، زوجة هذا الممرض وزوج هذه الممرضة، سوف يأتيان إلى هذا المشفى كـ بقايا بشر، لينتجا في خيالاتهما فوق هذه الأسرة المخلخلة، أفلام حبٍّ لم يعيشاها أبدًا.

يجلس جانبي ملاك الموت على سريري، فأشعل له سيجارة. هو يعبُّ منها بهدوء وأنا أنفثُ دخانها من أنفي ببطء، هذا ما سماه كارل ماركس بـ (تقسيم العمل).. على ما أظن، والله أعلم.

المريض عن يميني بيده سبحة طويلة، يعدُّ على حبّاتها أسماء الله الحسنى، تنتهي أسماء الله، ولا تنتهي أوجاعه.

في دورة المياه شربتُ زجاجة نبيذٍ رخيص، علّني أتحمل أوجاعي، ثمَّ رجعتُ وأنا أترنح.. سرقتُ السبحة من اليد الباردة لجاري الميت منذ دقائق.

على سريري وتحت الغطاء الرث، رحتُ أعدّ وأعدّ على حبّاتها وأنا أهذي، انتهتْ أوجاع الله الحسنى، ولم تنتهِ أسمائي.

في المشفى تصير دورات المياه كابوسًا بشعًا للمرضى، كلّما مرُّوا من أمام المرايا الصغيرة فوق المغاسل، لا يشاهدون أنفسهم.

مساء البارحة، رسمتُ بشكلٍ هستيري وجهًا يشبه وجهي على كل هذه المرايا، بقلم أحمر شفاه أخذته من حبيبة قديمة كذكرى، وكان أن أرعبتُ وأربكتُ العشرات والعشرات من العابرين في بهو المشفى، عندما صرختُ بحنق أمام صورته الكبيرة.

لا أحد يبتسم هنا إطلاقًا: لا المرضى ولا زوارهم، لا الأطباء ولا الممرضون ولا الممرضات، لا الطباخ العجوز ولا أنا ولا ملاك الموت، ولا حتى عمود السيروم.

وحده فقط.. داخل صورته الكبيرة والمعلقة في بهو المشفى، يبتسم.

– بكم كيلو الابتسامات هذا اليوم، يا سيادة الزعيم؟

لم يجب، بينما العشرات يبتعدون عنّي في البهو مع شهقاتهم الخافتة.

خرجتُ من هنا على عكازين، أنا وما تبقى من أسمائي، لأرجع إلى حارتنا وأراقب -لعامٍ ونصف- من شرفة بيتي المظاهرات في الشارع، ثمَّ القذائف وهي تدمّر البيوت.

وفي الليل أمارس هوايتي في كتابة القصص القصيرة جدًا، عن الحرب والقتلى والعسكر وأوجاعي، وعن ابنة جيراننا الجميلة.

هذا ما حدث لي حرفيًا، وأنا على مشارف أبديتي.

تمامًا -ومثلما كنت أتخيل كل ليلة بعد أن خرجتُ من المشفى منذ عامٍ ونصف- ذبحونا على عجل.

ليلة البارحة داهمتْ قطعان العسكر حارتنا، لتجمعنا بسرعة في ساحتها الصغيرة، وكنا عائلات قليلة.. فأغلب عائلات حارتنا نزحتْ منذ زمن.

وبعد أن جمعونا شرعوا بذبحنا بسكاكينهم وسواطيرهم وهم يقهقهون.

ثمّة عسكريٌ زعق بوجهي:

– “قصص قصيرة جدًا؟! والله، لأقطعك إلى قطع صغيرة جدًا”.

ثمَّ هوى بفأسه عليّ.

بعد أن تأكدوا من موتنا، مسحوا دماءنا عن أكفهم بتقزّز، ثمَّ ركبوا سياراتهم ومضوا تاركين خلفهم جثثنا وأشلاءنا.

سكان الحارة المجاورة تسلّلوا بهدوءٍ نحونا، بعد أن اطمأنوا لذهاب العسكر، جمعوا جثثنا وأشلاءنا، ثمَّ حفروا قبورًا متواضعة ليدفنونا فيها -كيفما اتفق- في عتمة الليل.

طبعًا، كل الشكر لهم، أتعبناهم معنا.. لكن للأسف، وبسبب عدم وجود معرفة جيدة بيننا، وعدم امتلاكهم لأدوات قياس، ثمّة أخطاء عديدة ولخبطات كوميدية حدثتْ خلال الدفن.

فبعض الأشلاء دفنتْ مع جثث غير جثثها، ليختلط حابل الأشلاء بنابل الجثث.

وبهذا، صار في كل قبر ٍبقايا أكثر من إنسان، وكأنه طقم ثياب غير متجانس قام بتجميعه شخص، لا يفقه بأصول وفنون الأناقة.

أنا مثلًا.. بعد أن دفنتُ التفتُ إلى يدي المقطوعة.. شهقت، فاليد الممددة إلى جواري لم تكن يدي، أعرف جيدًا يدي (عشرة عمر).

إلا أنني سرعان ما فرحتُ عندما اكتشفتُ أن هذه اليد هي يد ابنة جيراننا، تلك الفتاة التي سحرتْ -لسنواتٍ- كل شباب الحارة بجمالها، وكانتْ قد ذبحتْ هي وأهلها معنا.

سعادتي كانت أوسع من قبري هذا، لطالما حلمتُ بيد هذه الجميلة، يدها الرقيقة كانت دائمًا حلمي الوردي.

انحنيتُ إليها واستنشقتها بفرح، دختُ قليلًا. كأنّ ابنة جيراننا آخر شيء فعلته في حياتها هو أنها قد تعطرتْ.

قبّلتها بلطف. كم هي ناعمة يدها، وبلا ملل قبلتها كثيرًا، وأنا أتخيل أن يدي الآن موجودة في قبر تلك الجميلة تسند عليها وجهها، كما كانت تفعل على شرفتها، عندما كنا في الحياة.

بدأتْ أبديتي، وأنا منهمكٌ بحبّ في تقبيل يدها، شبه مخمور.

وحدها فقط قبلاتي الرقيقة على يدها الناعمة، ولا شيء آخر.. كانت إجاباتي الوحيدة على الأسئلة المتكررة لهذين الملاكين.




المصدر