أعمال جميلة مرمية على قارعة الطريق


سميح العوام

ظهرت فكرة الملتقى منذ زمن أفلاطون، وارتقت من مستوى الطعام والشراب المباح وغير المباح، إلى مستوى أكثر احترامًا من خلال عرض إسهامات المفكرين، ومشاركات المبدعين.

وظلت المسألة تتأرجح، بين هذين المستويين، عبر قرون عدة، إلى أن حسم أمر كلمة “الملتقى” في القرن التاسع عشر، حيث انتهى المعنى الاجتماعي الأول عند الإنجليزي الذين فضلوا أن يفهموا الكلمة في معناها الثاني (أي بوصفها منتدى يجتمع إليه الخاصة ومن إليهم، وفق جدول أعمال محدد من حيث البنود، ومنظم من حيث التوقيت والترتيب).

ومن هنا برزت فكرة الملتقيات النحتية عامة، كحاجة لتبادل الأفكار، وتزيين الساحات، والحدائق، وشوارع المدن، بالأعمال الفنية، كشاهد على ثقافة العصر، ولتكون فرصة لتلاقي الفنانين من دول شتى، تختلف ثقافاتهم، وعاداتهم، وتربيتهم، وتصبح بذلك مجالات رحبة لتبادل الخبرات؛ فيعبّر كل منهم عن أفكاره، ورؤاه في بلاد غير بلاده، فيتحقق للملتقيات مدى واسع، يقول فيها الناس قولهم، من كتّاب وفنانين ومعلمين وحرفيين وغيرهم، وينحصر بعد هذا دور الجهات المنظمة، ليتلخص فقط بتأمين حاجيات الملتقيات، ولوازم الإنتاج، وتعريف الضيوف بالبلد المضيف، وطبيعته.

ولقد كان “ملتقى السويداء الدولي للنحت” نموذجًا، وفرصة لإعادة البريق لخامة البازلت التي عملت عليها الأقوام التي سكنت المنطقة الجنوبية من رومان وأنباط وغيرهم. فلقد عمل الفنانون على المادة، وصبوا أفكارهم بما يتلاءم مع قساوتها، وطبيعة الأدوات، والعُدد التي يعملون بها.

لقد كان الاحتضان الشعبي لتظاهرة ملتقى النحت ملفتًا، ومثيرًا للتشجيع، ويعبر عن ثقافة الناس -بعامة- وتطور ثقافتهم البصرية التي تهوى الجمال، فلم يكن بد من الاهتمام الرسمي بالتظاهرة لهذا السبب.

ونستطيع القول: إنه أقيمت ملتقيات نحتية في المنطقة العربية كلبنان ومصر، وأقيم في سورية -في الفترة الأخيرة- ملتقيات جيدة، كملتقى قلعة دمشق، وقرى الديماس، والملاجة، ومهرجان المحبة باللاذقية، ومشتى الحلو، وغيرها. وإذا أخذنا ملتقى السويداء الدولي للنحت على مادة البازلت بدوراته الثلاث، فقد كانت الدورة الأولى عام 2008، وشارك فيها الفنان الكويتي سامي محمد كضيف شرف، وعلى الطخيس- السعودية، وداريوش كوفالسكي- رومانيا، جانين كوارتز- ألمانيا، قيفيان البتانوني طاهر شيخ الحكماء- إيران، ومن سورية، بطرس الرمحين، ربيع الأخرس، فؤاد أبو عساف، مجيد جمول، نزيه الهجري، إحسان العر، غازي عانا، محمد بعاجانو، أكثم عبد الحميد، هيفاء عبد الحي، فؤاد نعيم. وفي العام 2009 جو كلى- ألمانيا، خورخي روميرو- الأرجنتين، فان هوان- فيتنام، جيل فيتالوني- فرنسا، داريوش كوفالسكي، أحمد أمين- العراق، فوميتا كاكودو- اليابان، خالد فرحان-البحرين، تيريزا كوفالسكي- رومانيا، يوسف المليفي- الكويت. ومن سورية، أنور رشيد، جدعان قرضاب، سمير رحمة، فؤاد أبو عساف، فؤاد نعيم، يحيى سريوي، إحسان العر، محمد ميرا، وطلاب كلية الفنون الثانية. أما الثالث 2010 فقد شارك فيه كضيف شرف الفنان آدم حنين- مصر، سوزان باوكر- ألمانيا، محمد أبو لحية- الإمارات، سونغل تلك شادي داود- الأردن، فالنتينا دستوفسكايا- روسيا، لورانس بيك- أستراليا، هنا ماريا- رومانيا. ومن سورية: عادل خضر، إبراهيم عواد، نجود الشومري، سعد شوقي، إياد دوارة، مصطفى علي، وائل دهان، صفوان شرف الدين، كمال أبو سعدة، مسعد رضوان، غازي عانا. وقد كان نموذجًا للاحتضان الشعبي، حيث عبر أهل المنطقة عن حبهم وتعاطفهم وتشجيعهم للتظاهرة التي تعنيهم، وما إن أعلن عن فكرة الملتقى، حتى أبدى بعض الناس استعدادهم للتكفل بجزء من التكلفة، قبل بداية الملتقى بعام تقريبًا، وبعضهم أعلن أنه يهب الملتقى قطعة أرض هبةً، كي يقام عليها كل عام. ولقد كان الفلاحون نموذجًا حيًا للتشجيع، فما مرّ هؤلاء الفلاحون بطريقهم إلى حقله مرورًا عاديًا، بل ترجل وعبّر عن حبه، وقدم خيرات حقله للفنانين المشاركين، وتبادل معهم الحوار والحديث. وليس هذا فحسب، فقد قصد الناس المكان عينه للزيارة، ولم يأت أحد إلى الملتقى، دون أن يعبر بما هو أكثر من الكلام، عن نبضه الحي اتجاه هذا الفن، ولم تمض لحظة لم يشعر المشاركون فيها بأنهم ضيوف استثنائيون، وهذا ما دعاهم إلى تطوير أعمالهم التي كانوا يعملون عليها، لتكون تعبيرًا عن حبهم، وليس تعبيرًا عن مشاركة عادية في تظاهرة نحتية.

وقد لفت المشاركين -أيضًا- أنهم كانوا يتلقون التحية كل عام، من شيخ العقل آنذاك المرحوم أحمد الهجري الذي كان يزور الملتقى تعبيرًا عن دعمه للتظاهرة، ولم يكتف بمجرد الدعم، ولكنه دعا الشركات التي يفترض أن ترعى الملتقى، كي تسانده باعتباره عملًا وطنيًا، فدعمه ورعايته أمر واجب، وكان هذا قرارًا وجدانيًا وطنيًا لا نقاش فيه، بخلاف الرسميين الذين من المفترض أن يكونوا رعاة وداعمين ومتابعين لهذا النوع من النشاط الذي يتجاوز هدف تزيين الساحات، ليرسخ هوية المكان الثقافية والسياسية والفنية، وتفاعله مع هذا الفن الذي يحارب في بعـض البلدان.

لقد قبل كثير من المسؤولين في السويداء على أنفسهم، محاربة الملتقى، مرة علنًا ومرة سرًا، ولغايات عدة، رخيصة في أكثرها. فمنهم من أعلن التزامه بتغطية بعض تكاليف الملتقى، وانسحب من التزامه قبل بدئه بأيام، لكي يغرق بالديون ويفشل، وهكذا يتوقف هذا الملتقى الدولي الذي أضاء على مادة البازلت، الوحيدة المتبقية من أيام الرومان وغيرهم! وهنا نتساءل: كيف يرضى المسؤولون برؤية نتاج الملتقيات التي أنجزها خيرة فناني العالم، مرمية ومهملة في زاوية مهملة، أمام فرع حزب البعث!؟ في الوقت الذي كانوا يتراكضون لافتتاح ملتقيات نحتية جديدة في المحافظة، بحماس شديد!؟ هل كان ذلك بسبب تعطشهم للظهور على وسائل الإعلام لدقيقة واحدة، غير مبالين بما أنتج سابقًا أو لاحقًا، من أعمال يجب أن توضع في مكانها المناسب! لقد بقيت الهوة عصية على التصديق لدى اللجنة المنظمة، بين دعم الأهالي وحماسهم للظاهرة، ومحاربتها من قبل بعض المسؤولين، في الوقت الذي ضرب فيه البعض أمثلة واضحة على الدعم، ولكن الحال بقي كما هو: (أعمال جميلة مرمية على قارعة الطريق).




المصدر