المسألة السورية على مفترق طرق حاسم


مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات

مقدمة

أولًا: لقاء الرياض والخيبة

ثانيًا: التطور العسكري

ثالثًا: التطور السياسي

رابعًا: العمل المطلوب

خامسًا: خاتمة

 

مقدمة

في الثالث من شهر آب/ أغسطس الجاري، التقى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، بـوفد (الهيئة العليا للمفاوضات) التابعة للمعارضة السورية، لقاء سيكون- في الغالب- نقطة تحوّل مفصلية في مسار القضية السورية، ليس لأهميته كلقاء بحد ذاته، بل لأهمية المواقف الجديدة التي أعلن عنها الوزير السعودي، وأبلغها للوفد المذكور، والتي تلقّتها وسائل الإعلام بما يشبه الصدمة، صدمة دفعت مصدرًا من الخارجية السعودية للإعلان عن أن ما نَسَبته وسائل الإعلام للوزير السعودي غير دقيق، وأن المملكة تدعم (الهيئة العليا للمفاوضات)، وتدعم الإجراءات التي تنظر فيها لتوسعتها، وتوحيد صف المعارضة.

أولًا: لقاء الرياض والخيبة

خلال اللقاء، تحدّث الجبير باختصار عن عدة نقاط أساسية، تتعلق بالمعارضة السورية والمرحلة الانتقالية والموقف العربي والدولي، وأخيرًا مستقبل القضية السورية، ونبّه بلا لبس إلى المنعرج الصعب الذي يُراد إدخال القضية السورية والمعارضة فيه، وأوصل بشكل دبلوماسي للمنسّق العام لـ (الهيئة العليا للمفاوضات)، رياض حجاب، ما معناه أن روسيا قد نجحت في منع إسقاط الأسد، وباتت اليوم العنصر الأقوى في سورية، ولهذا السبب فإن الدول الإقليمية ستضطرّ إلى الميل نحو ما يريده الروس، وهو بقاء رأس النظام السوري، بشار الأسد، في السلطة خلال المرحلة الانتقالية، وألمح إلى أن مهمة المعارضة السورية والدول الصديقة لها في المرحلة المقبلة، العمل على إقناع الولايات المتحدة أن تضع ثقلها لضمان عدم وجود أي دور للأسد في مستقبل سورية بعد المرحلة الانتقالية، إن كانت الولايات المتحدة موافقة على المبدأ الروسي.

ساند الجبير أيضًا، بحسب المعلومات المسربة، ضمّ منصتي موسكو والقاهرة إلى (الهيئة العليا للمفاوضات)، ودعا الهيئة إلى عقد مؤتمر “الرياض 2” من أجل إجراء تغييرات فيها، على رأسها ضمّ هاتين المنصتين إليها، كما دعا إلى ضرورة الخروج برؤية جديدة للمعارضة تتماشى مع الوقائع على الأرض والوضع الدولي الجديد، وحذّر أخيرًا من أنه في حال عدم وجود هذه الرؤية، فإن الدول العظمى قد تبحث عن حلّ خارج المعارضة. غير أن المتحدث باسم الهيئة، سالم المسلط، نفى في تصريح له في السابع من آب/ أغسطس الجاري صحة هذه التسريبات، ونفى بصورة حاسمة وجود دعوة لما يسمى بـ “الرياض 2″، لكنه أكد وجود دعوة لشخصيات سياسية وثورية ومن المجتمع المدني للقاء في الرياض مع الهيئة التي سوف تنظر في أمر توسيع نفسها، مشدّدًا على أن الهيئة لن تقبل في صفوفها من يوافق على وجود الأسد.

من حديث الوزير السعودي، حسب التسريبات، يمكن استنتاج أن الولايات المتحدة موافقة على المسار الذي يرسمه الروس، على الرغم من جميع التصريحات عالية النبرة التي يُدلي بها بعض المسؤولين الأميركيين حول النظام السوري ومصير رأسه.

والرسالة السعودية، أو بالأدقّ، التي حملتها السعودية للمعارضة السورية، بالنيابة عن أطراف أخرى، وبغضّ النظر عن مضامينها، ترافقت مع تطورين مهمّين ومتلازمين، ولهما علاقة مباشرة بهذه الرسالة، أولهما عسكري والثاني سياسي.

ثانيًا: التطور العسكري

كان التطور العسكري المرتبط بما سبق كله، هو قيام الروس بتسريع عقد سلسلة من الهدن المحلّية، بدأت في جنوب غربي سورية، وانتقلت إلى الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ثم إلى الريف الشمالي لحمص، وتتواصل إلى مناطق أخرى من سورية، هدن لم يعترض عليها النظام السوري، على الرغم من أنه غاوٍ للحل العسكري، ولا الإيرانيون، على الرغم من أنهم اضطروا إلى التخلي عن العديد من مواقعهم، خاصة في جنوبي سورية، ولم تتردّد فصائل المعارضة المسلحة بقبولها، على الرغم من أنه لم تُقدّم لها أي ضمانات حقيقية سوى ضمانة روسيا نفسها، التي كانت تعدّها حتى الأمس القريب شريكة للنظام وحامية لحماه.

عُقدت هذه الهدن على عجل، وهدنة الجنوب السوري التي أُعلنت في السابع من تموز/ يوليو الماضي، لم يُستشر فيها السوريون، واتّخذ قرارها بعيدًا عنهم، بينما هدنة الغوطة التي أعلنت في 23 من الشهر ذاته، فقد جرت في القاهرة بعد اجتماعات بين الروس وفصائل المعارضة المسلحة استمرت أقل من ثلاثة أيام، وهدنة الريف الشمالي لحمص التي أُعلنت في الثالث من آب/ أغسطس الجاري، تمت بالسرعة ذاتها.

وعلى الرغم من أنها (أي الهدن) أمر مُرحّب به بالنسبة إلى السوريين من الأطراف كلها، لأنها ستؤدي إلى تخفيف مستوى عنف النظام وحلفائه الإيرانيين والروس أيضًا، ووقف سيل القتل والتدمير، لكنها غير قادرة وحدها على إحلال السلام الثابت والدائم في سورية؛ فالضمانة الروسية وحدها لوقف إطلاق النار لا تكفي، وهي عرضة للتلاعب والانهيار، فقد خبر السوريون ممارسات روسية مشابهة، حين كانت روسيا تُرسل طائراتها بعد أيّ اتفاق هدنة لتقصف المناطق نفسها بحجّة وجود مجموعات إرهابية. كما أن هذه الهدن تحمل مخاطر تعميق تقسيم المناطق بين المعارضة والنظام، وستبقى عرضة للانهيار عند أي خلاف، طالما أنه لم يُحدّد برنامج واضح لما بعدها، ولم تُعلن الخطوة التالية لها، وبالطبع، طالما أنها لم تترافق مع حل سياسي شامل يستند إلى بيان جنيف، ويضمن الانتقال السياسي الذي ينتظره السوريون.

ويُضاف إلى هذا التطور، تطور آخر أكثر هامشية، هو إعلان الولايات المتحدة عن قرار وقف تسليح المعارضة المسلحة في جنوبي سورية. وإذا كان هذا القرار لن يؤثر كثيرًا على المعارضة المسلحة التي لا تتلقى بالأساس أي دعم عسكري وتسليحي من الولايات المتحدة، لكنّه يحمل بعدًا إعلاميًا وسياسيًا مؤثرًا.

ثالثًا: التطور السياسي

كان التطور السياسي الذي له صلة مباشرة بحديث الجبير، هو اكتشاف السوريين أن الوفد التفاوضي في جنيف قد وقّع على وثيقة تفاهم مع منصة موسكو ومنصة القاهرة(*)، على عكس ما كان يدّعي في وسائل الإعلام بأن التفاهم ما زال قيد البحث، وأن الفجوة ما زالت واسعة خاصة مع منصة موسكو، وهذه الوثيقة فيها من التنازلات ما يكفي للشك بنيّات وأهداف الموقعين عليها، وبما أنها تمّت دون علم الهيئة العليا للتفاوض ومنسقها العام، فقد احتجت عليها الهيئة، لكن ما مرّ قد مرّ، وأدى إلى تلويح المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات -بحسب مصادر عديدة- بالاستقالة وترك الهيئة لأنها ستتجه نحو الهاوية بمثل هذه التوجهات.

بالنسبة إلى الوثائق هي ثلاث، الأولى حول (الدستور)، وهي هامشية وإجرائية؛ والثانية حول (المبادئ)، وهي مبادئ نظرية لا يختلف عليها جميع الأطراف؛ أما المشكلة الكبرى فهي وثيقة “رأي مشترك حول خلاصات الوسيط”، التي اتفق عليها وفد الهيئة العليا المفاوض مع منصتي موسكو والقاهرة، والتي تنازلوا فيها إلى أقل من الحدّ الذي وضعه بيان جنيف 1، فلم يُذكر فيها أن هيئة الحكم الانتقالية المنتظرة “لها صلاحيات تنفيذية كاملة” وفق جنيف 1، بل هي هيئة “تحل محل ترتيبات الحكم الحالية”، وهي عبارة غامضة قد تعني إعادة النظام ترتيب مجموعة القوانين والأنظمة والمؤسسات، من دون أي تغيير جوهري يمسّه.

كذلك لم تضع الوثائق التي اتفقوا عليها أي ضوابط ولا توصيفًا دقيقًا لأعضاء هيئة الحكم الانتقالية، فلم يُستبعد من هذه الهيئة من تلوثت أيديهم بالدماء، أو من ارتكبوا جرائم حرب موثقة، وفسحوا المجال لإشراك أي شخص حتى لو كان من أعتى مجرمي النظام.

ووافق أيضًا وفد الهيئة العليا للمفاوضات ومنصات موسكو والقاهرة على أن هيئة الحكم الانتقالي “يمكن” أن تضم بعضًا من المعارضة ومن النظام ومن المستقلين و”من جهات أخرى”! من دون تحديد من هي تلك الجهات الأخرى، ومن دون تحديد نسبة كل طرف، ما يعني أنهم قبلوا رسميًا بما يُلقى لهم من فتات.

والأخطر من كل هذا وذاك، عدم تطرق الوثيقة لمصير الأسد، وكأن بقاءه أمر غير قابل للنقاش والتداول، وكذلك موافقتهم على العمل بالدستور السوري الحالي خلال المرحلة الانتقالية، التي قد تستمر لسنوات، وهو، كما هو معروف، دستور يمنح الرئيس صلاحيات مطلقة ويضع بيده جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ وأهمل هؤلاء الإشارة إلى ضرورة تعليق العمل بالدستور الحالي، أو اعتماد إعلان دستوري، وكذلك لم يتطرقوا لضرورة خروج الميليشيات الأجنبية التي تقاتل في سورية، والتي هي أسّ التصعيد الطائفي لمصلحة النظام؛ كما افترضوا أن الجيش والأجهزة الأمنية ستبقى على حالها خلال المرحلة الانتقالية، وسيجري إصلاحها بعد انتهاء المرحلة الانتقالية ووضع دستور وإجراء انتخابات؛ وكذلك تخلّوا في وثائقهم عن موضوع العدالة الانتقالية، الذي لن تهدأ سورية من دون تطبيقه على الأقل بالنسبة إلى مجرمي الحرب.

هذه الوثيقة، هي تقريبًا الوثيقة نفسها التي قدّمها المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا إلى طرفي النزاع في سورية، النظام والمعارضة، ليدرساها، بل هي أقل منها سقفًا، ما يؤشر إلى أن المعارضة السورية تطوّعت ووافقت على ما طرحه المبعوث الأممي، بل ونزلت بسقفها إلى أقل من عرض الرجل الذي لم تنجح أي مبادرة من مبادراته التي طرحها حول سورية. ويدفع ذلك كله للشك بأن الوفد المفاوض تلقى تعليمات لتوقيع الوثيقة مع منصة موسكو التي كانت- وما زالت- في نظر المعارضة السورية بتنوعاتها قريبة من النظام، بل وحتى شريكة له.

رابعًا: العمل المطلوب

إذًا، هناك تخوف جدي من أن يحمل الوفد التفاوضي للهيئة مبادئ تفاوضية مختلفة عن تلك التي أقرها مؤتمر الرياض، وعن بيان جنيف 1، قد يكون سقفها منخفضًا إلى الدرجة التي لن تضمن فيها المعارضة السورية تحقيق أي هدف من أهداف الثورة السورية.

وسط هذه المعطيات، والتعقيدات التي تتخللها، والضغوط التي تواجهها، يبدو أن المعارضة السورية أمام أحد طريقين، إما أن تتخلى عن شرط تغيير رأس النظام السوري، وتُسقط من حساباتها تغيير النظام الأمني، بحجة “الواقعية السياسية”، وتقبل بالشراكة مع منصة موسكو، التي لطالما كانت طروحاتها متطابقة مع طروحات النظام، وتقبل أيضًا- في الغالب- بإشراك حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، شريك النظام السوري في التهجير والقتال ومُحاربة المعارضة، وتدخل لاحقًا في مفاوضات مُبرمجة مسبقًا، ومحضّرة توصياتها النهائية ونتائجها، وتقبل بأداء دور “الجبهة الوطنية التقدمية” بحلّة جديدة، على أنقاض بلد مُدمّر وملايين مشرّدة ونازحة ومآسٍ لا تُعدّ ولا تُحصى. أو أن تُدرك هذه المعارضة ما يُحاك، وتتشبث بالأساسيات، وتشغيل “الواقعية السياسية” لمصلحتها، والضغط بأقصى ما لديها من وسائل لضمان أن يكون تغيير النظام الأمني القمعي الطائفي الشمولي، لا الأفراد، هو الخطوة المقبلة.

يمكن للمعارضة السورية أن ترفض ما يُفرض عليها، على الرغم من أنها في غاية الضعف؛ فالمجتمع الدولي في حقيقة الأمر يحتاج إليها، وتمردها ورفضها للانصياع لهذا القدر أو ذاك، سيدفع المجتمع الدولي إلى إعادة بعض الحسابات، لأنه لن يستطيع تجاوزها، فهي التي ستمنح الشرعية لأي اتفاق أو حل أو نتيجة.

خامسًا: خاتمة

لم تستطع المعارضة السورية، المشتتة والمتفرقة، أن تحمل إلى هذا المجتمع وشعوب العالم قضية الشعب السوري بشكل مفيد، بسبب قصورها الذاتي وكثافة التدخل الدولي، وبسبب اعتمادها أكثر من اللازم على الخارج، ولم تُقدِّر بشكل سليم إمكانات شعبها وطاقاته. هي في منتهى الضعف، لكنها، في الوقت نفسه، قوية بجمهور الثورة وقوية بتضحيات مئات الآلاف من السوريين، وبأصوات ملايين المتضررين والنازحين والمهاجرين، وعليها أن تكون صلبة لمرة واحدة، وإلا فإنها ستجرّ سورية إلى مستقبل لا يقلّ رداءة وتعاسة عن العقود الخمسة الماضية.

لم يعد كافيًا أن تعمل المعارضة السورية على توحيد قواها وأهدافها واستراتيجياتها، ولم يعد يكفي أن تقوم بدراسة بدائل لطرق التعامل مع المجتمع الدولي، وإيجاد آليات وتكتيكات جديدة، بل صار لزامًا عليها، كمؤسسات وكيانات، أن تعمل على “غربلة” قياداتها، وطرد من يريد ملاقاة الداعمين للنظام وخططهم، وأصحاب الوجهين والموقفين، والتخفيف من عبء التدخلات الدولية حتى لو وصلت إلى حد اضطرارها إلى حلّ تشكيلاتها القائمة وإلقاء تبعية الكارثة السورية التي تسبب بها النظام وحلفاؤه على المجتمع الدولي الذي غض الطرف عن جرائم حرب ضد شعب كامل، والذهاب في الوقت ذاته باتجاه بناء قوى سياسية ومدنية جديدة قادرة على حمل أهداف الثورة السورية.

لا خوف على ثورة شعب قدّمت مئات ألوف الشهداء وملايين المهجرين والمشردين، وجدلية التاريخ والسياسة تؤكدان أن الثورات المجتمعية قلّما تُهزَم، لكنها قلّما تنتصر بمجرد انطلاقها. قد تتحول مساراتها وتتغير وسائلها وتتعدّل آلياتها، وفقًا للظروف ومستوى التحديات والتدخلات، فضلًا عن أن وجود معارضة غير مؤهّلة يؤخر مسارها ويصعّب مهماتها القريبة والبعيدة.

اليوم، تقف المعارضة السورية أمام مفترق طرق، فإما أن تكون “صغيرة” حتى في نظر داعميها، وتمنح من جديد “الشرعية” لنظام شمولي قاتل، أو أن تكون “كبيرة” بقدر كبر حجم مأساة السوريين.




المصدر