اهتزازات المعارضة السورية


ماجد كيالي

الحديث هنا يتعلق بالمعارضة السورية، كما تبدّت في الأجسام الرئيسية المتشكلة منها، أي “المجلس الوطني”، وبعده “الائتلاف الوطني”، و”الهيئة العليا للمفاوضات”، وجماعات المعارضة العسكرية المحسوبة على الثورة، كما يتعلق بالخطابات التي صدرتها، وطرق العمل التي انتهجتها. وبديهي أن هذا الحديث لا يشمل المعارضة، بمعناها الواسع المتمثل بكيانات وشخصيات سياسية تكافح كل واحدة منها من أجل حقوق السوريين والتخلص من نظام الاستبداد، بما لها وما عليها، من دون أن تنخرط في أي من الكيانات المذكورة، لسبب أو لآخر، علمًا أن هذا الحديث يميز، أيضًا، بين المعارضة من جهة والثورة السورية من جهة أخرى، إذ إنّ المعارضة هي حالة فعل سياسي، أو أدوات سياسية، في حين الثورة هي توصيف لحالة مجتمعية، مشروعة، واضطرارية، ذهب إليها السوريون لاستعادة حقوقهم، ودخول التاريخ، ووضع مجتمعهم وبلدهم على سكة التطور السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، دون أن يعفي ذلك أي أحد أو أي حالة من النقد والتقويم.

وكما هو معلوم، فقد أخِذ على الثورة السورية -منذ البداية- أنها حالة انفجارية عفوية، لم يكن أحد يتوقعها، وهذه هي حال الثورات عمومًا، بيد أن ما يميز الحالة السورية هو حرمان السوريين من السياسة، وافتقادهم حركات سياسية وازنة ذات تجربة، بحكم القبضة الحديدية التي حكم بها النظام، وتحكم عبرها في المجال العام، منذ نصف قرن. على ذلك فقد كان مفهومًا غياب طبقة سياسية ذات تجربة، تحظى بإجماع، ولو نسبي، تدير الحالة السياسية الحاصلة، وقد فاقم من ذلك سرعة مبادرة بعض القوى الدولية والإقليمية والعربية إلى التدخل في هذه الحالة، وإيجاد الطرق والوسائل التي تمكنها من التحكم بها، بل صوغ خطاباتها، وتحديد طرق عملها.

هكذا، لم ينشأ “المجلس الوطني” نتيجة حراكات سياسية بين الكيانات أو الجماعات أو الشخصيات السياسية المعارضة، أو نتيجة نقاشاتها البينية، أو قناعاتها الذاتية، بقدر ما نشأ -على النحو الذي شهدناه- بفعل الضغوطات الخارجية؛ الأمر الذي أثر سلبًا على صورته وصدقيته، وعلى طرق عمله. وكانت المعضلة الأساسية هنا في افتقاد هذا الكيان، أو عدم قدرته، على إقامة أي توسطات بينه وبين مجتمع السوريين، وقبوله تعاطي القوى الخارجية مع الجماعات العسكرية بصورة مستقلة عنه، والتعامل معه وكأنه تابع، وليس على أنه يمثل قيادة لواحدة من أهم الثورات في العالم العربي.

هذا ينطبق على “الائتلاف”، أيضًا، بل إن الأمر تفاقم مع هذا الكيان، إذ بات مرتعًا للمنافسات والمنازعات الداخلية بين الأطراف المكونة له، كما بدا وكأنه يعزل نفسه عن مجتمعات السوريين في الداخل والخارج، فضلًا عن أن هذا الكيان لم يفعل شيئًا لتعزيز مكانته في قيادة ثورتهم، لا سيّما لجهة الحفاظ على الخطاب الأساسي للثورة، المتعلق بالحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، بحكم مجاملته خطابات الجماعات العسكرية الإسلاموية، بما فيها “جبهة النصرة”؛ الأمر الذي أضعف صدقيته، وشوّش على صدقية الثورة السورية.

وبدورها، فإن “الهيئة العليا للمفاوضات” التي ضمت أوسع قدر من الكيانات السياسية والعسكرية، لم تكن أحسن حالًا، إذ شهدنا، أيضًا، نوعًا من التنازع بين أطرافها، وتغييرات في الوفد المفاوض، بين فترة وأخرى، حتى إن الهيئة رضخت لظهور مسار تفاوضي جديد (وكذلك فعل الائتلاف من قبل)، هو مسار آستانا، رغم أن هذا المسار يستهدف إضعاف مكانتها، بما لا يقل عن محاولات إضعاف هذه المكانة بإدخال منصات أخرى (لا سيما منصة موسكو)، مع علمنا أن هذا المسار التفاوضي الجديد يستهدف التهرب من بيان جنيف1، ويرهن المعارضة تبعًا لإرادة أو لسياسية الدول الثلاث المتمثلة في آستانا (روسيا وإيران وتركيا).

بالنتيجة؛ فقد نشأت الكيانات السورية المعارضة، السياسية والعسكرية، بإرادة خارجية، وليس بإرادة أو وفق قناعة أو بحكم تجربة القوى المعنية، فالسياسة لا تقوم على التطابق، كما في إدراكات القوى السورية السائدة، وإنما تقوم على الاختلاف، وحق التنافس والتمايز في تحقيق أهداف الشعب. أيضًا، نشأت هذه الكيانات وفقًا لقواعد الارتهان للإرادات الخارجية؛ الأمر الذي أضعفها، وأضعف معها ثورة السوريين. وإذا احتسبنا مع ما تقدم حجم القوى التي دعمت النظام (لا سيما من روسيا وإيران)، في مقابل التخلي أو الخذلان أو الإنكار الدولي والإقليمي والعربي لثورة السوريين، أو لحقوقهم وتطلعاتهم المشروعة، يمكننا فهم الصورة الكاملة التي أودت بالحالة السورية إلى هذا التردي، ويمكننا فهم اهتزاز المعارضة عند أي حالة، كما حصل مع الأخبار التي تتحدث عن إعادة تشكيل “الهيئة العليا للمفاوضات”، أو الأخبار التي تتحدث عن أفول دور “الائتلاف”، أو الأخبار التي تتحدث عن إعادة هيكلة الكيانات العسكرية.

ما يحتاج إليه السوريون اليوم هو مبادرة تغير هذه الحالة، وتعيد الاعتبار للأهداف الأساسية التي انطلقت من أجلها الثورة، في الانتهاء من نظام الاستبداد، وإقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين في دولة مدنية ديمقراطية، دولة مؤسسات وقانون، فهذه هي الأهداف الجامعة التي يمكن أن توحد السوريين وأن تفضي إلى سورية واحدة، للجميع مواطنين وجماعات من أي نوع. أي أن المطلوب مبادرة تفضي إلى تشكل طبقة سياسية، وكيانات جامعة، تضع مصالح وحقوق السوريين على رأس أجندتها، قبل أي أحد آخر؛ ما ينهي حالة التدخلات والارتهانات الخارجية.

هذا هو التحدي أمام السوريين، وهذا عمل لا يمكن لأحد أن يقوم به عنهم، إذا لم يقوموا به بأنفسهم، ووفقًا لإدراكاتهم وتجاربهم الخاصة، على الرغم من خلافاتهم وتنافساتهم التي هي طبيعة الأشياء، ومن لزوم السياسة ذاتها.




المصدر