الشعبوية


حافظ قرقوط

أخذ المصطلح طريقه إلى التداول في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، إثر الاحتجاجات التي قام بها الفلاحون في روسيا لأجل تحررهم، وكذلك شهدت تلك الفترة احتجاجات في بعض مناطق الولايات المتحدة الأميركية، تركزت بشكل رئيس ضد الشركات العاملة في السكك الحديدية والبنوك، حيث تم وصف الخطاب العام لتلك التحركات بكلمة “شعبوية”.

ويتم توصيف الخطابات الموجهة والتحركات المرافقة لها بـ “الشعبوية”، للدلالة على أنها تثير المشاعر العامة للناس؛ كونها تتوجه إليهم بطريقة غير منتظمة، تتخطى العقلانية والوقائع، وتعمد إلى تضخيم بعض الأمور، للوصول إلى نتائج تناسب الرغبات أو الغايات أو الأهداف المطروحة.

وقد ظهرت في النصف الأول من القرن الماضي عدة حركات سياسية في العالم، اعتمدت خطابات موجهة لاستنفار المشاعر الوطنية أو الاجتماعية أو الدينية، من خلال انتقاء الشعارات والكلمات التي توقد الأحاسيس بطريقة التجييش، ومنها بعض الخطابات اليسارية التي استهدفت الطبقة العاملة، وأيضًا بعض الخطابات المضادة من تيارات سياسية يمينية، بمواجهة هذه الأيديولوجيات الناشئة، والأفكار النضالية ذات الخلفية الطبقية.

إن تطبيق قاعدة الترهيب والترغيب في نسج الخطاب الجماهيري، مع تلميع الأهداف وتزيينها، وتضخيم المعاني التي يرغب الجمهور في سماعها، كونها تلامس شجونه، وجعل السياق الذي تأتي فيه لافتًا، بل يحمل الكثير من الجاذبية والإغراءات، كل هذا من شأنه طمس الحقائق وتشويش الرؤية الواقعية وجعلها ضبابية، كون الأساس قائمًا على التعبئة اللفظية لجموع الناس.

وصلت العديد من الأحزاب السياسية إلى سدة الحكم، من خلال تلك التعبئة والتحشيد الجماهيري بخطابات معسولة، تحاكي الناس من باب قضاياها الملحة، إن كانت سياسية أو اقتصادية معيشية أو وطنية أو دينية أو غير ذلك، باعتمادها مبدأ محاكاة العاطفة لا العقل والإدراك؛ فتنقاد الجماهير إلى ترديد الخطاب والشعارات، والانفعال بها، والدفاع عنها، بغض النظر عن نتائجها وصوابيتها؛ وبهذا سادت سلطات عديدة في أنحاء العالم، كان خطابها تعبويًا شعبويًا، بينما كانت نتائج حكمها كارثية كما العديد من دول العالم، ومثاله ما جرى في سورية خلال العقود الماضية باستغلال الخطاب الوطني، لأغراض توضح أنّ نتائجها غير وطنية، ولأهداف اقتصادية تتعلق بالطبقة العاملة والنظام الاشتراكي ومعاداة الإمبريالية، بينما كانت نتائجها هي الأخرى أن تركزت الثروة في جيوب أشخاص بعينهم، بينما ازدادت عثرات التنمية.

لا شك أن بعض التعبئة الجماهيرية، ساعدت في تدعيم حركات التحرر في أنحاء العالم، ولكن يختلف استخدام كلمة شعبوية عن شعبية، فهنالك الكثير من المفاهيم والرغبات والانتماءات والسلوكيات والأهداف وغيرها، تمثل حالة شعبية في المجتمعات، بغض النظر عن استخدام السياسيين أو القادة المؤثرين لمفرداتها أم لا، فهي موجودة أصلًا ومتناسبة مع كل بيئة ومجتمع، وتتبدل بشكل عام مع تبدل الظروف المحيطة.

وإن محاكاة الجمهور بطريقة شعبية مبسطة وخالية من أي تعقيد أو تشويش، وقريبة من أحاسيسه ووجدانه لأجل الإضاءة على زاوية معينة، هي مسألة شعبية وأساسية في المجتمعات، ومن الضروري أن تكون المفردات الموجهة للجمهور غير منفّرة أو مستفزة، وهنا أهمية التمييز بين الحالة الشعبية والتعبئة الشعبوية، أي بين الخطاب الواعي المدرك، والخطاب العاطفي المبني على أنانية ذاتية.

غالبًا ما وُصف الشرق بأنه انفعالي وعاطفي، ويمكن تجييشه من خلال استنفار مشاعره لأي غرض كان، ولكن في السنوات الأخيرة بدا أيضًا أن الخطاب الشعبوي يمكن أن يُستثمر في أيّ قضية أو مفهوم لاستنفار واستدرار العواطف، فاليمين في الغرب أخذ يُجيّش الناس، بطريقة شعبوية، على أمور لها علاقة بالانتماءات، والمعتقدات، والأصول، بخلفية عنصرية؛ وذلك بإثارة الرعب من الآخر المختلف، تحت عناوين مبنية على وجهات نظر تمس الأسرة والوطن معًا، لغايات سياسية أنانية، وهذا واضح في الخطابات السياسية المتداولة والمتشابهة لليمين المتطرف الصاعد من جديد في الغرب، تجاه الآخر المختلف، ليس من اللاجئين فقط، بل حتى من المهاجرين الذين أصبحت أجيالهم جزءًا من النسيج المجتمعي المقيمين فيه.

ويستطيع بعض الأشخاص الذين يتمتعون بكاريزما وحضور خاص، التوجهَ بخطاب سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ديني إلى الناس، خارج السياق السائد، ومغاير لنمطية الأحزاب المعروفة في دولة ما، مستغلًا بعض الأزمات الموجودة، بطريقة “شعبوية” لتوظيف ذلك لغايات شخصية، فيصبح زعيمًا ويحصد نتائج شخصية كبيرة، وتتبعه الجماهير، متغاضية عن ممارساته ونتائجها العملية، مهما كانت مغايرة لخطابه.




المصدر