الضمير الرقيب


بدر الدين عرودكي

“لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير”.

كانت هذه الجملة منقولة عن قائد الحركة الانقلابية عام 1970، وهو يضع -نظرًا وفعلًا- أسُسَ “العهد” الأسدي في سورية، تعلن عن برنامج جديد يحدد طبيعة علاقة المثقف بالسلطة في سورية للسنوات التالية. لكنه برنامج لن يُكتشفَ إلا تباعًا، ومع مرور الأشهر ثم السنوات، كي يترسخ شيئًا فشيئًا سياسة ثقافية لا تختلف في عناصرها الأساس عن السياسة العامة التي أرساها هذا “العهد” على مختلف الصعد الاجتماعية في الداخل السوري. أما العنصر المهم في هذه الجملة/ البرنامج التي كان المواطن السوري في بداية سبعينيات القرن الماضي قد بدأ قراءتها مخطوطة على لوحات من القماش معلقة في كل زاوية من شوارع العاصمة -على الأقل- مثلما كان يلتقي -كذلك- صور الرئيس “القائد” و”المفدى” في مختلف المناسبات، فوتوغرافية أو تشكيلية، هو هذه الكلمة السحرية: “الضمير”. من الواضح أن اختيارها لم يكن ارتجالًا، ولم يأت عفو الخاطر، بل يكاد يكون في آن واحد شديد الخبث في مرماه، وفي الاستخفاف بعقول من يرمي إلى شراء قناعاتهم من السوريين عمومًا، والعاملين منهم في حقول الثقافة خصوصًا. فهي من أشد كلمات اللغة العربية غموضًا لافتقارها، لغة، إلى تحديد صريح ومباشر؛ فالضمير هو “العنب الذابل”، أو “السرُّ وداخل الخاطر” أو “ما تضمره في قلبك”، أو ما يعني في قواعد النحو العربي، متصلًا أو منفصلًا، الأسماء أو الأشياء غير الظاهرة لأنها مضمرة، كما يقول “لسان العرب” وسواه من بعده من المعاجم الكلاسيكية العربية. أما في الاستعمالات المعاصرة التي عرضتها المعاجم الحديثة، فهو “ما يضمره الإنسان في نفسه ويخفيه”، وهو كذلك “الاستعداد النفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار”.

سيكون السؤال الملحّ، مع هذه الشروح والتعريفات التي تزيد كلمة “الضمير” غموضًا على غموض: ما الذي كان يعنيه مؤسس “العهد الأسدي” بالضمير قولًا، وكيف سيتجسَّد أو، بالأحرى، سيُجّسِّدَه فعلًا؟

لا شك في أن المقصود قولًا هو المعنى الحديث الجاري، أي مَلَكَةُ “إدراك الخبيث والطيب” العفوية لدى الناس، ومن ثم فهو ينطوي على معنى حرية مفترضة، لكنه لا يخلو في الوقت نفسه من تهديد مبطن إذا ما نزَعَ الضمير، الفردي بالضرورة، وهو يميز الخبيث من الطيب، إلى تفضيل الأول منهما! ذلك أن عمومية الكلمة في الجملة/ البرنامج تبقى خافية على العين إن قرأت، أو على الأذن إن سمعت، ولا سيما أن كلًا منهما -في الحالتين- ستستحوذان عليها، وكأنها لا تعني إلا من تُوجَّه له.

لن ينتبه عندها أحدٌ إذن، وكما اتضح، إلى هذه المعاني الخفية. إذ بدت الجملة/ البرنامج، بل أريدَ لها أن تُفهَمَ، وكأنها تقرير لحرية فكر يقرر مداها الوازع الفردي الداخلي، ولا يفرض طبيعتها أو حدودها قانون أو قرار خارجي. ومن ثم، فلا بدّ -والحالة هذه- من الاهتمام بتربية هذا “الوازع الداخلي”، أو هذا “الضمير”، وهي مهمة لن تختص بها وزارة محددة كوزارة الثقافة مثلًا، ولا وزارة الإعلام المناط بها معظم أمور الرقابة على المطبوعات الداخلية والخارجية، بل ستناط تدريجيًا -ومن وراء حجاب- بمجموع الوزارات ذات العلاقة، وبالهيئات ذات الصفة “النقابية” على اختلافها، تتقاسم عناصرها أو تتشارك جميعًا في تنفيذها تحت إشراف مجموع الأقسام الأمنية، في العاصمة وفي فروعها بالمحافظات.

بدأت ملامح هذا التنسيق في منتصف ستينيات القرن الماضي، وأخذت في الارتسام التدريجي طوال السبعينيات كي تستقر -فعلًا- في نهايتها سياسة عامة. هكذا تجسّدت “إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة السياسية”، خلال السنوات الأولى من الانقلاب الأسدي، احتواءً كاملًا لكل ما يتعلق بالثقافة والعاملين في حقولها المختلفة.

لقد اتخذ مفهوم “الاحتواء” في سورية طابعًا أقرب إلى مفهوم نظم الدول الشمولية في هذا المجال منه إلى المفهوم الذي تبناه عدد من النظم الجمهورية العربية الأخرى. فهو مفهوم تم تحديد عناصره ومساراته وطرق تنفيذه بمعزل عن العاملين في حقول الثقافة على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم السياسية، وعلى أيدي سلطة مركزية لا يعلن ممثلوها الحقيقيون عن أنفسهم. أما من أنيط بهم تنفيذها فكانت سلطة كلٍّ منهم تقتصر على تنفيذ هذا المفهوم ضمن نطاق الدائرة المرسومة له. ومن هنا، لم يكن ثمة من يستطيع تجاوز هذا النطاق، وزيرًا أو رئيس اتحاد كتاب أو نقابة. كما أن اختيار أي من الذين عهد إليهم بالإشراف على المؤسسات الثقافية العامة، من الوزارة إلى سواها من الهيئات ذات الطابع “النقابي”، كان قائمًا لا على معايير ثقافية، بل على معايير وحسابات أخرى ذات طبيعة تكتيكية أو شخصية. وهو ما يمكن أن يفسر في حقيقة الأمر هذه الفروق العميقة التي نراها، على صعيد “الإنجاز الثقافي” منذ إنشاء وزارة الثقافة في سورية، وما تبعها من بعدُ من مؤسسات، (بما في ذلك إنشاء منصب نائب رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة)، بين تجارب متوازية في النشأة تاريخيًا، وسبقت الإشارة إليها في مقال سابق، ونعني بها الإنجازات الثقافية السورية والمصرية والفرنسية.

الفروق عميقة بين التجارب الثلاث، لكن عمقها بين التجربة السورية من جهة والتجربتين المصرية والفرنسية من جهة أخرى يتجاوز كل الحدود؛ إذ إن ما بين هاتين الأخيرتين، على صعيد الإنجاز، أقل بكثير مما بينهما معًا وبين التجربة السورية، إلا في مجال واحد، لا تخفى دلالته، هو الطريقة التي كان ينظر بها رؤساء البلدان الثلاثة، وجميعهم عسكريون، إلى المثقف.

حين قبل ثروت عكاشة، بعد نقاش طويل مع عبد الناصر، تعيينه وزيرًا للثقافة في تشرين الثاني عام 1958، كان بين من دعاهم للعمل معه إلى جانبه مديرًا للثقافة، الدكتور لويس عوض الذي كان -آنئذٍ- يدرس في جامعة دمشق. وقد قبل بعد اعتذاره وتحت إلحاح ثروت عكاشة، فحضر إلى القاهرة وتم تعيينه في العاشر من كانون الأول 1958. سوى أنه ما لبث أن اعتقل في 28 آذار/ مارس 1959، أي بعد أربعة أشهر من ممارسته لوظيفته الجديدة، بتهمة الشيوعية! حاول الوزير ثروت عكاشة، وهو أحد الضباط الأحرار ورفيق عبد الناصر في مسيرته، المستحيل كي يُفرَجَ عن لويس عوض، لكن محاولاته باءت كلها بالفشل. ذلك أن كبار المسؤولين -كما كتب ثروت عكاشة- “كانوا لا يؤمنون إلا بما يسجله رجال مباحث أمن الدولة عن الأفراد”.

وحين اعتقل في سورية، يوم 15 أيار / مايو 2006، ميشيل كيلو، وكان صديقًا لنجاح العطار منذ عملهما معًا في وزارة الثقافة، من قبل أن تصير وزيرة للثقافة ثم نائبة رئيس الجمهورية لشؤون الثقافة. لكنها، وقد فوجئت بخبر اعتقاله، حاولت، هي الأخرى، المستحيل من أجل الإفراج عنه، سوى أنها فشلت، مثلما فشل من قبلها ثروت عكاشة!

أما حين اعتقلت الشرطة الفرنسية في الأول من 26 حزيران/ يونيو 1970 وهو يبيع صحيفة (قضية الشعب) التي كان مديرها، والتي لم تكن مع ذلك ممنوعة من الصدور، فلم يكن الجنرال ديغول بحاجة إلى أن يطلب إليه وزير الثقافة في حكومته، أندريه مالرو، الإفراج عن سارتر، بل بادر من نفسه وأمر بالإفراج عنه فورًا قائلًا ببساطة: “لا يوضع فولتير في السجن”!

لكن أمثال فولتير، في التاريخ العربي القديم والمعاصر، لم يوضعوا في السجون فحسب، بل عذبوا وقتلوا. ومع ذلك، لن يكون بوسع دلالة هذه السطور الأخيرة، على أهميتها المفجعة، أن تضع نقطة النهاية.




المصدر