موقع الثورة السورية من استراتيجيات السياسة الخارجية للقوى العظمى (فرنسا)


رعد أطلي

تناولت المادة السابقة استراتيجية السياسة الخارجية لألمانيا واستخلاص موقع الثورة السورية من خلالها، وتتناول مادة اليوم الاستراتيجية الفرنسية وانعكاساتها على القضية السورية.

إن ابتُليت سياسة ألمانيا الخارجية بحكم موقعها بـ “لعنة الجغرافيا”؛ فإننا نستطيع القول إن السياسة الخارجية الفرنسية، منذ عام 1871 وحتى مراحل متأخرة من القرن العشرين، ابتُليت بـ “لعنة ألمانيا”، هذا الخوف من القوة الجارة المتعاظمة، إضافة إلى خوف فرنسا من الانحطاط وتراجع منزلتها العالمية كثاني إمبريالية منافسة، حكما شكل السياسة الخارجية إلى اليوم، مترافقين مع تأثير الثورة الفرنسية حتى اليوم على النظام السياسي الداخلي لفرنسا.

أعلنت ألمانيا نفسها أمة موحدة، بعد هزيمتها لفرنسا في 1871، وسيطرتها على الألزاس واللورين، وكانت فرنسا في مطلع القرن العشرين تعاني من ضعف ديموغرافي، مقارنة مع الدولة الاتحادية، وتشكلت لديها التزامات عسكرية ضخمة على اعتبارها إحدى الإمبراطوريات المترامية الأطراف؛ ما دفعها لبناء أسطول عسكري ضخم يتناسب مع قوتها في الأطلنطي والبحر المتوسط، وكان عليها بناء جيش قوي قادر على مواجهة ألمانيا، وفرضت فرنسا، من أجل ذلك، التجنيدَ الإجباري في نهاية القرن التاسع عشر، وفي الوقت ذاته تمكنت في بداية القرن العشرين من تحقيق قفزة نمو اقتصادية عن طريق موارد وفيرة لديها من الحديد والفحم والزراعة،  قللت من حاجتها للأسواق العالمية، فكانت سياستها الخارجية تتبع مصالح سياسية أكثر منها اقتصادية، وفي مقدمتها دعم التحالف مع روسيا الموجه ضد ألمانيا، إضافة إلى تأمين سيطرتها على مستعمراتها، وبخاصة الجزائر التي لم ينظر إليها الفرنسيون يومًا على أنها مستعمرة، وإنما جزءًا من بلادهم، هذان السببان دفعا الفرنسيين إلى خلق دبلوماسية خارجية تسعى لخلق ائتلاف يحتوي ألمانيا، استطاعت أن تجذب إليه بريطانيا خلال الأزمتين المغربيتين عام 1905 وعام 1911، ولكن في الوقت نفسه كانت قد تكونت لديها متلازمة “فاشودا”، فبعد الخلاف مع البريطانيين حول السيطرة على السودان والتي كادت أن تودي بالبلدين إلى حرب؛ بدأت سياسة فرنسا الخارجية في المستعمرات تؤكد على النفوذ الفرنسي، في مناطق تواجد البريطانيين، حيث كان له أثر كبير على سورية في مرحلة الاستعمار الفرنسي والصراع على منطقة الجزيرة السورية خصوصًا، وأفرز نتائج تعاني منها الدولة والمجتمع السوري إلى اليوم.

كانت فرنسا تدخل النظام العالمي الجديد، وهي تحت ظل نظام سياسي برلماني وفر لها بعض الميزات، ولكنه في الوقت نفسه أضعف الكثير من جوانبها في إنتاجه حكومات ائتلافية تعتمد التمثيل النسبي (العدو الأول للحكومات القوية)، ومع ذلك كان هذا النظام بعمومه نقطة قوة لفرنسا، حيث نال دعمًا كبيرًا من العمال والفلاحين، وتمثلت نقطة القوة الثانية في النزعة الوطنية الجارفة التي وفرتها الثورة، ولم تقتصر على الجمهوريين وإنما شملت غير الجمهوريين من الملكيين والبونابرتيين، وانقسمت الآراء حول شكل العلاقة مع ألمانيا طيلة القرن بين المسالمة المفضَّلة من قبل الدوائر المالية والتجارية، وبين من يرى فيها خطرًا داهمًا، وكان للنزعة الوطنية الجارفة دورٌ في تبني شكل المواجهة، كما رأى الفرنسيون أن الحرب القادمة تقوم على أساس الدفاع القومي، الهاجس الآخر للسياسة الخارجية الفرنسية كما سبق، وبرئيس مثل رايموند بوانكاريه من منطقة اللورين الذي كان يرى في الألمان تهديدًا لأمن فرنسا، انطلقت الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من خروج فرنسا من الحرب محققة الهدفين الاستراتيجيين في سياستها الخارجية، فقد تركت ألمانيا مجزأة ومضطربة سياسيًا ومرتبطة بـ (معاهدة فرساي) التي جردتها من السلاح واستعادت منها الألزاس واللورين، وعلى المستوى الإمبريالي تمكنت من الاستيلاء على بعض الأراضي التي كانت تحت النفوذ الألماني، وأراضي أخرى كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية (سوريا ولبنان)، ولكنها خرجت من الحرب بمليون ونصف جندي مقتول في ظل الضعف السكاني أساسًا، وحالة تراجع في العملة الفرنسية نتيجة تكاليف الحرب، وانتفضت العديد من شعوب ضمن إمبراطوريتها ضدها، مثل المغرب والهند الصينية، وحاول الفرنسيون أن يستمروا في حماية أنفسهم من ألمانيا الجريحة التي ما زالت قوية، من خلال دفع بريطانيا والولايات المتحدة على توفير غطاء حديدي أمني لفرنسا في مواجهة ألمانيا، ولكنها قوبلت برفض من الدولتين، بل لم تطلب الدولتان من ألمانيا التعويضات، وخسرت فرنسا أيضًا الحليف الروسي في مواجهة الرايخ، بعد الثورة البلشفية التي أنهت الحرب، أما “الاتحاد المقدس” الوطني الذي نشأ قبل الحرب فقد راح يتفكك، وندم بعض الاشتراكيين وخاصة بعد ثورة لينين على اختيارهم الأمة عوضًا عن الطبقة، وتآكل الإجماع حول الحزب الحمهوري نتيجة حزب شيوعي جديد تغلغل بين ناخبي الطبقة الوسطى العاملة الاشتراكيين وبين أحزاب فاشية ويمينية، وكان الجيش قد تعب من الصراع وبات مقتنعًا أن الدفاع أجدى من الهجوم وأقل عرضة “للموت”، فنشأ خط ماجينو؛ كل ذلك -مترافقًا مع “الكساد الكبير”- حوّل فرنسا من قوة عظمى إلى قوة أمر واقع، تحكمه الظروف الراهنة، وعندما ارتفع صياح أدولف هتلر ضد (معاهدة فرساي)، حاولت فرنسا اتباع “سياسة الاسترضاء” التي وصلت عند البعض أمثال بيير لافال للتسليم بالهيمنة الألمانية إن كان ذلك يكبح الرايخ، وفي الوقت نفسه حاولت جمع تحالف ضده، ولكن السوفييت الثورية كانت لها مصالح أكبر مع ألمانيا الاشتراكية، وبولندا التي خافت من سياسة الاسترضاء الفرنسية تحركت تجاه ألمانيا لتحميها من البلاشفة، وبريطانيا لم تكن تريد أن تغير الوضع المريح لها، فلا فرنسا قوية هنا ولا ألمانيا قادرة، وبالرغم من اعتداد ديغول لاحقًا بالجيش الفرنسي العظيم، إلا أنه سُحِق حينها من قبل الجيش الألماني خلال أربع ساعات، وانقسمت فرنسا بين مناطق تحت السيادة الألمانية، وأخرى تحت الوصاية، وثالثة فرنسية تابعة لألمانيا، لينطلق من لندن إذاعة صوت “فرنسا الحرة”، لتمنح فرنسا ما كان دائمًا شرطًا في تكامل عظمتها “الزعيم”، وجاء شارل ديغول الضابط المغمور سابقًا ليصبح قائد فرنسا ويخلصها بمساعدة الحلفاء من الاحتلال الألماني، وأول فعل قام به النظام السياسي الفرنسي بعد الحرب هو الحفاظ على تلك الزعامة، وانتهت الجمهورية الرابعة البرلمانية ذات الحكومات الضعيفة لصالح الجمهورية الخامسة ذات النظام الرئاسي، إلا أن فرنسا التي توقعت تعويضات كبرى وقضاءً نهائيًا على ألمانيا هذه المرة، واجهت أحد أكبر مخاوفها هذه المرة، الانحطاط، فرغم أنها أصبحت عضوًا دائمًا في مجلس الأمن، لكنها لم تعد تلك القوة العظمى التي يعتد بها، وكانت رسالة مؤتمر يالطا بين زعماء بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة واستبعادها رسالة واضحة بذلك، وأُجبِرت فرنسا أيضًا على التخلي عن مستعمراتها، انطلاقًا من الإنهاء التام للعصر الاستعماري متمثلة في سورية ولبنان بالدرجة الأولى، وواجهت انتفاضة جبارة في مدينة سطيف في الجزائر، في حين سيطر هوشي منه على فيتنام، فضلًا عن عدم معاقبة ألمانيا، بل الاعتماد عليها من قبل الولايات المتحدة على اعتبار أنها في عين المواجهة مع السوفييت؛ ومن ثم إعادة تسليحها، أدركت فرنسا حينذاك أنها لا تستطيع الاعتماد على الولايات المتحدة، وبريطانيا ذات “العلاقة الخاصة” معها، وبدأت سعيها نحو التكامل الأوروبي، وفي محاولة جدية هذه المرة لاحتواء ألمانيا سلميًا، واحتاج الأمر مرة أخرى إلى زعيم متفرد، وتم اختيار ديغول مرة أخرى ليقوم بذلك، وبدأت فرنسا هذه المرة، معتمدة على نقطتيها الاستراتيجيتين، ثانية في تحديد سياساتها، احتواء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي الذي رحبت فيه الأخيرة أيضًا هروبًا بالدرجة الأولى من طبيعتها وجغرافيتها، وفي مواجهة الانحطاط، من خلال رفض هيمنة الولايات المتحدة؛ فرفضت هيمنة الدولار ونادى ديغول بإعادة معيار الذهب بدلًا منه، ورفض الدخول في الناتو عسكريًا، وكان للحرب الباردة دورٌ كبيرٌ في تحديد تلك السياسات وتوضيحها، وسعى ديغول لتخفيف التوتر بين القطبين، لاعتقاده بأهمية تعدد الأقطاب وإعادة دور رئيس لفرنسا من خلاله دون طائل، وبعد نهاية الحرب الباردة عملت فرنسا على الإسراع في عملية التكامل الأوروبي بعد توحد ألمانيا، خوفًا من عدم القدرة على احتوائها، إلا أن ألمانيا بمعدل البطالة المرتفع والالتزامات الجديدة التي خلقتها الوحدة، سعت للغاية ذاتها، وفي علاقتها مع الولايات المتحدة، انخرطت فرنسا بشكل أكبر في حلف الناتو، وباتت تشارك في العمليات العسكرية حول العالم لتثبت أهميتها كقوة عظمى بالدرجة الأولى، ولتحافظ على مناطق نفوذ وسمعة عالمية، وإن كانت حتى من ناحية الشركات الضخمة غير ظاهرة، كما هو الحال مع القوى الست الأخرى باستثناء روسيا، وعارضت السياسات الأميركية لكن ضمن الإطار الدبلوماسي، وكانت قمة المواجهة الدبلوماسية بينهما عند استخدام حق الفيتو ضد غزو الأميركيين العراق في 2003، ولمواجهة الهيمنة  الثقافية الأميركية “الإنجليزية” أنشأت في بداية السبعينيات المنظمة الفرانكفونية التي تضم 80 دولة الآن، على غرار الكومنولث البريطانية، وغيرت من سياساتها وعقيدتها العسكرية، وفي عهد نيكولا ساركوزي  مُنحِت الحرب على الإرهاب أولوية في العقيدة العسكرية الفرنسية، بما يتساوق مع سياسات الولايات المتحدة. ترى فرنسا في الولايات المتحدة منافسًا قويًا فرّط كثيرًا في حقوق أو كرامة فرنسا عبر القرن الفائت، ولكنها تقف عند مرحلة الدبلوماسية في المواجهة، فقد داست أقدام الجنود الأميركيين فيتو فرنسا في طريقها إلى غزو العراق؛ أما حول الاتحاد الأوروبي ففرنسا ملتزمة به ومستعيضة بدورها فيه عن دروها في العالم، وكلما أغرقت في الاندماج فيه؛ ضاع قرارها السيادي والوطني، وكردة فعل على ذلك ترفض جهات كثيرة محافظة ويمينية في فرنسا هذا الاندماج المذوّب للقومية الفرنسية، وفي تيار متنامٍ ضد المهاجرين منذ فترة الكساد الكبير، خفف منه الموجات الطلابية في السبعينيات، وظل أزمة تعيشها الديمقراطية على المستوى العالمي حاليًا، تتفاقم في أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، أزمات داخلية مترافقة مع تململ واهتزازات في الحركة العمالية التاريخية في فرنسا، كل ذلك جعل منها منكمشة على نفسها في سياساتها في المرحلة الحالية، وموظفة السياسة الخارجية بما يحافظ على السلام الداخلي للدولة.

في سورية، أعلنت فرنسا مباشرة وقوفها مع الثورة السورية، وسرعان ما اعترفت بالائتلاف المعارض كممثل شرعي للشعب السوري وافتتحت أول ممثلية له في العالم، وأعلنت دعمها لأي عملية عسكرية تسقط نظام الأسد، شاركت في قوات التحالف الدولي بمشاركة نوعية، وكانت مسرحًا لعمليات إرهابية قوية مثل تفجير باريس وحادثة نيس، ولكنها في الوقت نفسه لا تتعدى الولايات المتحدة، ولا يمكنها أن تتخذ قرارًا عسكريا منفردًا، وبخاصة أن الاتحاد الأوروبي الذي تعتمد عليه مشلول من ناحية السياسة الخارجية نتيجة الموافقة على القرار بالإجماع، وفي هذا المناخ تم انتخاب ماكرون القادم نتاج صراعات داخلية بحتة، هو رجل القوى اليسارية والمعتدلة في مواجهة اليمين في ظل الفساد الذي يحكم القوى التقليدية في الوسط واليسار، والذي يولي اهتمامًا أكبر لداخل فرنسا من خارجها، وبناء عليه أتت مواجهة الإرهاب لديه أولوية على إسقاط الأسد، حفاظًا على فرنسا من مرحلة انحطاط أخرى، ومناديًا بالاتحاد الأوروبي غاية احتواء أي تحول مفاجئ ينتج عن النزعات القومية المتنامية في أوروبا.

فرنسا اليوم القوة السادسة عالميًا -اقتصاديًّا وعسكريًّا- ولديها ترسانتها النووية، وقرارها الدبلوماسي المستقل والمتمرد دائمًا، ولكن تبقى في علة الشلل الأوروبي مكتفية بزعامة سياسية في أوروبا تعويضًا عن خسارتها الإمبريالية، وبقرار عسكري مرتبط بالناتو، لأنه ما من بديل لديها، ذلك الناتو الأميركي القرار الأطلنطي الشكل، فضلًا عن أن ما تفتقده فرنسا اليوم سيبقى أيضًا العائق الرئيس، ولو زالت العوائق الأخرى، وهي كاريزما الزعيم، ذلك الذي يبقى رمزًا للوحدة الوطنية وجامعًا لها، فمنذ أن أسقطت الثورة الملك في قارة تؤمن بالملكية رمزًا للأمة احتاجت فرنسا دائمًا إلى “ملكٍ بديلٍ” يمنحها عظمتها، كان ذلك مع نابليون ومع ديغول، ولم يكن مع آخر بعد أن رحل رجل فرنسا الحرة.




المصدر