المشافي الخاصّة في مناطق النظام تتحوّل إلى “مَسالخ”


muhammed bitar

جلس لمدّة ساعتين ونصف على أحد الكراسي البلاستيكية في ممرّ الانتظار بمشفى المواساة، وكانت دماؤه تسيل بغزارة جراء حادث سيرٍ تعرّض له في منطقة المزّة. لكنّ الأطباء لم يكترثوا لأنينه أو للدماء التي كانت تسيل منه حينها.

نُقل ياسر البالغ من العمر 29 عاماً إلى المشفى القريب من موقع الحادث، غير أن الأطباء أخبروه بضرورة الانتظار داخل المشفى حتّى يتمكّنوا من تأمين الشاش الطبّي الذي نفد من المشفى، لكن غزارة الدماء وانتظاره لساعات أدّى إلى وقوعه أرضاً فاقداً وعيه لكثرة الدماء التي خسرها، بعد ذلك سارع أحد الموجودين لشراء الشاش من خارج المشفى للسيطرة على الموقف الذي تأزّم، وفق ما قاله ياسر لـ “صدى الشام”، شارحاً أن هذه الواقعة جعلته ينتقل إلى مشفى آخر ويبقى فيه لمدّة تسعة أيام بسبب تأزّم وضعه الطبّي.

تُعتبر حالة ياسر واحدة من القصص التي تعكس طبيعة “الكوارث” الحاصلة في المشافي بمناطق النظام، وترصد “صدى الشام” في هذا التحقيق، كيف تحوّلت تلك المشافي ولا سيما في دمشق وحلب إلى ما يُشبه المسالخ بسبب انعدام العناية الصحيّة بها، والنظرة المادّية البحتة التي تحكم تعاملها مع المرضى والجرحى الذين تُرِك بعضهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة أمام أبوابها بسبب عدم دفعهم مبلغاً مالياً (سلفة الدخول)، ويُفاقم المشكلة ارتفاع وتيرة الأخطاء الطبية التي أدّت إلى وفاة أشخاص كان من الممكن إسعافهم.

دخول مشروط

بدأت معظم المشافي الخاصة في مدينتي حلب ودمشق باعتماد أسلوب جديد، يقوم على إجبار أي مريض بدفع مبلغ مالي قبل بدء العلاج، وذلك في خطوة من المشفى لضمان قدرة المريض على دفع التكلفة النهائية للعلاج مهما كانت كلفتها.

وخلال جولة قامت بها “صدى الشام”، فقد تبيّن أنه لا توجد تسعيرة موحّدة لكل المشافي، وإنما قام كل مشفى بتحديد تسعيرةٍ خاصّةٍ به، حيث اعتمدت بعض المشافي دفع مبلغ 50 ألف ليرة في حين فرض بعضها الآخر دفع 75 ألف ليرة حتّى لو كانت الكلفة الإجمالية للمريض لا تتطلّب كل هذا المبلغ.

ولاحظت “صدى الشام” أن دفع ما بات معروفاً بالسلفة بات أمراً شائعاً بين أوساط السوريين ولم يعد أيّ منهم يُفاجأ عندما يُقدم المشفى على طلب هذا المبلغ.

غير أن هذه العادة “السيئة” التي انتشرت بشكلٍ كبير في أوساط المشافي، كادت تتسبّب بوفاة شابة سورية في مطلع عام 2017 الحالي.

مازن، وهو سائق تاكسي في العاصمة دمشق، كان في ذلك الوقت يعمل بشكلٍ طبيعي قبل ان تسقط عدّة قذائف هاون على منطقة العدوي بدمشق، ويبدو أن القذائف أصابت مدنيين.

يقول مازن لـ “صدى الشام” توقّفتُ قرب تجمّع لمدنيين بعد سقوط القذائف لأفاجأ بإصابة فتاة إصابة خطرة.

وأضاف مازن أن الأشخاص الذين كانوا متجمّعين فتحوا باب سيارته ووضعوا الفتاة وصعد اثنان ممن كانوا موجودين في محاولةٍ لإسعافها، موضحاً أن المشفى الأقرب إلى منطقة سقوط القذائف كان مشفى “الطلياني” الواقع في حي الطلياني وسط العاصمة دمشق.

غير أن الصدمة كانت برفض إدارة المستشفى استقبال الفتاة إلّا بدفع الكلفة مسبقاً، ويشير مازن إلى أن قسم الاستقبال طلب 90 ألف ليرة مقابل إدخالها لتلقّي الإسعاف وقال: “كنت جاهزاً لدفع المبلغ لكنه لم يكن متوفّراً لديّ حينها”، وبيّن أن أحد الشخصين الذين رافقوا الفتاة دفعوا المبلغ بعد ربع ساعة من المحاولة مع إدارة المشفى وتعنّتها بالرفض، لافتاً إلى أنه اكتشف لاحقاً أن الشخصين الذين دفعوا الأموال لا تربطهم أي معرفة بالفتاة وأنهم كانوا من المارّة في الشارع.

نظرة ماديّة بحتة

لا تتوقّف المشكلة عند حالة فرض مبلغ السلفة، بل إن البُعد المادي بات سيّد الموقف في حسابات معظم الأطباء والمشافي الخاصّة في مناطق النظام، حيث يتم ترجيح هذا الجانب على حساب أرواح المدنيين، في مخالفة واضحة لـ “قسم أبقراط” الذي يُقسم عليه كل طبيب في قبل البدء بمزاولة مهنته.

وعلاوةً على فرض السلفة، فإن تكاليف الطبابة في المشافي أصبحت باهظة، وغير متكافئة مع الوضع الاقتصادي للسوريين.

وكمثال، تبلغ تكلفة 10 قطب لجرح عادي في المشافي الخاصة 25 ألف ليرة، في حين تصل كلفة عملية الزائدة الدودية 50 ألف ليرة للطبيب وحوالي 120 ألف ليرة بين أجور مشفى وأدوية.

أما الولادة الطبيعية في المشافي الخاصة فباتت تكلفتها ما بين 125 – 175 ألف حسب نوع المشفى ودرجته، بينما وصلت كلفة الولادة القيصرية إلى 300 ألف ليرة في بعض المشافي، وبشكلٍ عام، فإن تكلفة دخول المشفى الخاص لإجراء أبسط عمل طبي باتت تزيد عن راتب الموظف لشهرٍ كامل.

الحالة ذاتها انسحبت على الأطباء في عياداتهم الخاصة، حيث تبدأ كلفة المعاينة من 2500 ليرة وتصل إلى 10 آلاف في بعض الأحيان، وكذلك الحال بالنسبة للأدوية التي ارتفعت أسعارها لأضعافٍ مضاعفة.

“مسالخ بشرية”، بهذه الكلمات تصف أم فؤاد، وهي من قاطني حي “أودونيس” في مدينة حلب حال مشافي المدينة، وتقول لـ “صدى الشام” إنه علاوةً على الأسعار الفلكية فإن الخدمات داخل هذه المشافي سيئة جداً.

وتروي الخمسينية تجربتها مع المشفى الفرنسي عندما أدخلت زوجها للعلاج قائلةً: “الوجبات للمرضى كانت سيئة ومعظم الممرّضين لا يأتون لتغيير السيروم أو إعطاء الأدوية للمريض إلا بعد إكرامهم بمبلغ مالي، إضافةً إلى القذارة واختفاء الطبيب لفتراتٍ طويلة، حتّى أنه يمرّ مرّة واحد كل ثلاثة أيام لمدّة خمس دقائق يطمئن خلالها على حال المريض ثم يغادر”.

لكن الأمر الأكثر غرابةً هو ما حدث مع عائلة سورية بدمشق، حين نقلت ابنها في حالة إسعافية إلى مشفى خاص، وأُدخل بعدها إلى غرفة العناية المشددة وبعد مرور ساعات لم تسمح إدارة المشفى بدخول الأهل والاطمئنان على ابنهم بذريعة حاجته لرعاية خاصة، وفقاً لصحيفة “البعث”.

وقالت الصحيفة: “إن المريض كان متوفياً وتم إبقاؤه في العناية المشددة لمدة أكثر من 4 أيام ولم تخبر إدارة المشفى ذوي المريض بوفاته، وذلك بهدف تقاضي وتحصيل فاتورة باهظة”.

وتحفّظت الصحيفة على اسم المشفى، لكنها “طالبت وزارة الصحة بالتصدّي لهذه الواقعة ومحاسبة المشافي التي ترتكب تجاوزات”.

الأخطاء الطبية

على الرغم من أن ظاهرة “الأخطاء الطبية” في سوريا وعدد كبير من دول العالم منتشرة منذ زمنٍ طويل، إلا أن ما يجري في مناطق النظام يختلف تماماً عن بلدان العالم، حيث ازداد عدد الأخطاء لتصل إلى 9 حالات خلال الأشهر الماضية، وفقاً لما نشرت عدّة مواقع ووسائل إعلام تابعة للنظام ورصدتها “صدى الشام”، ولعلَّ من أبرز تلك الحالات، قصّة الشابة السورية مايا رامي زيدان، التي توفيت جراء عملية تجميل.

وبحسب “شبكة عاجل الإخبارية” فإن زيدان توفيت في الثاني عشر من شهر آذار آذار الماضي، ويقول والد الفتاة المقيم في رومانيا ويعمل فيها طبيباً أيضاً، إن ابنته أصرّت على إجراء العملية “في بلدها” بعدما “تركت مستشفيات أوروبا كلها”، فنزل عند رغبتها، ووافق على سفرها إلى دمشق لإجراء العملية التي انتهت بوفاتها.

وأضاف والد الفتاة الضحية، أن ابنته كانت تريد إجراء عملية تُصنّف ضمن “الطب التجميلي” وهي “شد المعدة” إلا أنها “خرجت بالنعش” بعد العملية، موضحاً أن الطبيب الذي أجرى لها العملية سبق له أن أودى بحياة سبع ضحايا آخرين في عمليات جراحية، إلا أنه أوضح أن هذا الطبيب اعترف بـ “أربع حالات” فقط لأشخاص توفوا بعد إجرائهم العمليات.

وشرح والدة الفتاة أنه كان يتابع مجريات العملية من خلال الاتصالات الهاتفية التي كان يجريها مع الطبيب وبقية الفريق الطبي، موضحاً أن ابنته أصيبت بعد خروجها من العملية الجراحية بـ”خطأ طبي قاتل” تمثل بـ”انسداد معوي” أجرى الطبيب على إثرها لها عملية جراحية ثانية استمرت أكثر من 4 ساعات، أصيبت نتيجتها بالتهاب رئوي حاد بسبب “جرثَمَة” تعرّضت لها، ليتم الإعلان عن وفاتها بعد ذلك.

لا رقابة

كل هذه الانتهاكات تحصل، والنظام ومؤسّساته الصحّية لا تحرّك ساكناً، ولا تعطي أي رد بخصوصها، علماً أن كلّاً من وزارة الصحة السورية ونقابة أطباء سوريا مخوّلتان بالرقابة على الواقع الصحي والطبي في البلاد ومنع حدوث تلك التجاوزات.

وكان النظام قد حدّد بالقرار التنظيمي رقم 79/ت تاريخ 15-12-2004 والمعمول به منذ 15/2/2005، العقوبات الخاصة برفع أسعار الرعاية الطبية وتجاوزاتها، لكن بحسب تبرير مسؤوليه فإنه “من الصعب أن تعلن المشافي الخاصة عن أسعار الخدمات الطبية لكثرتها” حيث يشكّل هذا التبرير تملّصاً من الرقابة على الأسعار التي تضعها المشافي في مناطق النظام.

يقول مسؤول في الوزارة: “إن المشافي الخاصة لا تتضمن تصنيفاً معمولاً به في تحديد الأجرة من حيث درجتها وسعر ليلة الإقامة، التي تختلف أيضاً حسب تجهيزات المشفى، بل تتنوع في المشفى الواحد أجرة إقامة الغرف طبقاً لتجهيزاتها، كالتكييف والهاتف والتلفاز وغيرها، ويكون التصنيف بشكل تقريبي، وقد كان ذلك التصنيف محدداً منذ أواخر عام 2012 لكنه أوقف بسبب الظروف الراهنة”.

من جهتها عزت “نقابة أطباء سوريا” الارتفاع الكبير في أجور الرعاية الطبية إلى “الارتفاع الكبير في أسعار الأدوات والمعدّات الطبية التي غالباً ما تكون مستوردة من خارج البلاد”.

وضرب نقيب أطباء سوريا عبد القادر حسن مثالاً، بأن “عملية الزائدة عبارة عن ست وحدات طبية، وأجرها 36000 ليرة للطبيب، بينما نجد أن ما ارتفع وبشكل كبير هو أجور الأدوات والمواد المستعملة في العمل الجراحي، حيث تضاعف سعرها عشرات المرات، إضافة لارتفاع أجور الإقامة في المستشفيات”.

وأضاف الحسن أن المسؤول عن عملية الرقابة على المشافي هي لجان تفتيشية من محافظة دمشق، إلا أن عملها يقتصر على المشافي العامة، ولا سلطة لها على القطاع الخاص، حيث تعتبر وزارة الصحة الجهة الوحيدة المخولة بذلك، ويقتصر دورها على تلقي الشكاوى من المواطنين، وفي حال وجود مخالفة تلزم المشفى إما بتعويض المريض أو إرجاع جزء من المبلغ المدفوع له.




المصدر