تهويم.. أم واقعية سحرية!


علي الكردي

رحل غابرييل غارسيا ماركيز الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، تاركًا بصماته “السحرية”، ليس على أدب أمريكا اللاتينية فحسب، بل على الأدب العالمي برمته، حيث أصبح علمًا من أعلامه البارزين، بعد أن حاز جائزة نوبل للآداب عام 1982، عن روايته (مئة عام من العزلة) التي مزج فيها الواقع والعادات، بعوالم الخرافة والأسطورة. وإذا كانت تلك الخلطة الأدبية التي تنتمي إلى الواقعية السحرية قد حملت للمتلقي الإدهاش والمتعة؛ فإنها في الوقت ذاته فتحت أفق الكتابة على فضاءات لا نهائية، وشرّعت الأبواب أمام الكثير من كتّاب العالم على مقاربة موضوعات جديدة بجسارة، دون خوف، كأن عالم القص والحكايات بات بلا حدود، وليس ثمة ما يمنع الكاتب من التخييل والعوم كما يشتهي.

كان لهذه المسألة وجهان: أحدهما إيجابي، والآخر سلبي. فتح الوجه الإيجابي الطريق أمام الكتّاب الذين يمتلكون الموهبة، والخيال الجامح، لخوض مغامرة التجريب، دون وجل. منهم روائيون عرب، مارسوا شغفهم بالقص واللعب بالكلمات، أجادوا وأنتجوا أعمالًا إبداعية، أضافت الكثير إلى رصيد الأدب الروائي العربي الحديث. بيد أن الوجه السلبي قد فتح الطريق -أيضًا- أمام أنصاف الموهوبين وأصحاب الخيال المحدود، كي يخوضوا –تحت ذريعة الواقعية السحرية– في موضوعات على شكل تهويم أدبي، ما أنزل الله به من سلطان. تهويم هو أقرب إلى الخرافات، منه إلى توظيف الخرافة والأسطورة، لإغناء عوالم الرواية، بالمتعة والإدهاش والدلالات التي تحكمها في نهاية المطاف سياقات معينة، تحترم عقل المتلقي، وثقافته. مثل هؤلاء الكتّاب لا يمتلكون “نزوة القص المباركة” التي تحدّث عنها ماركيز، وليس لديهم ذلك الشغف “في مشاركة الآخرين في لحظات السعادة والاكتشاف والتقاط الأفكار التي تتحول إلى روايات، أو سيناريوهات سينمائية”، بل هم -بتقديري- يستسهلون الكتابة، ويهرفون بما لا يعرفون، ظنًا منهم أن الواقعية السحرية بلا معايير أدبية، أو جمالية، أو تقنية للكتابة، تفرض عليهم الالتزام بها؛ لذا راحوا يصولون ويجولون في استدعاء أحداث، وشخصيات واقعية، أو افتراضية من التاريخ، أو الراهن، ومزجها في سياقات لا يعرف المتلقي من أين تبدأ، وأين تنتهي، ولا يستطيع -مهما حاول أن يقرأ بعين موضوعية متفهمّة- أن يربط بين أحداث الرواية، وشخصياتها، ودلالاتها. قد يشكك القارئ للحظة بقدرته على تفكيك النص، وفهم دلالاته، وقد يُعاود القراءة مرّةً أخرى، محاولًا التدقيق والتمعّن في أدق التفاصيل، لكنه يكتشف أن العيب ليس في قراءته، وإنما في تهويم الكاتب الذي ملأ نصه حشوًا، والتباسًا بلا معنى، أو ضرورة، فقط كي يُقال: إن الرواية حافلة بالتخييل، وعوالم الخرافة والأسطورة؛ وبالتالي هي تنتمي إلى الواقعية السحرية، أو على الأقل إلى “واقعية بلا ضفاف”. أو إلى مدارس التجريب الحداثي، بينما هي في الحقيقة بعيدة عن كل تلك التصنيفات.

لقد كافح كتّاب الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، ومنهم ماركيز من أجل حفر أسسها، وبلورة مرتكزاتها. كان ماركيز الوارث بامتياز لحكايات والدته التي كانت تجيد فن القص بعفوية، دون أن تعرف شيئًا عن تقنيات الأدب وتياراته، ولهذا ربما كتب في أواخر حياته (عشت لأروي) التي جمع فيها ما بين السيرة الذاتية، واللعبة التشويقية، ليؤكد على فكرة “الحكواتي”، وشغف الكاتب بالحكي وقص الروايات، حيث الكلمات هي مكان إقامته الحقيقي، وهو الذي عاش “عزلته” إلى أن أصابه المرض فقال: “إن العزلة لم تعد ممكنة”.

بدأ ماركيز مسيرته مراسلًا صحفيًا، لكن تحقيقاته كانت تحمل بذور القص الروائي، ثم كتب القصة القصيرة، والسيناريو السينمائي، وصولًا إلى توقيع بصمته “الواقعية السحرية” مع (ليس للجنرال من يكاتبه) و(مئة عام من العزلة)، ومن ثمّ ترسيخها في روايته الشهيرة (خريف البطريرك) و(قصة موت معلن) و(الحب في زمن الكوليرا)، وأخيرًا بسيرته الذاتية (عشت لأروي) و(ذاكرة الغانيات الحزينات). بهذا المعنى قطع شوطًا طويلًا، كي يكرّس نفسه، كأحد رموز “الواقعية السحرية”، ومثله فعل كتّاب آخرون في أمريكا اللاتينية، فهل يجهد كتّابنا في حفر طريقهم للوصول إلى ما يطمحون؟!

أدهشني منذ فترة مقالٌ قرأته عن قلق ماركيز، وخوفه من مخطوط روايته (مئة عام من العزلة)، لذا قبل أن يرسله إلى النشر، أرسل بعض فصوله إلى صحف أدبية، كي يرصد ردّات أفعال القرّاء والنقّاد، ويقطع الشك باليقين، كذلك قرأ فصلًا من مخطوط الرواية في ندوة أدبية، واستمع إلى آراء الحاضرين، وبالفعل عدّل في بعض فصول الرواية، قبل أن يدفع بها إلى النشر. ذلك القلق الإبداعي لكاتب كبير، بوزن ماركيز، هو درس بالغ الأهمية، على الكتّاب السوريين أن يتأملوه جيدًا، لا سيما حين يحاولون اليوم مقاربة الحدث السوري الذي لم تكتمل فصوله بعد، على الرغم من كل ما أصاب البلاد من موت ودمار؛ إذ ليس من السهل مقاربة تعقيدات المشهد فنيًا، والخوض فيه، قبل مسافة زمنية تسمح للكاتب في تأمّل تداعياته، والإحاطة بأبعاده المركبة، وبالتالي امتلاك مفاتيح إعادة صياغة عمارته فنيًا، بشكل يرتقي إلى مستوى الحدث، وأوجهه المتعددة.

أتساءل: هل يمتلك الكاتب المتعجّل الذي يبدو كأنه في سباق مع الزمن قلقًا إبداعيًا على نصه، كقلق كاتب كبير مثل ماركيز؟! أم أنّ الاستسهالَ في نشر كتابات، تحت مسمّى “رواية”، بينما هي ليست أكثر من مجرد خواطر ذاتية لا يربط بينها رابط، هو الشغل الشاغل لهؤلاء؟!

لا أدعي أنني قرأت كل ما كُتب من روايات تقارب الحدث السوري، لكنني قرأت الكثير ممّا صدر، ولم أجد -حتى الآن- عملًا يرتقي إلى مستوى الحدث، يكون محبوكًا ومشحونًا بالتوترات والجماليات والتشويق والبناء الفني المتماسك. بعض الأعمال هي أقرب إلى “الربورتاج” الصحفي، وبعضها غارق في تلك “التهويمات” التي يظن صاحبها أنها تنتمي إلى الواقعية السحرية.

في كلّ الأحوال، الزمن كفيلٌ بغربلة تلك الأعمال؛ وبالتالي سوف يطوي الغبار الأعمال الرديئة، ويحتفي بالأعمال الأصيلة التي لا شك أنها سترسخ في ذاكرة المتلقي ووجدانه، وتحتل المكانة التي تستحق، على صعيد الأدب السوري والعربي، وربما العالمي.




المصدر