“مناطق خفض التصعيد” والحل السياسي


عقاب يحيى

تثير الاتفاقات المتلاحقة فيما يعرف بـ “خفض التصعيد” نقاشًا وجدلًا واسعَين، بين مؤيد ومعارض، وبين هذا وذاك.

المؤيدون الذين ساهم قسم منهم، عبر الفصائل العسكرية، بالتوقيع على الاتفاقات بعد أن باتت أمرًا واقعًا من قبل الدول التي أبرمتها، يرون أنها سبيل لوقف إطلاق نار فيها، وتأمين وضع أمني يحتاج إليه الناس، وتلبية لمطالب شعبية بعد الإرهاق طوال السنوات من فعل حرب إبادية، تدميرية أخذت معها عشرات آلاف البشر ومعظم البنى التحتية، وحملت معها الحصار، والخوف والتجويع، والهجرة والتهجير، وجملة من المعاناة التي لا تحتمل، في حين أن جولات المفاوضات في جنيف لم تثمر شيئًا، ولم تقدّم أي خطوة ملموسة.

المعارضون يتخوفون من مجموعة من المعطيات الظاهرة والمخفية، ومنها على سبيل المثال، مستقبل هذه المناطق من وحدة سورية، حيث الخوف من أن تتحول إلى مناطق نفوذ لهذه الدولة أو تلك، وتترافق مع خلق كيانات شبه مستقلة، فضلًا عمّا تقدمه من فوائد للنظام بترسيخ وجوده، ومنحه أدوارًا لم يتخيل الثوار أن يلعبها بعد كل هذه السنوات، ناهيك عن أن اتفاق الجنوب يتبنى أساسًا حماية حدود “إسرائيل”، ورعاية أمنها، وهو ما لم يحدث في المناطق الأخرى، حين تضمّن الاتفاق إبعاد الوجود الإيراني والمليشيات الطائفية، مسافة 30 إلى 50 كم، بينما رفض ذلك، على سبيل المثال في الاتفاق الموقع حول ريف حمص الشمالي. كذلك الأمر في إدخال النظام المصري طرفًا رئيسًا وضامنًا، وهو الذي يتخذ مواقف مؤيدة للنظام. والقرارات الدولية ذات الشأن بالوضع السوري، وهل هي بديل، أم تمهيد لفرض نمط ما من الحل السياسي ببصمة روسية قوية، وأين مصير أستانا مما يحدث؟

بدأت “الحكاية” من أستانا بمبادرة روسية، بعد هزيمة الفصائل في حلب، لفرض وقائع جديدة، ومحاولة ملء فراغ محتوى مفاوضات جنيف، وقد حاول الروس مرارًا -عبر مشاريع كانوا يتقدّمون بها- خلقَ مسار مواز أو بديل لجنيف، وعدم الاكتفاء بعملية وقف إطلاق النار، وأيضًا باستبدال الهيئات السياسية للمعارضة بالعسكرية منها، وحين رفضت الفصائل بحْث الجوانب السياسية، وتمسّكت بمرجعية الهيئة العليا، وبجنيف مسارًا وحيدًا للمفاوضات؛ تراجعت روسيا عن مبادراتها، لكنها لم تلغها، وقد نجحت، أمام انسداد مسار جنيف، وعدم بلورة موقف أميركي حازم من الحل السياسي، واهتمام الإدارة الأميركية بعنوان وحيد هو محاربة الإرهاب والقضاء عليه، وتقليم، أو تحجيم الدور الإيراني. بحدود ما، ظهر ما يشبه التفويض الأميركي لروسيا بالملف السوري، وتأييد خط “تخفيض التصعيد”، وقد دخلت بقوة في إنجاز اتفاق الجنوب، بينما لم يظهر دورها الواضح في اتفاقيتي الغوطة الشرقية، وحمص، ولا أيضًا في محاولات التوصل لاتفاق حول بقية ريف دمشق، بينما برز الدور المصري الذي لم يشارك في لقاءات أستانا، وكأنه إنهاض لمحور جديد، على حساب الدور التركي الذي استبعد من اتفاق حمص.

ضمن هذه اللوحة، لم تبقَ سوى إدلب من المناطق المحسوبة على المعارضة، أو التي هي خارج سيطرة النظام، وقد شهدت تطورات درامية، في الأسابيع الأخيرة، بسيطرة كاسحة لـ “تحرير الشام”، أو تنظيم القاعدة على معظمها، وبما يجعلها على طاولة الاستهداف من قبل “التحالف الدولي” وروسيا، والنظام، والخوف كبير من أن تتعرّض لإبادة شاملة، واستهداف للمدنيين والتدمير، شأنها شأن الرقة، وبقية المناطق السورية التي عرفت حروبًا عنيفة، تحت راية محاربة التنظيمات الإرهابية.

بينما ما زال مصير المنطقة الشرقية: دير الزور وما يتبع لها من مناطق وقرى، وصولًا إلى البادية السورية قيد الاتفاقات، والمقايضات بين الأطراف الأميركية والروسية.

الروس ومعهم الأميركيين يتواترون في تصريحاتهم بأن اتفاقات “خفض التصعيد” تمهيد، ومقدمة للحل السياسي، وأنه بنجاح هذه الاتفاقات، وشمول وقف إطلاق النار كافة المناطق السورية؛ سيكون الطريق سالكًا للحل السياسي، وهناك تصريحات عن مواعيد محتملة لبدء مفاوضات بين النظام والمعارضة يمكن أن تكون في الشهر التاسع أو العاشر.

الواضح -حتى الآن- أن السيناريوهات المطروحة، للحل السياسي، روسية الروح والصناعة، وأن الدور الأميركي فيها هامشي، وأقله لم يبرز صريحًا حتى الآن.

تطرح روسيا صيغًا طالما كررتها عبر السنوات، وتسرّب عددًا من التصورات والخيارات، وجميعها تنطلق من الإبقاء على النظام برأسه، ومؤسساته الرئيسة، على الأقل لفترة انتقالية قد تزيد عن ستة أشهر، يمكن بعدها، وعبر تشكيل حكومة انتقالية، وصياغة دستور للبلاد، والشروع بانتخابات رئاسية ونيابية أن يحدد مصير رأس النظام، بينما هناك في السوق السياسية، تسريبات متناوبة عن تشكيل مجلس رئاسي من خمسة (يضمّ المكوّنات الرئيسة) متوازعة الصلاحيات، وتخفيض صلاحيات رأس النظام، وكذا الحديث عن حكومة وحدة وطنية، أو انتقالية مختلطة بين النظام والمعارضة والمستقلين.

في الوقت نفسه، تشتدّ الضغوط على هيئات المعارضة، الائتلاف عمومًا، والهيئة العليا للمفاوضات بوجه الخصوص، للقبول بهذه العروض، والتخلي عن ثوابتها المتعلقة بالموقف من رأس النظام وكبار رموزه، عبر رفض مشاركته في المرحلة الانتقالية، وإنهاء دوره، ومحاسبة الملوثة أيديهم بدماء السوريين، ويتناول الضغط أيضًا توسيع قاعدة التمثيل، بضمّ منصّتَي القاهرة وموسكو، وربما أكثر، وإلا فإن كلامًا منتشرًا يفيد بوجود تحضيرات جدّية لإيجاد هيئات جديدة بديلة.

الواضح في هذه التطورات أن بيان جنيف 1 لم يعد قاعدة الحلّ السياسي، بخاصة من جهة تشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، وبقية البنود التكميلية. كما أن مواقف الدول المحسوبة، على أنها أصدقاء الشعب السوري، قد تبدّلت بوضوح في ما يتعلق بمصير رأس النظام، ودوره، وهو الأمر الذي يملي على قوى المعارضة دراسته بكل الجدّية، والبحث عن مخارج واقعية تضعها ضمن المعادلة، وتتيح لها لعب دور في الحل السياسي، وصياغة مستقبل البلاد.




المصدر