العقل العربي وتحدِّيات التخلُّف


محمود الوهب

السؤال الذي أعجز المثقفين العرب، ولا يزالون في أسبابه يختلفون، هو: لماذا تخلَّف العرب، عن ركب الحضارة المعاصرة؟! هذا السؤال الذي ما زال قائمًا رغم المحاولات النهضوية الفاشلة التي قام بها بعض الحكَّام في هذا البلد العربي أو ذاك، استجابة لما، أو تأثرًا بما قدمه المنورون العرب، منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وعبد الرحمن الكواكبي ومن سار -فيما بعد- على خطوهم وهديهم.

إن تلك المحاولات لم تفشل فحسب، بل إنَّ العرب تقهقروا على غير صعيد، تقهقروا على قاعدة “من لا يتقدَّم يتأخر”، وكأنَّما بواقعهم المتخلِّف هذا، يقولون بعكس ما رآه معظم الفلاسفة عن حركة التاريخ التي تسير دومًا إلى أمام.

في الجزء الثاني من كتاب (العقل العربي ومجتمع المعرفة) للدكتور “نبيل علي” الذي صدر ضمن سلسلة (عالم المعرفة) شهر أيلول عام 2009، وبحث في مشكلات العقل العربي المعاصر، وفي أسباب تخلُّف العرب، وعدم قدرتهم على مواكبة ركب الحضارة المعاصرة، يعطي الكتاب الأوليِّة -في هذا المجال- إلى التفكير الخلاق الذي هو أسس عصر التكنولوجيا متعددة الأوجه والميادين.. ويرى أن أسباب غياب هذا النوع من التفكير إنما تكمن في تخلّف أنظمة التعليم، وفي طرقه السائدة غير القادرة على تخريج أجيال تتمتع بأنماط تفكير نقدية مبدعة، ويرى، كذلك، أن ذلك النقص يشير إلى أنَّ نظم التعليم في البلاد العربية ما تزال تراوح مكانها، وأن غاية ما يحققه المتعلمون، هو الحدود الدنيا في سلم المعرفة غير المتناهي. أما القائمون على التعليم في البلاد العربية، فلا يتطلعون إلى المدى الأبعد، حيث مهارة التقييم، وإصدار الأحكام، ولا حتى إلى ما هو دون ذلك من مهارات الفهم، والتطبيق والتحليل والتركيب. هذا النمط من التعليم التلقيني موجود في المدارس على اختلاف درجاتها، ومراحلها، إضافة إلى وجوده في الجامعات التي تنهج هي الأخرى نهج المدارس نفسها.

فـ: “التعليم الجامعي الذي شمله داء التلقين، ما عاد يشغل نفسه بالتفكير، فلا يوجد في أيّ من جامعاتنا مقرر واحد للتفكير النقدي الذي قال عنه بعضهم: إنّ مقررًا واحدًا لتدريس التفكير النقدي لأجدى نفعًا من أربع سنوات من التعليم الجامعي”.

ويقارن بين عصرين تعليميين، هما عصر الصناعة الذي اعتمد على التلقين لتخريج كوادر، تلبية لحاجتها في أعمال محددة، وعصر المعلوماتية الذي يتطلب العناية بالملكات الشخصية التي تميز المتعلّم عن غيره، و”التفكير، بلا جدال، يأتي على رأس قائمة هذه الملكات إضافة إلى كونه عاملًا أساسيًا في تنمية الملكات الأخرى”.

ويتخذ المؤلف في هذا المجال حكمة كونفوشيوس عن التعليم قاعدة له، وأساسًا، تقول الحكمة: “تعليم بلا تفكير جهد ضائع، وتفكير بلا تعليم أمر محفوف بالمخاطر”.

وينتقد كذلك غياب الجانب العاطفي (الروحي) عن نظمنا التعليمية، فيقول: “على الرغم من ثبوت أهمية الدور الذي تمارسه المشاعر في حبّ العلم والتعلّم والنفور منها، ما زال الجانب العاطفي في عملية التربية مجهولًا وغائبًا أو مغيبًا”. والمقصود بالجوانب العاطفية في ما نعرف، هو تعليم الفنون بأنواعها، تلك الفنون التي تعتمد على الأنشطة التي تساهم في تفتيح مواهب الشخصية وتميزها من غيرها، وتنمي فرادتها وتقوي وجودها في الحياة، فالرسم والموسيقى والمسرح والرياضة والقراءة والكتابة المستقلتين عن المناهج، وغير ذلك من الفنون التي لا يعيرها التعليم العربي اليوم أيّ اهتمام فعلي، لا تدخل في حساب الدرجات النهائية، وبالتالي لا يجري الاهتمام بها ولا بالكوادر التي تساعد على تنميتها. ومن هنا يرى المؤلف أنّ: “الإنسان مبدع بالفطرة، والتحدي الحقيقي هو في إيجاد الطرق العملية لتفجير هذه الطاقة الكامنة في عقولنا، وكيف نرعاها في طفولة نشأتها، ونداوم على تنميتها على مدى مراحل عمرنا”.

قسم المؤلف جزء كتابه الثاني إلى ثلاثة أقسام رئيسة:

الأول: التفكير النقدي، رؤية معلوماتية-عربية، ومنه تلك الشواهد السالفة، أما الفصل الثاني فعنونه بـ: ثلاثية العقول، رؤية معلوماتية عربية. وفيه يتحدّث عن إمكانية دمج عقول ثلاثة في عقل واحد: العقل الإنساني، والعقل الآلي، والعقل الجمعي الذي يدمج العقلين الأول والثاني في عملية الاتصال والتواصل. ويشير الكاتب إلى أنه كلما “ارتقت التكنولوجيا وارتقى معها المجتمع؛ أظهرت ثلاثية القول خاصتين مميزتين أولاهما: زيادة قابلية الاندماج فيها، حتى تنصهر مكونةً ما يمكن أن نطلق عليه عقلًا كليًا جامعًا عقل مجتمع التعلّم، ذروة ارتقاء المجتمع الإنساني، بعد أن يسمو متجاوزًا مجتمع ما بعد الصناعة، ومن بعده مجتمع المعلومات، فمجتمع المعرفة”. وثانيتهما: “توجه نحو مزيد من التماثل البنائي والوظيفي ما بين العقول الثلاثة، ويرجع التماثل البنائي إلى الطابع الشبكي الكثيف الذي يتميز به العقل الإنساني أصلًا.. ويسعى إلى التحلي به كلا العقلين الآلي والجمعي.. أما التماثل الوظيفي فمرجعه إلى أنَّ العقول الثلاثة ترنو إلى تحقيق الهدف نفسه وهو التصدي لتعقد الواقع”.

في الفصل الثالث المعنون بـ: “اللغة نهجًا معرفيًا”، رؤية معلوماتية عربية. يتناول المؤلف اللغة على “أنها الوسيلة لإصلاح عقولنا، ولتنمية تفكيرنا ولزيادة إسهامنا في إنتاج المعرفة”، ويتحدث في هذا الفصل عن اللغة والأدب والمعلوماتية، وعن فجوة العقل اللغوي العربي إذ يقول: “تواجه اللغة العربية تحديات جسامًا، إزاء النقلة النوعية الحادة لمجتمع المعرفة، فقد فرضت عليها -مثل لغات العالم الأخرى- ضرورة تلبية مطالب المجتمع الذي تمارس فيه اللغة دورًا محوريًا، في الوقت الذي تعاني فيه العربية أزمة حادة: تنظيرًا وتعليمًا وتوظيفًا وتوثيقًا، وقد أظهر الإنترنيت، على صعيد البحث، أو البث، مدى حدة هذه الأزمة الطاحنة التي ترسخت حتى كادت تصبح عاهة حضارية شوهاء”.

وأخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أن التعليم التلقيني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظم الاستبدادية والأوتوقراطية -بعامة- القائمة على حكم الفرد أو الأسرة القبيلة، فهي وحدها التي تستمر بفضل تعليم كهذا، فهذا النمط التعليمي يشلُّ العقل، ويبقيه على ما هو عليه. وقد أشار عبد الرحمن الكواكبي -منذ مئة عام- إلى هذا الأمر، في كتابه (طبائع الاستبداد)!.




المصدر