من تل الزعتر إلى اليرموك المجرم واحد


مهند شحادة

تأخذ معاناة اللاجئين الفلسطينيين داخل مخيم اليرموك، جنوب العاصمة السورية دمشق، أشكالًا وأبعادًا “مبتكرة”، فمنذ أن حسم أبناء المخيم أمرهم بالانحياز إلى جانب الحناجر الهاتفة للحرية والكرامة في ساحات سورية؛ أدركوا أن مجازر “تل الزعتر” و”أيلول الأسود” ستمتد بأساليب أكثر قذارة، نحو حدود مخيمهم والمدماك الأول في هويتهم الوطنية.

لم يك لدى أبناء اليرموك أي أوهام تتعلق مثلًا بأن تخجل آلة قتل النظام للسوري احترامًا لكذبته أو شعاراته المعلبة التي اعتاش عليها الأخير، على مدى نصف قرن من الزمن، وكانت السمسرة بقضيتهم أحد أهم أركان تثبيت حكمه والإيغال في استعباد الشعب السوري.

اليوم، يدفع أبناء المخيم ثمن عقود من الصمود والمعارك، خاضتها حركتهم الوطنية دفاعًا عن كرامة المخيمات ضد نظام الأسد الأب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وثمن عجز ذلك النظام عن هزيمة المخيمات وتدجينها، ولا سيّما اليرموك بما يعنيه من حالة رمزية في الوجدان والذاكرة الفلسطينية.

بلغة الأرقام: أكثر من 3500 شهيد فلسطيني، منذ بداية الثورة السورية، نحو نصفهم من مخيم اليرموك، وما يقارب 12000 معتقل ما تزال صور من قضى منهم تحت التعذيب، جوار إخوتهم السوريين، تتوالى دوريًا، وبلغة الأرقام أيضًا: 50 بالمئة من فلسطينيي سورية مهجرون، ونسبة الدمار في مخيماتهم جاوزت 80 بالمئة، على صعيد البنى التحتية والفوقية.

في هذا السياق، قال الناشط بشار عمرو لـ (جيرون): “هل سنناقش اليوم مدى إجرام النظام السوري وأدواره القذرة في القضية الفلسطينية، بل في مجمل ملفات المنطقة! أعتقد أن هذه المسألة أصبحت من البدهيات. شباب اليرموك كانوا يدركون -منذ البداية- أن ما حدث في تل الزعتر سيتكرر في مخيمهم، بطرق أبشع وأكثر دموية”.

أضاف عمرو: “لا تسأل أحدًا من أبناء المخيم إن كانت المقارنة أو المقاربة بين الاحتلال الإسرائيلي والنظام السوري ومجمل النظام الرسمي العربي تصح، لأنه ببساطة سيخبرك أن الأسد كان -وما يزال- الأداة الموكل إليها تمزيق الحلم الجمعي للفلسطينيين وقتله، فكل ما عجزت (إسرائيل) عن فعله بالفلسطينيين فعلَه الأسد الأب، واليوم يستكمل الابن ما بدأه والده”.

في السياق ذاته، قال الناشط أحمد أبو جهاد لـ (جيرون): “ما يحدث اليوم في اليرموك ربما هو امتدادٌ طبيعي لحرب المخيمات التي شنها نظام الأسد الأب وميليشيات طهران، في ثمانينيات القرن الماضي، وها هو الابن -اليوم- يستكمل الحرب بالاستناد إلى الأدوات ذاتها، وكذلك ما زالت متواصلة في لبنان أيضًا، باختصار شديد؛ النظام السوري اليوم يصفي حسابات عقود طويلة من الصراع المرير مع المخيمات، وهذه المرة جماجم أبناء اليرموك هي الثمن”.

أبو جهاد شدد على أن “المخيمات لم تنتصر سابقًا، إلا أنها لم تُهزم -بالمعنى السياسي- وحافظت على رمزيتها ووجودها، كأحد أبرز عناوين القضية الفلسطينية والمنطقة، اليوم هناك شك كبير في أنها تستطيع الصمود، لاعتبارات عديدة، أهمها الافتقار إلى مظلة سياسية قادرة على تشكيل سياجٍ يحمي ما تبقى منها، بل على العكس (منظمة التحرير) الآن تبدو أكثر الأطراف ارتياحًا للخلاص من هذا الملف الذي سيعيق طريقها نحو التسويات الكبرى التي تلوح في أفق المنطقة”.

حالة الصدمة لدى أبناء اليرموك وبقية المخيمات جاءت من “منظمة التحرير الفلسطينية” وفصيلها الأكبر (فتح) التي قادت، بزعامة الراحل ياسر عرفات، أشرس المعارك دفاعًا عن استقلالية القرار الفلسطيني ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين. الآن وبحسب العديد من ناشطي اليرموك، نسفت الأولى كامل الإرث الوطني والسياسي لأدبيات القضية الفلسطينية، من خلال التحالف مع النظام الفاشي في دمشق.

بعض ناشطي اليرموك ذهب إلى أن المنظمة لعبت أدوارًا أمنية عديدة، “لإنقاذ” نظام الأسد من المساءلة الدولية، وأبرز تلك الأدوار كان عشية مجزرة الكيماوي، في الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس عام 2013، موضحين أن “المنظمة”، بناء على الدور المعطى لقيادتها، بادرت بالتدخل لدى موسكو وواشنطن، لاستبعاد الخيارات “المتطرفة” تجاه النظام، وصولًا إلى حصر المسألة بتجريده من ترسانته الكيماوية.

مشددين على أن الأدوار التي لعبتها المنظمة تمددت شمالًا وجنوبًا في سورية، وكان لها دور كبير في إتمام صفقات تبادل الأسرى بين (النصرة) والنظام وميليشيا (حزب الله)، وبين (داعش) والثانية، إضافةً إلى دورها في مخيم اليرموك بناءً على صراعها مع (حماس)، بكل ما حمله من تناقضات إقليمية، استنادًا إلى تحالف كل من الطرفين، وانتهى أخيرًا بسيطرة (داعش والنصرة) على المخيم، وإعدام أي إمكانية للحفاظ عليه، كأحد أبرز معاقل الوطنية الفلسطينية.

في هذه الشأن، قال عمرو: “الصدمة كانت في البدايات فقط، تحديدًا مع بداية العام 2013 عشية (نكبة اليرموك) والصمت المريع للمنظمة -آنذاك- أمام مأساة بهذا الحجم، بعد ذلك كل ما حصل هو تحصيل حاصل، ببساطة ضمن المعطيات التي عايشناها خلال تجربة السنوات الماضية كل ما فعلته المنظمة أنها منحت غطاءً سياسيًا للنظام وأدوات طهران للإمعان في إنهاء المخيمات سياسيًا واجتماعيًا، وهذا الدور ينسحب أيضًا على بقية الفصائل، وفي مقدمتها (حماس) التي وجدت في اليرموك ساحة مناسبة لتصفية حساباتها مع المنظمة وحركة (فتح)، ومن جهةٍ أخرى لتعزيز تحالفاتها الإقليمية الناشئة، والثمن -للأسف- كان خسارة (عاصمة الشتات الفلسطيني) اليرموك”.

يتفق معظم مَن عايش التجربة، من أبناء المخيم، خلال السنوات الست الماضية، على أن الخوضَ كثيرًا في مسألة البحث عن الأدوار التي مارستها القيادة الفلسطينية وبقية الفصائل في سورية، لم يعد مجديًا، وبرأيهم قد يكون من الأجدى الانتقال من خطاب الضحية والحنين، ومحاولة تفنيد معالم الفجيعة والخذلان، نحو البحث عما يمكن أن يقود إلى تجاوز تداعيات هذه المرحلة، وهو ما يتطلب -حسب اعتقادهم- زمنًا طويلًا قبل أن يتمكن جيل جديد من أبناء الشتات من تعريف نفسه وموقعه ضمن ملفات القضية الفلسطينية، وما سيطرأ عليها من تغيرات.

في هذا الجانب، قال أبو جهاد: “بالتأكيد لم يعد مفيدًا البحث كثيرًا في مدى إمعان منظمة التحرير وكافة الفصائل الفلسطينية بتدمير المخيمات، واتخاذهم مواقف سياسية إلى جانب القتلة، وليس مجديًا أيضًا الدوران في حلقة مفرغة، عنوانها مطالبة منظمة التحرير بأن تتحمل مسؤولياتها”.

لفت إلى أن “قيادة المنظمة التي لم تتحرك ولم تهتز لمشاهدة العشرات من أبناء المخيم يموتون جوعًا طوال سنوات الحصار، ولم تشعر بوخز في ضميرها من صوت ذلك الأب في أحد شوارع اليرموك، وهو يتضرع إلى الله كي تسلم ابنته الروحَ بين يديه، أملًا في إنهاء ألم أمعائها الخاوية وألم عجزه، فهل يمكن أن تتحرك لأي سبب آخر! أعتقد أن التفكير بهذه الطريقة هو ضرب من العبث”.

من جهته قال عمرو: “أعتقد أن من الأهمية بمكان، البحث الآن عن أدوات وروافع جديدة، لتشكيل أرضية مناسبة مختلفة عن الماضي فيما يتعلق بتعريف الوطنية الفلسطينية، وربما يكون أولها أن نقتنع جميعًا باجتراح آليات تفكير بإمكانها الانتقال إلى مرحلة ما بعد المخيم، بكل ما تعنيه سياسيًا وجغرافيًا واجتماعيًا، دون ذلك سنبقى نراوح في مكاننا، ونصف واقعًا أصبحت كل مخرجاته وخلاصاته شديدة الوضوح”.




المصدر