سورية… متلازمة الثورتين


المدن

ماذا يمكن أن نفعل؟، أبرز سؤال تطرحه نخب موالية للثورة السورية، هذه الأيام، أو تتحدث في هوامشه. وبعضها يطرح حلولاً نظرية عامة،من دون تفاصيل عملية قابلة للتطبيق، فيما يصارح بعض هذه النخب جمهوره بأن جيل الثورة السورية التي اندلعت عام 2011، لن يشهد تحقيق تطلعاته. وأننا قد نكون بانتظار ثورة ثانية، في أفق زمني قريب، ينفّذها جيلٌ خَبِر دروس الثورة الأولى وسقطاتها.
في تاريخ الثورات، تظهر متلازمة تغلب على معظمها، قد ندعوها متلازمة “الثورتين”. ففي الأولى يفشل الثوار في تحقيق تطلعاتهم، ويكون مآل نضالهم مخيباً للآمال. وتنتكس بلدانهم، في أغلب الأحيان، إلى حالة أسوأ مما كانت عليه، قبل الثورة ذاتها. لكن بعد جيل واحدٍ، وأحياناً، في الجيل نفسه، تندلع ثورة ثانية، يكون مفجروها أكثر خبرة وحنكة، ويحرصون بشدة على تجنب السقطات التي آلت إليها الثورة السابقة. وتكون النتيجة، وضع بلدانهم على سكة تحقيق الحلم الأول، الذي اندلعت من أجله الثورة الأولى. حلم الحكم الديمقراطي الرشيد.
عاشت بلدان كثيرة تلك المتلازمة، أبرزها، بريطانيا، التي شهدت في القرن السابع عشر، ثورتين، آلت الأولى إلى حرب أهلية دموية، تلاها حكم ديكتاتوري فردي، تلاه عودة للملكية، قبل أن تندلع ثورة ثانية، خلال أقل من نصف قرن، أدت إلى تأسيس أقدم نماذج الحكم الرشيد، في العالم الغربي، الذي تطور تدريجياً، حتى وصل إلى الصيغة التي نعرفها اليوم في المملكة المتحدة.
كذلك، عاشت فرنسا متلازمة “الثورتين”. بل ربما عاشت فرنسا، أكثر من ثورتين، خلال القرن التاسع عشر. وكانت مآلات الأولى، عام 1789، مخيبة للآمال، وكارثية. وانتهت بعد عقدين ونصف إلى عودة الملكية. لكن الحكم الفرنسي لم يستقر خلال القرن التاسع عشر، وعرف عدداً كبيراً من الهزات، أبرزها، ثورة “كومونة باريس”، قبل أن يستقر الأمر في حكم جمهوري تطور تدريجياً حتى وصل إلى الصيغة التي نعرفها اليوم في فرنسا.
الحالة نفسها، عرفتها روسيا، التي عاشت ثورة فاشلة عام 1905، تمكن القيصر من سحقها بعنف. لكن بعد 12 عاماً فقط، عرفت البلاد ثورة ثانية، كان جُلّ قادتها من الناجين بعد فشل الثورة السابقة. وتمكنوا من إنهاء الحكم القيصري للبلاد، خلال بضعة شهور.
لكن، لماذا يتطلب الأمر ثورتين، في كثير من الأحيان، حتى تسير البلاد في المسار الديمقراطي؟ الجواب ببساطة، أن الأمراض الاجتماعية الناجمة عن الحكم الشمولي للأنظمة التي تقوم عليها الثورات، تتكشف جميعها خلال الثورة الأولى، فتؤول إلى مآلات كارثية. أبرز تلك الأمراض، عقلية “الغلبة”، والحلول الصفرية في الحكم. ذلك المرض تحديداً، يؤدي إلى احتراب الثائرين أنفسهم. فتعم الفوضى. وللتخلص منها، يتم القبول بأي متسلط، يستطيع فرض سيطرته، ويؤول الأمر، إلى عودة الأنظمة السابقة للحكم. لاحقاً، الأنظمة التي تعود إلى الحكم، تحاول فرض شموليتها القديمة، لكنها تفشل، لأنها ببساطة، فقدت قدرتها على امتلاك السلطة المطلقة، وباتت هناك مراكز قوى تشاركها تلك السلطة، هي ذاتها مراكز القوى التي أعادتها للسلطة، حتى لو لم تكن جليةً في الواجهة. يقود ذلك في الثورة الثانية، إلى التخلص من نظام الحكم الديكتاتوري بتكلفة أقل من حالة الثورة الأولى، التي يكون فيها الحكم الديكتاتوري، متفرداً بسلطة مطلقة قوية.
في الحالة السورية. ربما، لن تشهد سوريا في مستقبلها المنظور، نظام الحكم الذي تطلع إليه الثائرون عام 2011. بل ربما، يبقى بشار الأسد، في سدة الحكم. لكن هناك فارقاً كبيراً بين بشار الأسد قبل عام 2011، وبين بشار الأسد الذي قد يبقى في سدة الحكم. فالأخير، لا يملك السلطة المطلقة في البلاد. وتشاركه مراكز قوى، كثير منها مُحتسب على قوى خارجية، بعضها ساعده على البقاء في السلطة. لذا، فهو أضعف بكثير مما كان عليه قبل الثورة. وبكلمات أخرى، سوريا في مستقبلها المنظور، لن تخضع لحكم فرد أو عائلة، بل لحكم تقوده نخبة غير متماسكة، تتضمن مراكز قوى مختلفة، وتدعمها قوى اجتماعية أو قوى أجنبية، مختلفة. أي لن تكون سوريا برأس واحد، بل بعدة رؤوس. وذلك سيكون مصدراً لضعف الدولة، ومصدراً رئيسياً لفشلها. لكنه قد يكون، في الوقت نفسه، تمهيداً لحراك ثوري مستقبلي، يكون مفجروه أكثر خبرة وحنكة، وأكثر قدرة على إحلال نظام حكم أفضل. يحقق تطلعات السوريين، وبكُلفٍ أقل بكثير من تلك التي ترتبت على ثورة العام 2011.
لكن، هل تُلام الثورة الأولى على المآسي التي تسببت بها؟.. ربما يندر في التاريخ أن وجدنا تحولاً نوعياً في نمط الحكم، دون ثورات أو خضات دموية. ودون مآسٍ. هو نمط من أنماط التطور الاجتماعي – السياسي، يندر أن نجد مجتمعات نجت منه. لأن النخب التي تحرك ثورة ما، هي نتاج الحقبة التي ثارت عليها. وهي ضحية، وفي الوقت نفسه، جانٍ، في الحقبة التي تليها.

(*) كاتب سوري




المصدر