في الـ “شرعيات” والوطنية السورية


جمال الشوفي

يتنازع الفكر البشري، وبالضرورة سياساته المنتجة أو المولدة، حول “شرعية” الفعل، سواء كانت تقنيةً أو أخلاقية وحتى على مستوى الفكر والفنون، ويذهب بعيدًا في شرعية الاقتصاد وقوانينها الحاكمة وقوى الإنتاج المادي. الشرعية هي المقولة الأكثر حضورًا في تاريخ البشرية، كقول في الحكم وديمومته أو تغييره. هي مقولة مترافقة مع نزعة الضد أو البديل، نزعة الهدم والبناء المخالف لشرعية بديلة، وما تولده من صراع وتنافس وتناحر، يبدو لعالم اليوم هو محرك التاريخ وفحوى نزاعاته الدموية والسياسية العنيفة.

في الشرعية قولان: قول في البديل المترافق مع شروط تشكل الأول، وهذا مسار عام في التاريخ، منذ شرعية قوانين حمورابي وهيمنة فرعون وبسط هيمنة الأديان ومنظومات الدول؛ وقول آخر في العقد الاجتماعي وتراضي الحكم بين البشر، كشرعية عليا تنتظم في قوانين تحكم مصلحة الوجود الإنساني في رقعة من الأرض تسمى الوطن، هي الدستور.

اليوم، في مأزق سورية وثورتها الكليمة، وفي مأزق سورية وكلية شعبها عامة، إن تنازع الشرعيات وعنفه المرافق هو الحاضر الواضح والأبرز، شرعية الديكتاتورية ونظام الاستبداد الأمني والعسكري، شرعية الثورة وفعلها السلمي ومن ثم العسكري، شرعية القوى المتطرفة الدينية وهدمها (المانوي، المثنوي) بعضها بعض، بين سنية وشيعية، شرعية التزاحم العالمي على تقاسم النفوذ في سورية، قلب العالم وجارة “إسرائيل”، شرعية القوة المفرطة الروسية؛ وأيضًا وهم “شرعية” الحكم وسلطة الفصائل وما ينتج عنه من وهم في “خفض التوتر”. أما تلك الشرعية في منظومة الدولة الحديثة وعقدها الاجتماعي، فهي الغائب الحقيقي عن ساحة المشهد السوري، بل المغيبة قسرًا، وكأن كل فصيل، معارض أو موالٍ أو متطرف، يحاول الاكتفاء بشرعية وجوده “الواهمة”، على رقعة من الأرض صغرت أم كبرت.

الشرعية في التاريخ شرعيات: شرعية هيمنة القوى الخفية للطبيعة وعبادتها تجنبًا لشرّها، شرعية قوة الإمبراطوريات الكبرى ومنظومات العبيد، شرعية الحكم الإلهي والعبادة شرط لدخول الجنة، وشرعية الأيديولوجيات المغلقة والمكتملة في العصر الحديث، الماركسية منها والقومية والمعولمة؛ وأيضًا شرعية الفعل الثوري في الثورات وقوة العسكر، وهذا قول آخر يظهر ألمه الدفين في محاولة أمة تنهض ولكنها تتعثر! أما شرعية العقد الاجتماعي في الدولة الحديثة كحد أولي على الهيمنة والسيطرة والديكتاتورية، فهي: “دحض لخطر استئثار هيئة أو فرد بالسلطة واستخدامها في أغراضه الشخصية، أولا. ولضرورة قيام سلطة تنفيذية تسهر على تنفيذ القوانين التي تسنها السلطة التشريعية كلما التأمت، وخلافًا للسلطة التشريعية ثانيًا، والسلطة التشريعية هذه ليست سلطة مطلقة”، كما وضع أسسها جون لوك، في كتابه الشهير (في الحكم المدني). وبالضرورة هي فعل الإرادات الحرة وقبولها تداول السلطة وشكل الحكم بالتراضي لا بالقوة.

العالم المتقدم الذي نرنو إلى تحقيق أبسط أشكال توضّعاته المدنية والشرعية الدستورية، نفض عن نفسه غبار وركام حربين عالميتين، أوائل القرن العشرين، أودتا بالملايين، لكن الإقرار بضرورة وقف الموت الجزافي والانتقال إلى شرعية الوجود البشري الأول في الحياة، مترافقة مع ضرورة التغيير على مستوى صناع شرعيات العنف، حيث الكل خاسر؛ شكّل لحظتين: لحظة القطيعة مع العنف وشهوة الموت الماكر، ولحظة التغيير السياسي وضروراته الواجبة، تلك التي دشنت شرعية حقوق الإنسان وإرساء مفهوم المواطنة، وكانت المدخل العريض لمنظومات الفكر ومرتكزاته الأخلاقية بالبحث عن مقومات رفض لشرعية الحرب، شرعية العنف، شرعية الاستيلاء والاستحواذ بالقوة القهرية والتسلطية. فجورج لوكاش ذهب إلى “تحطيم العقل” مُصنّع آلة الدمار والقتل البشري، والوجوديون أعلوا من حرية الفرد في وجوده الحر والإنساني، الفكرة التي أضفت على الماركسية سمةً إنسانيةً طالما افتقدتها، أمام صرامة ووضعية و”شرعية قوانينها الثورية” في الحكم.. فريق آخر ذهب إلى تحديث الفن والأدب والشعر والخروج عن قفص التقييد والتقنين، وفك أسر روح الإنسان المقيد. ولم يتوقف الفكر البشري عند حدود، ولكونه فكرًا فسيبقى مولدًا للصورة عبر بعده التأملي، فقد ذهب الكثير إلى نقد العنف والآليات المولدة له، لتهدم “حنة آرنت” أسطورة هيمنة الفكر الاوحد المنغلق وحكم الطغمة الفردية في المنظومات النازية والبلشفية، بنقدها الاستبداد الكلي في “أسس التوتاليتاريا”، ويورغن هابرماس ومفكري الحداثة في إضفاء القيمة المعرفية والأخلاقية على عصر التقنية والعولمة الحاكم في شؤون البشر بطريقة وضعية آلية، تكاد تلغي كل الروح الإنسانية المنبعثة، بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

يكثر التحليل السياسي في نقد ارتهان السوريين، كل السوريين، معارضة وموالاة لدول الخارج وتبعيتها، وهذا قول حق في السياسة بات واضحًا، وأقرب مثال عليه اتفاق الغوطة اليوم، حيث الضامن فيه روسيا، دولة القوة العسكرية المفرطة التي تُضفي على شرعيتها العسكرية “شرعية” سياسية مرة وضامنة مرة أخرى، وقبله الجنوب وقبله أستانا، وقبله وقبله… ويذهب التحليل السياسي إلى البحث ونقد هذه النفعية السياسية المفرطة في التخلي عن الوطنية! الوطنية التي باتت خطاب استجداء، عند بعض رموز المعارضة السورية، عندما يدعو إليها سياسي كجورج صبرا! بينما هي مفاعيل عمل وإرادات بشر وخروج من شرنقة الأيديولوجيات لمساحة الوطن، خروج من هيمنة وتغوّل “أدلوجة” الحزب وشرعيته وأحقيته وانتصاره بالضرورة، وأما خلافه فعلى باطل وجب هدمه أو سحقه أو تهجيره، وهذا واقع متعين على الأرض، وللأسف بالفكر الاستجدائي المنقصف على ذاته والمغلق في مساحة رؤيته.

إن الخروج من وعي أيديولوجي مُهيمن يعتمد منظومة الكليات الجزافية، دينية مطلقة كانت، أو أيديولوجية سياسية متساقطة، سواء كانت ماركسية طبقية أو قومية عصبية، مشبعة بروح النزعة الفردية للسيطرة والهيمنة بقوة الإكراه وفرض الإرادة على مجريات الواقع، وحل البشر في نموذج نسقي أوحد، كما فعلت البعثية والناصرية قبلها، والماركسية المبسترة كوصفة جاهزة للحكم والعبثية، هذا الخروج هو: أولًا هدم الشرعيات المولدة للعنف وحدّها وكسر هيمنتها. وثانيًا هو الاقتراب من كلية الوطن ومفهوم الأمة تعينًا. وثالثًا هو العمل بأفق المستقبل في العقد الاجتماعي الممكن، انتصارًا لأرواح الضحايا. ورابعًا، وهو المهم والأهم، تفويت الفرصة على كل الدول الإقليمية الباحثة عن موطئ قدم لها في سورية، عبر بوابات ضيق الأفق في هكذا شرعيات، تهدم الوطنية السورية.

ما حققته الثورة بزخمها الأول تذروه اليوم الشرعيات الفضة؛ فالروح الكامنة في الثقافات الشرقية، تلك التي بحث عنها ماركوز وفانون وهيرمان هيسه وغارودي وتشومسكي وهابرماس وغيرهم، لكسر هيمنة العولمة عالميًا ونظام قطبيتها الأوحد في نمطية إنتاجية مادية ذات شرعية مهيمنة، حيث بات “التقدم العلمي–التقني ذاته قد تحول إلى أساس للشرعية”، كما يصفها هابرماس في كتابه (العلم والتقنية كأيديولوجيا)، هي التي تحققت بفعل الثورات واقعيًا، بروحها التفاعلية والتواصلية المشبعة بالحياة. لكن، والاستدراك تعسف أو يقظة! ولمكر في تاريخ “الشرعيات” ورغبويتها المتخارجة مع تاريخ تشكيل الأمم والدول، فردية كانت أم جماعية، سياسية حزبية أو طغمة عسكرية؛ فقد قوضت كل فعل تحرري أنتجته الثورة والثورات، كانت تصبو إلى تحقيقه في شكل حقوق عامة للأفراد والبشر، تحل معها مشكلة النظم الشاملة والسياسية والهيمنة العسكرية أو الدينية.

فالوطنية هي شرعية الوطن، لا شرعية تجزئته وتفتيت عراه، هي شرعية كلية الأمة التي تستلزم توافق الإرادات الحرة على ضرورة التغيير ونفي العنف، دون استجداء أو استعطاء، فالوطنية ذاتها موضوعة عمل وهدف ثورة وشرعية عامة بذاتها.




المصدر