نهاية برنامج وكالة المخابرات المركزية الأميركية في سورية: الأسباب والتداعيات


الغد

يوم 19 تموز (يوليو)، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن وكالة المخابرات المركزية أوقفت دعمها السري للثوار الذين يقاتلون حكومة الرئيس السوري بشار الأسد. وكان البرنامج، الذي بدأ قبل أربع سنوات، قد دعم قوات تابعة للجيش السوري الحر الذي تعتبره حكومة الولايات المتحدة معتدلاً سياسياً –بمعنى، غير إسلامي. وقد استفاد من البرنامج نحو 20.000 مقاتل، بمن فيهم مقاتلون من مجموعات مثل “الفرقة 13″ و”كتيبة حمزة” في شمال غرب سورية وجنوبها، و”أسود الشرق” في جنوب غربها. ولكن، وعلى الرغم من كلفة البرنامج التي وصلت إلى مئات الملايين من الدولارات كل عام، فإن تأثيراته في قدرة الثوار على القتال وإسقاط الحكومة كانت محدودة. وبذلك، يشكل إنهاء البرنامج تسليماً براغماتياً للواقع العسكري، وربما قراراً اتخذته الولايات المتحدة بالتخلي عن سورية لروسيا أيضاً. ومع ذلك، ربما يكون التداعي الأكثر أهمية لهذه الخطوة، هو خسارة واشنطن مصداقيتها في أعين وكلائها في الشرق الأوسط.
معزولة وغير فعّالة:
بدأ برنامج وكالة المخابرات المركزية الأميركية رسمياً في حزيران (يونيو) 2013، ولو أن الولايات المتحدة كانت تقدم الدعم سراً للثوار السوريين منذ العام 2012. وكان الهدف من البرنامج هو تمكين الجيش السوري الحر في مقابل الفصائل الإسلامية، وخاصة “جبهة النصرة”، الفرع السوري من تنظيم القاعدة الذي أصبح معروفاً الآن باسم “هيئة تحرير الشام”. وكان كل من الرئيس الأميركي باراك أوباما وقادة الكونغرس مقتنعين بتمويل برنامج وكالة المخابرات المركزية بعد نشر عدة تقارير تُثبت استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية. ووفق شروط البرنامج، زودت الولايات المتحدة مجموعات الثور المعتمدة بعد التدقيق بالأسلحة الخفيفة، والتدريب العسكري، والرواتب، وفي بعض الأحيان بصواريخ “تاو” المضادة للدبابات. ومع ذلك، رفضت واشنطن دائماً تزويدهم بأسلحة أثقل، مثل صواريخ أرض-جو، خشية أن تقع هذه الأسلحة في أيدي مجموعات مثل “هيئة تحرير الشام”. (عادة ما قاتل المعتدلون في الجيش السوري الحر إلى جانب “هيئة تحرير الشام” ومجموعات متطرفة أخرى مثل “أحرار الشام”، ولم يتردد الإسلاميون في شراء الأسلحة أو الاستيلاء عليها من الجيش السوري الحر).
في الأصل، دعم برنامج وكالة المخابرات المركزية الثوار الذين يقاتلون نظام الأسد في الجبهة الشمالية للحرب الأهلية (بما في ذلك محافظات حلب، وإدلب، واللاذقية، وحماة)، والجبهة الوسطى (حمص)، والجبهة الجنوبية (محافظات دمشق، والقنيطرة، والسويداء، ودرعا). لكن التطورات في السنوات الأخيرة من الحرب، خاصة انشقاق الأردن وتركيا عن التحالف المناهض للأسد، جعلت هؤلاء الثوار يصبحون أكثر عزلة وأقل فعالية باطراد.
على الجبهة الجنوبية –وهي واحدة من التهديدات الرئيسية للثوار الذين تدعمهم الولايات المتحدة بسبب بعض التواجد الإسلامي الضعيف هناك- فشلت محاولات الثوار للاستيلاء على دمشق، وكذلك فعلت محاولاتهم الأكثر تواضعاً للاستيلاء على مدينتي درعا والسويداء. وقد تجمد القتال على هذه الجبهة منذ بداية التدخل الروسي في أيلول (سبتمبر) 2015، عندما اتفقت روسيا والأردن وحكومة الأسد على وقف لإطلاق النار في محافظة درعا. وقد أغلق الأردن حدوده أمام مرور التعزيزات للثوار وأعطاهم الأوامر بالتوقف عن مواجهة الجيش السوري. وإذا أرادوا استلام الرواتب والأسلحة والحماية ضد الإسلاميين، فإن على الثوار الطاعة. وكان وزير الخارجية الأميركية في ذلك الحين جون كيري، سعيداً رسمياً بالتعاون الأردني-الروسي، ولكن لم يكن لديه خيار في واقع الأمر –فقد أراد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني منع الروس من قصف المناطق التي يسيطر عليها الثوار بكثافة في محافظة درعا الواقعة على الحدود الأردنية السورية، والذي كان من شأنه أن يتسبب بتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى بلده. كما خشيت عمَان أيضاً أن تؤدي الفوضى في جنوب سورية إلى تمكين المتطرفين وجعل الأردن عرضة للضربات الإرهابية. ونتيجة لذلك الاتفاق، اقتصر عمل الثوار المعتدلين في الجنوب على محاربة “داعش” و”هيئة تحرير الشام”.
كما أن تركيا أيضاً –التي كانت في الأساس حليفاً في القتال ضد الأسد- غيَّرت أهدافها منذ تقاربها مع روسيا في آب (أغسطس) 2016، لتتحول من الإطاحة بالنظام السوري إلى منع أكراد حزب الاتحاد الديمقراطي من ترسيخ سيطرتهم في الأراضي السورية الممتدة من عفرين في شمال غرب البلد إلى نهر دجلة، وهي منطقة تشمل نحو 500 ميل من الحدود التركية-السورية. وفي مقابل الإذن الروسي لها بالتدخل في منطقة الباب في شمال شرق سورية، بحيث تقطع التواصل الإقليمي للمناطق الكردية، سحبت تركيا دعمها لمجموعات الثوار التي تقاتل في شرق حلب في أواخر العام 2016، مما عجل بهزيمتها على يد الجيش السوري. واليوم، تدعم تركيا اقتراحات وقف إطلاق النار الروسية الإيرانية فيما تدعى “عملية أستانة”. وقد تم تشجيع الثوار الذين تدعمهم تركيا، مثل “أحرار الشام” على مواجهة “هيئة تحرير الشام” في محافظة إدلب، لكنهم لم يعودوا يقاتلون الأسد. وقد قررت أنقرة أنها تحتاج إلى دولة سورية مستقرة –أو مركزية على الأقل- للحد من نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي على حدودها الجنوبية. ونتيجة لذلك، أصبحت الولايات المتحدة تقدم النصر للأسد وحلفائه.
الآن، أصبحت الجبهة الوحيدة التي ما يزال الثوار الذين تدعمهم الولايات المتحدة ينشطون فيها هي تلك التي في منطقة التنف، في جنوب شرق سورية. وكانت المجموعات التي تعمل هناك، المعروفة بأسماء “أسود الشرق” و”الكوماندوز الثوري” (الجيش السوري الجديد سابقاً)، في وضع جيد لتهديد كل من دمشق ومنطقة القلمون المهمة استراتيجياً، في الجبال بالقرب من الحدود السورية-اللبنانية. وفي ربيع هذا العام، استغل هؤلاء الثوار انسحاب “داعش” من الصحراء السورية الجنوبية بين الأردن وتدمر ليستولوا على مناطق شاسعة بين التنف والقلمون. لكن هجوماً معاكساً شنه الجيش السوري والميليشيات الشيعية العراقية سرعان ما حاصر هذه المجموعات في التنف، حيث تحميهم القوات الخاصة الأميركية، لكنهم لم يعودوا يشكلون تهديداً للنظام. والآن، تريد الولايات المتحدة أن تنقلهم إلى شمال شرق سورية لمحاربة “داعش”، لكن معظمهم رفضوا ذلك. وهم لا ينطوون على حافز كبير للقتال.
الانسحاب:
من دون تعاون الأردن وتركيا، كان لتأثير دعم وكالة المخابرات المركزية الأميركية القليل من التأثير. وكان الهجوم الرئيسي الأخير الذي شنه الثوار المدعومون من الولايات المتحدة هو هجومهم على دمشق في صيف العام 2013 –قبل أربع سنوات من الآن. ومنذ ذلك الحين، تمكنت المجموعات الإسلامية –الواثقة من نفسها أيديولوجياً، والمتمتعة بدعم أكبر بين السكان المحليين وبدعم من دول الخليج وتركيا- من تجاوز الثوار المعتدلين باعتبارها القوات الأكثر فعالية بين المناهضين للنظام. وفي شمال سورية، قضى “داعش” و”هيئة تحرير الشام” على الثوار المدعومين من الولايات المتحدة. وفي الجنوب، لم يشارك المعتدلون في الهجمات الأخيرة التي شنتها مجموعة “هيئة تحرير الشام” للاستيلاء على درعا. وحول دمشق، لم تعد هناك أي مقاومة سوى في منطقة الغوطة الشرقية، والتي من المرجح أن تسقط بدورها في الأشهر القادمة. وتحت هذه الظروف، كان دعم واشنطن للمجموعات المناهضة للنظام عبثاً لا طائل تحته. ولن يقلب إنهاؤها برنامج تمويلها ميزان القوى في سورية. لكنه سيساعد مع ذلك في إضعاف معنويات الثورة ويعجِّل انهيارها. وقد تم التخلي الآن حتى عن خيار القتال منخفض الكثافة ضد النظام السوري، في حين تجاوزت المجموعات الإسلامية نظيرتها المعتدلة لتكون أكثر القوى فعالية في محاربة النظام.
الآن، أصبح بوسع الجيش السوري أن يحوِّل انتباهه إلى مجموعات الثوار التي ما تزال تقاومه في غرب سورية –ومعظمها إسلامية، مثل “هيئة تحرير الشام” أو “جيش الإسلام” الذي تدعمه السعودية. وهذا ما يحدث الآن في درعا والغوطة الشرقية. فقد تم إعلان المنطقتين مناطق خفض للتصعيد في إطار عملية أستانة، وهو ما يجب أن يعني احترام الجيش السوري ومجموعات الثوار اتفاقاً لوقف إطلاق النار. لكن الجيش السوري لا يهتم بذلك من الناحية العملية. وهو يغتنم كل فرصة لزيادة ميزته، خاصة بعد التأثير الكارثي الذي أحدثه الإعلان الأميركي على معنويات الثوار. وقد أصبح الثوار يشعرون الآن بالضعف والتعرض للخيانة. وفي واقع الأمر، يشبه تأثير هذا الإعلان تماماً تأثير سقوط حلب في وقت متأخر من العام الماضي، والذي دفع العديد من المجموعات حول دمشق إلى البحث عن إبرام اتفاق مع النظام السوري. وقد أخلت الكثير منها مواقعها وانسحبت في اتجاه مدينة إدلب التي يسيطر عليها الثوار؛ واختارت أخرى الاستفادة من العفو الذي قدمه النظام وانضمت إلى قواته الأمنية. كما انضم جزء صغير من الثوار إلى المجموعات المتطرفة، مثل “هيئة تحرير الشام”، على الرغم من أنهم لا يتقاسمون مع المجموعة أيديولوجيتها ولا رغبتها في القتال.
فوز لبوتين:
بقطع الدعم عن الثوار الذين يقاتلون الأسد، أظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن تغيير النظام لم يعد هدف الولايات المتحدة في سورية. ولأن الإعلان جاء بعد اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين، فسره البعض في الولايات المتحدة بأنه تنازل رئيسي لروسيا. لكنه لم يكن كذلك: فقد أصبحت واشنطن تعتمد الآن على روسيا لكبح النفوذ الإيراني في سورية، بما أنها لم تعد تستطيع أن تفعل ذلك مباشرة. ومن منظورها، يبقى وجود القوات الروسية في جنوب سورية أفضل من وجود قوات حزب الله وقوات الحرس الثوري الإيراني –وهو موقف تشاركه فيها إسرائيل. وبالنسبة لكل من واشنطن وتل أبيب، يُعتبر نشر قوات روسية لفرض وقف إطلاق نار في هذه المنطقة أقل الشرور، ولو أنه واحد يجب تأمينه بتقديم التنازلات لفائدة مصالح روسيا.
ولكن، حتى لو أن دعم الثوار لم يعد ينطوي على معنى استراتيجي، فإن التخلي عنهم، بينما ما تزال ذكرى الانسحاب الأميركي من العراق ماثلة في أذهان شركائها، يضع سابقة سيئة أخرى لنهج الولايات المتحدة أمام حلفائها في المنطقة. والآن، أصبح بوسع النظام السوري أن يستعيد السيطرة على محافظة دير الزور في شرق البلد (التي يحتلها “داعش” الآن) دون خوف من التعرض لهجمات يشنها الثوار في أماكن أخرى من البلاد. وبسماحها بحدوث ذلك، تتخلى الولايات المتحدة عن السيطرة على الحدود العراقية السورية، وتتيح للإيرانيين إمكانية تكوين جسرهم الذي طال انتظاره من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط عن طريق العراق وسورية ولبنان. وتقف القوى العربية السنية الموالية لأميركا في موقف ضعيف يمنعها من إحباط مثل هذا النتيجة، في حين أن قوات سورية الديمقراطية –الجماعات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي والتي تدعمها واشنطن في القتال ضد “داعش” في شمال شرق سورية- ليست لديها الرغبة في محاربة النظام، ولا بالاحتفاظ بالكثير من الأراضي خارج المناطق الكردية.
وأخيراً، فإن قوات سورية الديمقراطية، التي يتمثل عدوها الرئيسي في تركيا، تعرف الآن أن دعم الولايات المتحدة ليها ليس مضموناً. ويجب أن يكون مخططو قوات سورية الديمقراطية بصدد سؤال أنفسهم عما سيحدث عندما تسقط الرقة ويتم القضاء على تنظيم “داعش” هناك. وسوف يشهدون، على الأرجح، اختفاء دعم الولايات المتحدة عندما تفقد قوات سورية الديمقراطية فائدتها وتصبح مصدراً للأزمة مع تركيا، التي ربما تحتاج واشنطن تعاونها لضبط التوسع الإيراني في المنطقة. وسوف يشجع ذلك قوات سورية الديمقراطية على التحرك أقرب إلى روسيا التي دعمت باستمرار حلفاءها في المنطقة، ويمكنها أن تحمي قوات سورية الديمقراطية من تركيا.
في واقع الأمر، تقدم الولايات المتحدة النصر للأسد وحلفائه. وسوف يتم تخصيص ما تبقى من هذا العام لعودة الجيش السوري إلى شرق سورية، بينما يغلب أن يشهد العام 2018 تدمير كل جيوب الثوار المتبقية في الغرب –حتى تلك الموجودة فيما تدعى مناطق خفض التصعيد. وبالنسبة للرقة، لن يكون أمام قوات سورية الديمقراطية خيار سوى التخلي عن المدينة للأسد في مقابل حكم الأكراد الذاتي غير الرسمي في كانتوناتهم.
يبدو أن بوتين هو الكاسب الوحيد في سورية. فقد استعاد القوة الروسية في الخارج بكلفة بشرية ومالية رخيصة نسبياً، وجعل بلده مرة أخرى لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط. وفي الأثناء، سوف تأمل الولايات المتحدة في رؤية المشكلات وهي تنشأ في داخل معسكر التحالف الروسي-الإيراني في سورية. وربما تظل وقتاً طويلاً في الانتظار. فعلى العكس من إيران، ليست لدى روسيا الرغبة في إفساد علاقاتها مع إسرائيل. ومع ذلك، تتقاسم موسكو مع طهران مصلحة مناهضة للسعودية. ويريد بوتين استيعاب الرياض التي تشكل الآن المنظم العالمي لأسعار النفط، بالإضافة إلى كونها الداعم المالي للمجموعات الإسلامية التي تحدت القوة الروسية في الشيشان، في حين تتمتع إيران من جهتها بما يكفي من الذكاء لتعتصم بالصبر الآن بعد أن حققت ميزة في لعبة شطرنج الشرق الأوسط الطويلة. وسوف يكون الفائزون هم أولئك الذين لديهم استراتيجية ثابتة وطويلة الأمد والقدرة على تأمين التعاون من الوكلاء المحليين وشركائهم الإقليميين. وبهذا المعنى، تكون الولايات المتحدة قد اتخذت خطوة كبيرة إلى الوراء.

(*) كاتب فرنسي




المصدر