حق تقرير المصير!


حبيب عيسى

(1)

نحن -هنا- من الناحية القانونية أمام (حق)؛ وهذا يقودنا إلى تحديد صاحب هذا الحق ابتداء، لأن أي خطأ في تحديد صاحب الحق يعني أننا أصبحنا في مواجهة عدوان على الحق، وعلى قرار المصير، في الوقت ذاته.

وإذا انطلقنا من حق الإنسان الفرد في تقرير مصيره؛ فإن للإنسان هذا الحق فعلًا، وقانونًا، لكنه في الأحوال جميعها، بما أن الإنسان الفرد غير موجود إلا في إطار الجماعة؛ فإن هذا الحق ليس مطلقًا، وإنما هو مُحدّد بإطار اجتماعي وقانوني، وإن هذه الحدود هي القول الفصل بين الحق والعدوان، فللإنسان الفرد حق تقرير مصيره في إطار الجماعة (لا يتجاوز حدوده) بالعدوان عليها، وللجماعة حق تقرير مصيرها بما يحفظ حق أفرادها، ولا تتجاوز حدودها بالعدوان عليهم. وهذه القضية ما تزال تشغل الفقه القانوني، والسياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والفلسفي، والفني، وستبقى تشغله في المستقبل، (ذلك أن حاجات الإنسان تتجدد باستمرار) (1)؛ وبالتالي تتجدّد الحاجات إلى حدود جديدة بين ما هو حق للفرد، وما هو حق للمجتمع، وتبقى شرعية (القاعدة القانونية) مرهونة بكيفية تحديد خط تلك الحدود، بحيث لا يطغى حق على آخر بالعدوان، مما يؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي بما يترتب عليه من نتائج.

هكذا، وعبر التاريخ البشري كان هذا المبدأ محترمًا إلى هذا الحد، أو ذاك، أو مُنتهكًا، وعبر تطور التاريخ البشري من الأسرة، إلى العشيرة، إلى القبيلة، إلى المدينة، إلى الشعوب، إلى الأمم، إلى الدول المعاصرة، كان هناك من يطمع في أن يمتلك حق تقرير مصير الغير، بالسيطرة عليهم، وفي المقابل كان هناك من يطمح إلى تحرير إرادته، وتقرير مصيره على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، والصراع ما زال مفتوحًا.

ما يعنينا في هذا الحديث أن “حق تقرير المصير” مرهون بالطور الاجتماعي التاريخي المشترك للمجموعات البشرية، ففي ظل القبيلة لا يوجد حق لأسرة منها أن تقرر مصيرها بمفردها بعيدًا عن حق القبيلة. وهكذا عندما نصبح في مواجهة أمة فإنه لا يوجد (حق) للجماعات الداخلة في تكوينها: أسرة، وقبائل، أو طوائف، أو أديان، أو أعراق، أو شعوب، أو أوضاع إقليمية.. إلخ، بتقرير مصيرها بما يُهدّد مصير الأمة التي تكونّت، إنها تقرر مصيرها في الحدود السياسية والاجتماعية التي يجب أن تكون محددة بقواعد قانونية تميّز بين الحق، فتحميه بالقوة، إذا اقتضى الأمر، وبين العدوان فتردعه بالإكراه، إذا اقتضى الأمر أيضًا.

وعلى الأساس ذاته ننطلق من حدود الأمة إلى الجماعات البشرية المنتشرة في أرجاء العالم، فليس لأمة أو لتكوين اجتماعي أو إقليمي أو قارّي، وليس لنظام سياسي، أو اقتصادي أن يقرر مصير الغير، أو أن يعتدي على حدود الغير، ليس لأمة، أو لدولة، كائنة ما كانت، أن تحدّد حدودها بالعدوان، أو الضم من الدول المجاورة، أو الأمم المجاورة بفرض سيادتها عليها، و”تقرير مصيرها”، كما أنه ليس لنظام ما -اقتصادي أو سياسي- أن يفرض الهيمنة على شعوب، وأمم، ودول أخرى، ليقرر مصير تلك الشعوب، والأمم، أو مصير ثرواتها.

( 2 )

هذا أول ما يتبادر إلى الذهن في مواجهة ذلك المصطلح (حق تقرير المصير)، أو حق الأمم في تقرير مصيرها، أو حق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن الأمر في الواقع ليس كذلك؛ فما زال أمام البشرية مشوار طويل من الكفاح للوصول إلى “حق تقرير المصير” على المستوى الداخلي للشعوب، والأمم، وعلى المستوى العالمي، فيما بين بعضها البعض.

لقد اختلف الفقه الدولي اختلافًا شديدًا، حول قيمة مبدأ “حق تقرير المصير”، وقد قيل إنه مجرد مبدأ سياسي، إذ تجاهلته دول الهيمنة في عصبة الأمم، على الرغم ممّا أبداه الرئيس الأميركي ويلسون من تعاطف مع هذا المبدأ، بعد الحرب العالمية الأولى، وقد ترجمته الدول الاستعمارية موضوعيًا باستخدام قوتها في فرض حقها في تقرير مصير المستعمرات، وبعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس هيئة الأمم المتحدة من قبل الحلفاء المنتصرين، فإن ميثاق الأمم المتحدة اكتفى بالإشارة إلى هذا المبدأ مرتين، إحداهما في الفقرة الثانية من المادة الأولى، وهي الخاصة بأهداف الأمم المتحدة، والتي تجعل تطوير العلاقات الدولية بين الأمم على أساس مبدأ المساواة في الحقوق، وتقرير المصير، حيث جاء النص: “إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضى بالمساواة في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها حق تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الملائمة لتعزير السلم العام”(2) .

والإشارة الأخرى وردت في مجال استعراض أسس التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي، حيث نصت المادة (55) على أنه: “رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الأمم مؤسسة تقوم على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، فتعمل الأمم المتحدة على:

آ- تحقيق مستوى أعلى للمعيشة، وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد، والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.

ب- تيسير الحلول للمشكلات الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.

ج- أن يسود في العالم احترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية بلا تمييز، بسبب الجنس، أو اللغة، أو الدين، وبلا تفريق بين الرجال والنساء، ومراعاة تلك الحقوق والحريات فعلًا”(3).

(3)

يقول الدكتور جعفر عبد السلام: “تتضمن قاعدة تقرير المصير حق الشعوب في أن تحدد بحرية، دون تدخل خارجي، نظامَها السياسي، وأن تواصل نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي”، ويُضيف: “ولا نريد الدخول في خلافات فقهية واسعة حول من يتقرر له الحق، وإن كان هناك من يعطيه للدول، فحسب، وكان هناك من يرى إتاحته لكل مجموعة تشكل أمة، وواضح أن التقنين هنا يُعطي الحق للشعب، وقد قررت لجنة مشكّلة من الأمم المتحدة للبحث في هذا الحق أن ما يعنيه الشعب هو نموذج بذاته من المجتمعات الإنسانية، تجمعه رغبة مشتركة في تشكيل كيان واحد قادر على العمل من أجل مستقبل مشترك..”، ثم يقول: “يتضح من هذا التعريف كذلك أن حق تقرير المصير هو حق جماعي، أي يمنح لمجموعات من الأفراد، ويختلف بذلك عن سائر حقوق الإنسان الأخرى التي تمنح للأفراد.. ولكنه مع ذلك يتصل بالأفراد ويستفيدون به في النهاية؛ لأن هذا الحق يترجم بالنسبة إلى الفرد بحق في أن يعترف للشعب الذي ينتمي إليه بأنه يملك الحق في تقرير وضعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لذا اعتبر أهم الحقوق التي يجب تحقيقها لنيل الحقوق الأخرى، والمفترض الأساس للتمتع بها جميعًا، ومن ثم وضع على رأس هذه الحقوق، والمفترض الرئيس لنيلها جميعًا”(4).

ليسمح لنا د. عبد السلام، في أننا لا نستطيع التقدم خطوة واحدة قبل أن ندخل في حوارات فقهية واسعة، حول من يتقرر له الحق في تحديد المصير، لا من أجل الاختلاف، وإنما من أجل أن نحدد “صاحب الحق”، ويكون معرّفًا ومعروفًا، وإلا فإن كل ما سنفعله بعد ذلك سيكون مجرد إقامة بناء على “مجاهيل ونكرات”، يستطيع من يشاء أن يدعيّها لنفسه، أو يدعيّها لغيره اغتصابًا وعدوانًا واستبدادًا، بخاصة أننا نتفق مع د. عبد السلام في أن حق تقرير المصير هو أساس للحقوق الأخرى؛ وبالتالي فإن أي إبهام أو خلط في تحديد “صاحب الحق” يعني أننا نشيد بناء يمكن استخدامه من الطرفين (للحق أو للباطل) وهذا ما فعلته دول الهيمنة التي أسست عصبة الأمم المتحدة، وتاليًا سلطات دول الحلفاء التي أسست هيئة الأمم المتحدة؛ وهذا ما جعل تلك الدول ترفع راية هذا الحق في تقرير المصير على كل ما فعلته، وتفعله استيلاءً، واستبدادًا، وتشويهًا لأمم الأرض وشعوبها.

(4)

المهم أن تاريخ المناداة بحق تقرير المصير، بصور مختلفة، يعود إلى تشكل الجماعات البشرية، حيث بدأ الصراع بين حق الجماعة في تقرير مصيرها، وبين الغزاة الذين يحاولون سلبها هذا الحق، ثم أصبح هذا الحق موضوعًا خلافيًا بين الفقهاء والفلاسفة والمفكرين، كل حسب موقعه وموقفه، ثم كان أحد المبادئ المهمة التي نادت بها الثورة الفرنسية، حيث أعلن زعماؤها عن استعدادهم لمساندة الشعوب المتطلعة لتحقيق حقها في تقرير المصير، وفي الأحوال كلها بقي هذا الحق مبدأ سياسيًا بعيدًا عن دائرة القانون الدولي العام، حتى الحرب العالمية الأولى!.

يقول د. أحمد محمد رفعت: “لقد أدت السياسات الاستعمارية التي مارستها الدول الأوروبية إلى اقصاء مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، عن دائرة القانون الدولي التقليدي، واختصت قواعد هذا القانون بمشكلة واحدة من المشكلات التي أثارها التوسع الاستعماري للدول الأوروبية، وهي توزيع الأقاليم المكتشفة أو الصالحة للاستعمار بين تلك الدول، واقتصرت وظيفته على تنظيم اكتساب السيادة على المستعمرات وتأكيدها لصالح الدول الاستعمارية. واتجهت جهود الحكومات، وانصرف الفقه في ذلك الوقت إلى استحداث المبادئ والنظريات التي تؤدي إلى إسباغ الشرعية والتكييف القانوني المناسب على مثل هذه النظم، واعتُبرت المستعمرة جزءًا من دولة الأصل، واعتبُرت إدارة المستعمرة من صميم أعمال السيادة الداخلية لدولة الأصل؛ ومن هنا فقد ظل مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بعيدًا عن دائرة القانون الدولي العام الذي أهمل شعوب هذه الأقاليم، ولم يجعل منها موضوعًا لحمايته؛ إذ لم يعترف لها بأهلية المتمتع بالحقوق، سواء أكان حق السيادة، أم حق الشخصية الدولية، أم حق التكامل الدولي، فهي في نظر القانون الدولي غير مخاطبة بأحكامه، وخارج نطاق القواعد الدولية”(5).

وعلى الرغم من أن المبدأ حظي بتأييد الرئيس الأميركي ويلسون، وتضمّنه إعلان السلام الصادر عن لينين عام 1916؛ فإن عهد عصبة الأمم “قد جاء خلوًا من النص على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، واكتفى عهد عصبة الأمم بإقامة نظام الانتداب، بوصفه نظامًا دوليًا لإدارة المستعمرات التي تم ترتيب اقتطاعها من الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى، وبصفة خاصة تركيا، أي أن المبدأ لم يُعترف به إلا في حدود عدم المساس بمصالح الدول المنتصرة”(6).

(5)

بعد الحرب العالمية الأولى، أبدت الدول الأوروبية اهتمامًا بمبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، (ولننتبه حدث ذلك فقط) عندما تضمنت معاهدات الصلح التي عُقدت بعد الحرب الأولى عددًا من النصوص التي تسلمّ بمنح بعض أقاليم القارة الأوروبية الحق في تقرير مصيرها. لكن الشك بقي قائمًا حول القيمة القانونية لهذا المبدأ، والوضع الذي يحتله كأحد مبادئ القانون الدولي الوضعية في فترة ما بين الحربين العالميتين، حيث عدّته دول الهيمنة (مبدأ قانونيًا استثنائيًا يُطبق في أضيق نطاق).

كان لا بد من سرد تلك الوقائع؛ لإزالة أي لبس في أن مبدأ “حق تقرير المصير” استُخدم من قبل الدول الاستعمارية، سواء من قبلها إفراديًا، أو نتيجة للمعاهدات فيما بينها، وبين بعضها البعض، أو كما عبروا عنه في المحافل التي أسموها “دولية”، مثل عصبة الأمم المتحدة، استُخدمت لخدمة مصالحهم، ومخططاتهم، وفي نطاق تلك الحدود لا أكثر من ذلك، ولا أقل. فحق تقرير المصير الذي كان في البدء نظرية مؤداها أن لكل (أمة) الحق في أن تكون لها دولة قومية، كما يقول د. عصمت سيف الدولة، فإنه “على مستوى القانون الدولي كان هناك ما يُسمى (حق الفتح)، وبمقتضاه تؤول ملكية الشعب المغلوب إلى الدولة الغالبة في الحروب الاستعمارية، وكان كل ذلك مشروعًا ومصدرًا للشرعية. حيث كان القانون الذي تصدره الدولة الغاصبة هو مصدر للشرعية في الأمم، والشعوب المُستعمرة”(7).

تقول د. عائشة راتب: “تعريف حق تقرير المصير، وتعميم أشكاله المختلفة، وترتيب النتائج القانونية اللازمة عليها يشكل أحد المشكلات الرئيسية التي تواجه علم القانون الدولي المعاصر، ويرجع ذلك إلى التعسف الذي صاحب استعمال هذا الحق في أعقاب مناداة الرئيس الأميركي ويلسون به، خلال الحرب العالمية الأولى، ومن الأمانة أن نقرّر هنا أن حق تقرير المصير قد ظهر وقتها كوسيلة سياسية، للحصول على مؤازرة هذه الشعوب ومساعدتها للدول المتحالفة”(8).

هوامش ومراجع:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) د. عصمت سيف الدولة – نظرية الثورة العربية – جدل الإنسان.

(2) د. احمد محمد رفعت – المحامون – العدد (6) عام 1987 دمشق، صفحة 703.

(3) المصدر السابق، صفحة 703

(4) المصدر السابق، صفحة 682.

(5) و (6) المصدر السابق، صفحة 702.

(7) و (8) د. عصمت سيف الدولة – نظرية الثورة العربية – الكتاب السابع، صفحة 118، 119




المصدر